مما وعته ذاكرتي من كتاب «القراءة والمطالعة» للمرحلة الابتدائية في ستينيات القرن الماضي، درس بعنوان «الحرية للمنفلوطي»، وكان هذا الدرس عبارة عن اقتباسات من كتابات الأديب الكبير «مصطفى لطفي المنفلوطي»، وقد غرس هذا الدرس في أعماق وعينا أهمية «الحرية» باعتبارها شرط الحياة الكريمة للأفراد والأمم. ولما كان عنوان الدرس «الحرية للمنفلوطي»، بوجود لام الملكية التي تسبق اسم المنفلوطي، كنا نُشاكِس أستاذ اللغة العربية الذي كان يشرح هذا الدرس فنقول: هل الحرية للمنفلوطي وحده؟!

وكان الأستاذ يستفيض في الشرح مُؤكدًا على أنها للجميع، وأن لام الملكية هنا تعني أن المنفلوطي هو الذي كتب هذا الكلام في الحرية، وأنه يفكر في إرسال رسالة لواضعي مقرر «القراءة والمطالعة» يقترح فيها حذف لام الملكية تجنبًا لهذا اللبس الذي كنا نشعر به.

ثم تبيّن لنا بمرور الزمن، أن المنفلوطي نفسه -الذي عاش في العهد الليبرالي وتنسّم هواء الحرية أيامها- كان يشكو نقص الحرية، وأنه كان ينعي غيابها ويصف الكوارث التي تقع بسبب هذا الغياب أو النقص.

والحق أن «سؤالَ الحرية» واحدٌ من الأسئلة الكبيرة في تاريخ الاجتماع الإنساني بعامة، وفي تاريخ الاجتماع الإسلامي وعمرانه بخاصة. هو سؤالٌ كبير في معانيه، وكبير في نتائجه ومراميه. كبير في أصولِه، وكثيف في فروعه. هو سؤال كبيرٌ؛ لكون وجود الحرية شرط وجود الإنسان العمران معًا. وهو كبيرٌ؛ لكون غياب الحرية ينجم عنه سلبيات وخيمة، وأضرار جسيمة تُلحِق الأذى بروح الإنسان، وتتهددُ أصولَ العمران في ذات الآن.

ولما كان هذا شأن «الحرية»، أَكثرَ القولَ فيها علماءُ كل حضارةٍ وفلاسفتُها ومصلحوها وحكماؤها قديمًا وحديثًا، وألّفوا فيها الأسفار، واختصّوها بأبكار الأفكار، وعبّروا عنها بأساليبَ متنوعة، وجعلوها من أوجب ما يجب معرفته والتعريف به، ومن أعظم ما يتعين فهمه والتنشئة عليه، وأسمى ما يجبُ التطلع إليه، وأثمن ما يستحق المحافظة عليه والدفاع عنه.

ما أدافع عنه في هذه المقالات التي أخصّصها لموضوع الحرية هو: أنَّ سؤالَ الحرية سؤالٌ أصيل في متن الاجتماع الإسلامي، وفي مرجعياته المعرفية وحقوله العلمية، وليس سؤالًا طارئًا مع ما وفد إلى بلادنا من أفكار أوروبية أو سلع أمريكية. كما أنه ليس سؤالًا هامشيًا أو طرفيًا أو ثانويًا في ثقافتنا العربية الإسلامية. هو سؤالٌ مركزي ومتغلغل في مختلف جوانب الحياة في ظلال الاجتماع الإسلامي، والإجابةُ عليه تنبعُ أصولها من المصادر العالية للمرجعية المعرفية لهذا الاجتماع، وتتفرع أغصانها وتتشابك مع مختلف العلوم التي تشمل: أصول الدين وعلم الكلام، وعلم الفقه وأصوله، وعلم مقاصد الشريعة، وعلوم التصوف، ناهيك عن علوم اللغة وآدابها، والشعر وفنونه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى -ليس هنا موضع التفصيل فيها وأرُجئه لمناسبة أخرى إن شاء الله- فإن الممارسات الواقعية التاريخية هي التي حددت، ولا تزال تحدد إلى اليوم، مستوى الحريات المتحقق بالفعل في حياة الأفراد وفي حياة الأمة بجماعاتها وبمجموعها. وعندما تحين الفرصة التي تسمح بتناول سؤال الحرية على هذا المستوى التطبيقي ضمن معطيات اجتماعية وسياسية وتاريخية محددة، فسوف يكون من الضروري طرح كل ما نقدمه هنا من أطروحات نظرية أو تأصيلية طرحًا نقديًا، مع ربط المسألة برمتها بموضوع الملكية والعدالة الاجتماعية من ناحية، وبتوافر مؤسسات فعالة لحماية الحرية وصونها عندما تتعرض للاعتداء أو الانتهاك.

لا يجادل اثنان، ولا يختلف خصمان، في أن البشريةَ لم تفتأْ -منذ أقدم العصور إلى وقتِنا الحاضر- تبحث عن «الحرية»، وتتلمّس طريقَها إليها، وبذلت في هذا الطريق التضحيات الجسام. وتفاوتت معاني «الحرية»، واختلفت مسائلُها، وتنوعت صور التعبير عنها من حضارة لأخرى. أمّا القول بأن للحرية معنى وحيدًا، أو رسمًا واحدًا، أو أن لها مرجعية معرفية واحدة وطريقًا واحدًا، أو أنها تمشي بخطوات منتظمة صوب «العالمية»، كما تدَّعي الحضارة الغربية؛ فهو قول يناقض حقائق التاريخ، ويجافي تجارب الشعوب والأمم.

ولا يعني تعددُ المرجعيات المعرفيةِ «للحرية» واختلافها من حضارة لأخرى، أنه لا توجد قواسم مشتركة فيما بينها، أو أنه يمتنع تبادلُ بعض الأفكار وبعض الخبرات فيما بين شعوب الحضارات المختلفة؛ فهذا وذاك حاصل في سياق علاقات التأثير والتأثر التي لا تتوقف. ولكن يبقى أن لكلِّ حضارة مرجعيتها المعرفية الخاصة التي يتحدد في ضوئها معنى الحريةِ، وترتسم في نورها صور التعبير عنها وأساليب ممارستها التي تضفي عليها طابعًا خاصًا، ولا يمكن طمس هذا الطابع الخاص للحرية في سياق حضاري ما، مهما اتسعت مساحة القواسم المشتركة بين معناها في هذا السياق، ومعناها في سياقٍ حضاري آخر.

وعليه؛ إذا كان البحثُ عن الحرية والسعي إليها يعتبر قاسمًا إنسانيًا مشتركًا، فإن مصادر المبحث المعرفي الذي يخص «الحرية» في ذاتها، قد تختلفُ من حضارة إلى أخرى، وتتجلى هذه الاختلافات بوضوح بدءًا من: اللغة، ومرورًا بالفلسفة، والعقيدة الدينية، والقانون، ووصولًا إلى الفنون والآداب والشعر. وعلماء اللغة يقولون:

إنَّ اختلافَ العبارات والأسماء يُوجِب اختلاف المعاني في كل لغة.

وللفكر تأثيرٌ في اللغة، كما أن للغةِ تأثيرًا في الفكر، ولهذا سنبدأ بإلقاء نظرة على معنى الحرية في لغة العرب، ثم نوالي النظرَ في بقية المصادر.

يظهرُ -باديَ الرأي- أن مفهوم الحرية في الثقافة الإسلامية له حمولة ذهنية سلبية؛ إمّا لجهة نفي العبودية، وهو ما يشير إليه معناها في معاجم اللغة وقواميسها. وإمّا لجهة أنها تثير الفتنة وتُقوِّض الأمن والاستقرار، وهو ما دأب خطاب السلطة قديمًا وحديثًا على ترديده كلما ارتفع صوت يطالب بالحرية وفتح ذرائعها.

ولما كانت «الفتنة» حالة ممقوتة؛ فقد دأب السلاطين قديمًا على التحذير من عواقبها الوخيمة، كما دأب علماء السلاطين وأدباؤهم وفنانوهم ومثقفوهم على تسويغ التضحية بالحرية اتقاءً للفتنة وشرورها، وتجنبًا للفوضى وعدم الاستقرار، وصونًا لوحدة الأمة في مواجهة الأخطار؛ وأضافوا إلى هذا كله في العصر الحديث: أن الحرية ترف، لا تتحمله ظروف المواجهة مع «العدو» الخارجي حينًا؛ من أجل تحرير فلسطين مثلًا، ومع العدو الداخلي أحيانًا، من أجل تأمين لقمة العيش دومًا!

منْ يبحثُ في معاجم اللغة العربية وقواميسها، يتبيّن له أن لفظ «حر» يشير إلى منْ ليس بـ «عبدٍ»، أو ليس بـ «رقيق»؛ فالحُرُّ نقيض العبد، والحرة نقيض الأَمةِ. وقالوا: إن العربَ كانوا إذا أعتقوا عبدًا، باعوا ولاءَه، ووهبوه وتناقلوه تَناقُلَ المِلكِ، وقال شاعرهم:

فباعوه عبدًا ثم باعوه معتقًا *** فليس له حتى المماتِ خلاصٌ

ورغم أن مفهوم الحرية له تلك الظلال التي يعتبرها البعض سلبية في اللغة وفي الاستعمال؛ إلا أن الوقوف عند هذه الظلال السلبية والاكتفاء بها وحدها في فهم معنى الحرية في الثقافة العربية الإسلامية، دون الالتفات إلى بقية المعاني الواردة أيضًا في معاجم اللغة وقواميسها؛ هذا الوقوف يأخذُ صاحبه -لا محالة- إلى تحديد مفهوم الحرية تحديدًا ضيقًا وشكليًا، وهو تحديد غير مُطابِق لما لهذا اللفظ من دلالات أوسع في الاستعمال اللغوي، وفي اصطلاح العلماء.

ففي الدلالات اللغوية لكلمة «الحرية»، يشير لسان العرب -مثلًا- إلى أن مادة «حرر» وردت بمعانٍ كثيرة، ولم ترِد بمعنى واحد، أو بعددٍ محدود من المعاني، أي أنها لا تعني «ضد العبودية» وحسب.

قال الكِسائي: «حَررتَ، تَحرُّ، من الحُرية لا غير»، وقال ابن الأعرابي: «حرَّ، يحرُّ، حرارا إذا عتق، وحرَّ، يحرُّ حرية، من حرية الأصل، والحَرار بالفتح، مصدر من حرَّ يحرُّ إذا صار حرًا، والاسم الحُرية». و«الحُرُّ» هو الشيء البيِّن. والحُرُّ من الناس: أخيارهم وأفاضلهم. وحُريَّةُ العرب: أشرافهم. وطين حرٌ، لا رمل فيه، والحر ضد البرد، ويعني السخونةَ والعطش، قال الشاعر: «وحرَّ صدرُ الشيخِ حتى صَلَّا»: أي التهبت الحرارةُ في صدره. والحُرُّ الفعل الحسن. وتحرير الكتابة: إقامة حروفها وإصلاح السقط. وتحرير الرقبة عتقُها. والعسلُ الحر، الصافي غير المختلط بالسكر، وحر المال، ما اكتسبه صاحبه من الحلال.

وعند الواحدي، علي بن أحمد (توفي 468هـ/1075م) أنَّ لفظ حر مشتق من حَر، الذي هو ضد البرد؛ لأن الرجل الحر يمتلك كبرياء وأخلاقًا تبعثُه على طلب الأخلاق الحميدة، والعبدُ بخلاف ذلك.

وإلى جانب ذلك، وردت «الحرية» أيضًا في أشعار العربِ وكلامهم بمعانٍ كثيرة منها: النُّبل، والشجاعة، والمروءة، وعزة النفس، واستقلال الإرادة، والترفع عن الشهوات الدنيئة والأفعال الرديئة، وبمعنى العِفَّة، والكرم، والسخاء، قال سحيم بن عبد الحَسْحَاس:

إن كنتُ عبدًا فنفسي حرةٌ كرمًا *** أو أسودَ اللون إني أبيضُ الخُلقِ

وهذا يعني أن حصر معنى «الحر» لغةً في أنه «ضد العبد» ليس صحيحًا. ولم تُبقِ معاني «الحرية» في المستوى اللغوي وحده؛ وإنما انتقلت إلى المستوى الاصطلاحي، فالراغب الأصفهاني –مثلًا- في كتابه «المفردات في غريب القرآن» يُميِّزُ بين المعنى الشرعي والمعنى الأخلاقي للحرية: فالحر يقابل العبد يقول:

الحريةُ ضربان: الأول منْ لم يجرِ عليه حكم الشيءِ نحو: الحر بالحر. والثاني: منْ لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية.

وعرّفها «فخر الدين الرازي» بأنَّها «عفة غريزية للنفس»، فيقول:

النفسُ إمّا أن تكون تائقة بغريزتها إلى الأمور البدنية، وإمّا أن تكون غير تائقة؛ فالتي تكون تائقة هي الحرة، وإنما سمينا هذه الحالة بالحرية، لأن الحرية في اللغة تقال على ما يقابل العبودية، ومعلوم أن الشهوات شيء مستعبد.
فخر الدين الرازي، المباحث المشرقية، طبعة حيدر آباد 1343هــ، ج2/ص413.

وينتهي الرازيُّ إلى أنه: كلما كانت علاقة النفس البدنية أضعف، وعلاقتها العقلية أقوى؛ كانت أكثرَ حرية.

والصوفيةُ بدورهم قدموا تعريفات اصطلاحية متعددة للحرية تركز على «التخلص من شهوات الدنيا»، أو «الخروج عن رق الكائنات، وقطع جميع العلائق والأغيار» كما ينقل الجرجاني عن أهل الحقيقة. ويقول التهانوي في كتابه «كشاف اصطلاحات الفنون» (ص948)، إن الحرَّ، والحرية: «خلوص حكمي يظهر في الآدمي لانقطاع حق الغير عنه… والحريةُ عند السالكين (المتصوفة): انقطاعُ الخاطر مما سوى الله تعالى بالكلية».

واختار الشيخ «محمد الطاهر بن عاشور» تعريفَ الحرية بأحد معنيين، أحدهما ناشئ عن الآخر: المعنى الأول ضد العبودية، وهو أن يكون تصرف الشخص العاقل في شئونه بالأصالة تصرفًا غير متوقف على رضا أحد. والثاني هو تمكن الشخص من التصرف في نفسه وشئونه كما يشاء دون معارض، غيرَ وجل، ولا خائف من أحد (كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامية، طبعة تونس سنة 1366هـ، ص 139-143).

ومن هذا -ومما في حكمه في قواميس اللغة ومعاجمها القديمة والحديثة ودواوين الشعر ومطارحات العلماء- نلحظُ أن لفظَ «الحرية» مشتقٌ من جذرٍ لغوي له كل هذا الثراء في المعاني التي يشيرُ إليها، وله كل هذا التنوع الهائل الذي يشمل الظواهر الطبيعية والإنسانية والحيوانية؛ الأمر الذي يعني أن المعنى المحدد للفظ «الحرية» يُستفاد في كل مناسبةٍ منه وفقًا للدرجة والقدر الذي يكشف عنه السياق الوارد فيه، وموضعه في نص العبارة المقولة، ويبقى له قدر كبير من السعة والمرونة التي تمكننا من إنزال حكمه على ما يستجد عبر السنين والقرون، من تغيرات في أوضاع حريات الناس وعلاقاتهم ببعضهم، من أحرار وعبيد، وسادة وأرقاء، وأسرى وطلقاء، ومقيدين، ومطلقي السراح، ومكممي الأفواه، وناطقين ومعبرين عن أنفسهم دون ضغط أو إكراه.

وعلينا أن نلحظ أيضًا أنه: مع كل هذا الاتساع في المعنى، والمرونة في المفهوم، لم يرد في تلك المعاجم أو القواميس أو في الاصطلاح أن من معاني الحرية: التفلتَ من مكارم الأخلاق، أو أن يفعلَ الإنسانَ ما يروق له دون مراعاة لمعايير الخير والصلاح والحق الفضيلة، وليس دون المساس بحريات الآخرين وحسب؛ كما قد يُفهم من معنى الحرية في الرؤية الليبرالية في الحداثة الغربية.

وهذا الاتساعُ، وتلك المرونة التي تحملها معاني مادة «حرر» في جذرها اللغوي العربي؛ كلاهما مما يتطلبه اتساع المفاهيم الكبرى كمفهوم «الحرية» وشمولها؛ حتى تحيط بالتكوينات الاجتماعية في أحوالها المختلفة، وتستجيب لدواعي المصالح التي تستجد أو تواجه المفاسد التي تنشأ في سياق التطور الاجتماعي والحضاري. والقول في الحرية مسترسل، وله بقية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.