يتنزّلُ قولُ «لا إله إلا الله» في مركزِ أصول الدين، وفي قلب علم الكلام. وقول «لا إله إلا الله» هو: «كلمة التوحيد». وأصل معنى التوحيد هو: الاعتقادُ أنَّ الله واحد لا شريك له، وإثبات الوحدة لله تعالى في الذات والفعل في خلقِه الأكوانَ، وأنه وحده مرجع كل كون، ومنتهى كل قصد، ولا شريك له في وجوده، ولا شريك له في أفعاله، وأنه «ليس كمثله شيء وهو السميع العليم» (الشورى:11).

وقد أدركَ علماؤنا الأهمية المركزية لكلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، وكان إدراكهم هذا- في جانب منه- تعبيرًا عن وعيهم بأهميتها في تأصيل الحرية الإنسانية؛ إلى جانب وعيهم العميق بأن كلمة التوحيد هي أساس الإيمان ومرجع رؤية المؤمن للحياة والكون، ومنبع ابتناء حقوق الآدميين وواجباتهم، والحرية في القلب من تلك الحقوق والواجبات معًا باعتبارها ضمانًا لبقاء «نظام العالم» على الوجه الأفضل،  بحسب تعبير الشيخ حسن كافي الآقحصاري، والحرية كذلك هي لب «الحكمة» من خلق البشر ونزول الشريعة، وهي «القدرة على الاختيار» بحسب جلال الدين الرومي. ولهذا أولاها قدماء العلماء عنايتهم، ووضعوها في صلب مباحثهم الكلامية والأصولية، وتوسعوا في شرحها وبيان مضامينها.

ومن ذلك -مثلًا- أن الإمام الزركشي، محمد بن عبد الله بن بهادر (745هـ/ 1344م-794هـ/ 1393م) أفردَ رسالةً خاصة بعنوان: «معنى لا إله إلا الله»، وهي وإن كانت صغيرة الحجم، إلا أنها عميقة الغور، وتحتاج إلى دروس ومدارسات للإفادة منها.

ومما ورد فيها، ما قاله أهل المعاني: إن «لا إله إلا الله» فيها خاصيَّتان: الأولى أن جميع حروفها جوفية، للإشارة إلى الإتيان بها من خالص جوف الإنسان وهو القلب، لا من أطراف الشفتين مثلًا. والثانية أنه ليس فيها حرفٌ معجمٌ، بل جميعها متجرد؛ إشارة إلى أن المطلوبَ هو أن يتجرد قائلها عن كل معبود سوى الله. (الزركشي، معنى لا إله إلا الله، القاهرة: دار الاعتصام، 1405هـ/1985م، ص82 بتصرف يسير).

وفيما كتبه الزركشي وغيره من فطاحل أصول الدين وعلم الكلام فيما يتصل بمعاني الحرية؛ توجد ثروة هائلة تهتف بطلاب العلم النبهاء، والباحثين المجدِّين النجباء، أن يقرؤوها قراءة معاصرة، وأن يميطوا عنها لثام الألفاظ وحجبها، وأن يقربوها إلى مدارك أبناء الأمة وأذهانهم بثقافتهم المعاصرة.

وفي نظري أن كلمة التوحيد تكشفُ- ضمن ما تكشفُ- عن أصل أصول «الحرية» عبر عمليتين متكاملتين: الأولى عملية النفي والاعتراض، والثانية عملية الإثبات والامتثال.

أمّا عملية النفي والاعتراض؛ فالمقصد منها هو: نفي وجود إله من تلك الآلهة التي عرفها البشر في حياتهم وعلى طول تاريخهم سوى الله تعالى. ونفي تلك الآلهة- أيًا كانت صورها- يجب في عقيدة التوحيد أن يقومَ على حقائق وبراهين، لا على انطباعات وتهاويم، وإلى هذا أشار قول الحق، تبارك وتعالى، «ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه، إنه لا يفلح الكافرون» (المؤمنون:117).

ومن أجلى الحقائق عجزُ تلك الآلهة وجهلها وانعدام إرادتها، وهي حقائق يدركها ذو العقل السليم، ويقبلها ذو الفطرة السوية. ولكن أصحابَ الأهواء والشهوات لم يكفوا عن تزيين هذه الآلهة المزيفة في عقول الناس، وإيهامهم بأنها تضرُّ وتنفع، وتعْلم وتقدر، وتريدُ وتنفذ إرادتها. وما من غرضٍ لأصحاب الأهواء والشهوات من هذا التزيين إلا فتح أبواب الاستبداد والاستعباد، وغلق أبواب حريات الذين يستجيبون لهم، والتحكم في رقابهم، ومصادرة إراداتهم، واستذلالهم باسم هذا الإله المزعوم أو ذاك.

تبدأ كلمة التوحيد بالنفي: «لا إله»، قبل القصر والحصر والإثبات: «إلا الله»، وهي بذلك تفتح باب «الاعتراض» أولاً قبل أن تطلبَ الامتثال أو التسليم، فلا امتثال ولا تسليم إلا بعد استقصاء وتمحيص واعتراض، ونقد ورفض كلِّ ما هو زائف في حكم العقل، وكأن البدء بقول «لا إله» عبارة عن تدريب أولي على وجوب إعمال العقل، وإنضاج حرية «التفكير» و«التعبير» و«النقد» في آن واحد، وهذه كلها من صميم أعمال «الحرية» ومن مقتضياتها.

وهل عهِدت البشريةُ مذهبًا أو دعوة أو عقيدة غير دعوة التوحيد تجعل باب الدخول إليها والتصديق بها يبدأ بقول «لا» النافية الاعتراضية، بدلًا من قول نعم المثبتة الامتثالية؟! وهل ثمةَ درس في الحرية أبلغ من أن يكون: الاعتراض قبل الانقياد؟!

إن كشف زيف الآلهة المزيفة- التي لا قدرة لها، ولا علم لها، ولا إرادة لها- ليس له من سبيل سوى إعمال العقل وإجالة النظر في الموجودات؛ ومن ثَمَّ يكون التحرر من سلطانها على الأرواح والأنفس والعقول.

يأتي «الإثباتُ» بالاستثناء بعد النفي، بقول: «إلا الله»، وهو يعني الإيمانَ بأنه، سبحانه وتعالى، الواحد، الفرد، الصمد، الخالق، العليم، وباقي أسمائه الحسنى وصفاته العليا. وأساس هذا الإيمان هو «التصديق». (الباقلاني: الإنصافُ فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق محمد زاهد الكوثري، طبعة الخانجي 1382هـ/1963م ص22). والدليلُ على أن الإيمانَ هو الإقرار بالقلب والتصديق قوله تعالى: «وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين» (يوسف:17).

وإذا كانت «الحرية» الكامنةُ في عقيدة التوحيد تبدأ بالنفي قبل الإثبات؛ فإنها تعني- ضمن ما تعني أيضًا- الثورة على كل الأصنام المادية والمعنوية التي كبَّلت البشرية على مر التاريخ. فالتوحيدُ يُشعِر صاحبه إزاء القوى الأخرى- مهما كانت طاغية ومتجبرة وباطشة، ومهما كانت أقوى منه- أنه وهي في مستوى واحد أمام الله الواحد؛ فليس من مسوغ لأن يتركَ لأي قوة في الكون أن تتصرف في مصيره، أو تتحكم في وجوده، أو تلغي إرادته، أو تصادِرها لأي سبب كان. وكلما تأصَّل يقين «التوحيد» في نفس المسلم، تعمَّق إحساسُه بكرامته وبحريته، وتصلبت إرادته في وجه الطغيان والاستبداد.

يعني مبحثُ التوحيد في علم أصول الدين، أو في علم الكلام- ضمن ما يعني- أن المعركة الكبرى التي يتعين أن يخوضها الإنسان لينال حريتَه هي في داخلِه أولًا؛ ضد شهواته وأهوائه وغرائزه الحيوانية التي تستبد به وتسلبه إنسانيته وتلحقه بالبهائم، ومن دون خوض هذه المعركة وكسبها انطلاقًا من قول «لا إله إلا الله»، تصبح كل دعاوى الحرية زيفًا وخداعًا للنفس وانقيادًا لاستبداد «الأصنام» المادية أو المعنوية أو الاجتماعية.

إن العبودية لله وحده لا تسمح لفرد مهما أوتي من قوة أن يُنصِّب نفسه صنمًا أو وثنًا يستحق طاعة الآخرين، ولا تسمح لفئة أو طائفة أن تغتصب حق فئة أو طائفة أخرى تحتَ أي دعوى من الدعاوى، ولا تسمحُ كذلك لأي أمة أن تحتل أمةً أخرى وتستعبدها بزعم التفوق العرقي أو العقلي والمادي أو العسكري.

الحريةُ التي يؤسسها «التوحيد» ليست حاصل علاقات القوة المادية الظاهرية التي يرتبط بها الإنسان أو تحيط هي به في مجتمعه، وإنما هي تنبع من داخله أولًا، ومن صميم روحه وقلبه أساسًا، ثم تأتي الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيش فيها لترسم حدود تمتعه بهذه الحرية، ولكنها لا تُوجِدها من عدم.

الحرية التي يؤسِّسها قول «لا إله إلا الله»؛ ليست مجرد حالة تابعة للقوة أو القدرة وحدها، بل هي حالة من الوعي الذاتي. وهي ليست مجرد ظاهرة نسبية تتحدّد بالمساواة مع الآخرين أو بالتفوق عليهم، كما أنها ليست نتيجة صراع قوى من أجل استغلال الموارد الطبيعية بأدوات صناعية، وإنما هي في الأساس تعبير عن نضج روحي، يُمكِّن الإنسان من أن يتحكم في أنانيته الذاتية.

يساعد على ذلك أن الإيمان الإسلامي ليس عقيدة جامدة تنبثق من قوة مؤسسية كهنوتية؛ لأن الخطاب القرآني في متناول كل فرد على حدة، ولا يقتصر على فئة بعينها أو مجموعة مختارة من العلماء (إكليروس). ولا تقبل الشخصية المسلمة وجود الممارسة الكهنوتية الوسيطة، التي تحكّمت من خلالها مؤسسة ذات قدسية، تستند إلى مبادئ تحمل في طياتها ما يُضاد عقيدة التوحيد.

وحديث الحرية في أصول الدين وعلم الكلام ممتد ووصول، وله بقية، إن شاء الله تعالى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.