التنقيب عن أسرار العقل

إن العقل البشري عصيٌّ على الفهم، فهو لا يحب أن يكشف عن أسراره بسهولة، يخبرنا في ترفع: أن حقيقة ذاتي لن تستطيعوا إليها سبيلًا، لكنني سأهبكم بعض النفحات لعلكم تفهمون ذلك اللغز الملغز الذي انكبّ المفكرون والفلاسفة الطبيعيون عبر العصور على دراسته ومحاولة فهمه.

فالعقل هنا هو الذي يتساءل عن العقل وهو الذي يجيب؛ أي أننا عقول تتساءل عن ذاتها، فهل هذا يعني أن في استطاعتنا معرفة حقيقة العقل في ذاته، أم مجرد صورة نسبية غير كاملة عنه؟

يرى الفيلسوف الألماني العظيم «إيمانويل كانط» أن هذا غير ممكن، فإدراكنا لذواتنا لا يعني الإحاطة علمًا بها لأن الوعي لا يعطينا إلا تمثيلًا غير مباشر وغير كامل عن الأداة العقلية وكيفية عملها، إذن فالعقل هو مجرد أحد تلك الأشياء التي ندركها ولا نستطيع معرفة حقيقة ذاتها كالعالم الطبيعي، بل نستطيع أن نكوّن نماذج عنها تساعدنا على فهمها فهمًا أكثر عمقًا.

من الذي يعمل على خلق نماذج لفهم العقل البشري غير فلاسفة العقل؟ إنهم علماء النفس والأعصاب. أحد هؤلاء الذين أضافوا الكثير لمعرفتنا عن العقل هو «سيجموند فرويد» مؤسس علم التحليل النفسي.


التحليل النفسي والطب النفسي

إن التحليل النفسي مثيرٌ للجدل منذ نشأته، فإذا ذُكر مؤسسه ذكرت الدوافع الجنسية، وإذا تحدثت عنه كعلم أخبروك بأنه علمٌ زائف. ولكن التحليل النفسي كان يمتلك شعبية كبيرة في الولايات المتحدة على سبيل المثال حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي، فلماذا عانى من هذا التراجع في العقود الأخيرة؟ كتب عالم النفس البريطاني «بيتر فوناجي» يقول:

هذه السطور تبين لنا الفرق الكبير بين التحليل النفسي والإطار المعرفي الذي يتبناه الطب النفسي في القرن الواحد والعشرين. فالطب النفسي له منهج محدد، أما التحليل النفسي فله عدة مدارس مما يؤدي إلى مقاومة منهجة المعرفة النابعة من التحليل النفسي.

يقصد «فوناجي» أنه بالاتساع الكبير لمناهج التحليل النفسي فمن الصعب تنظيمها في منهج موحد متسلسل، بل إن هذه المحاولة نفسها ستؤثر بالسلب على هذا العلم الذي يتميز بالغموض والتعددية في الأفكار.

يرى «فوناجي» أنه من الممكن إعادة إحياء التحليل النفسي عبر شرح الآليات العقلية التي تعمل على إنتاج الظواهر التي تصفها كتابات التحليل النفسي عن طريق العلوم العصبية، ولقد كنت محظوظًا بحضور حدث كان في القلب من محاولة بعث التحليل النفسي.


التحليل النفسي العصبي

كنت أحد الحاضرين لورشة عمل أقيمت بجمعية التحليل النفسي بمدينة نيويورك خلال التاسع والعاشر من ديسمبر الماضي، عن علم استحدث منذ أقل من عشرين عامًا وهو «علم التحليل النفسي العصبي -Neuropsychoanalysis»، حيث صدر أول عدد لمجلة «علم التحليل النفسي العصبي» عام 1999م، والذي قام بإلقاء المحاضرات أثناء هذا الحدث هو الدكتور «مارك سولمز» أستاذ ورئيس قسم «علم النفس العصبي – neuropsychology» بجامعة «كيب تاون» بجنوب أفريقيا، وهو الذي صك اسم هذا العلم الجديد.

خلال هذا الحدث رأيت كيف تواجَه الفكرة الجديدة بالرفض أو بالقبول؟ كيف تتغير المفاهيم العلمية؟ كيف يتغلب المرء على معتقداته القديمة في سبيل معطيات جديدة؟ كيف يحاول المختصون أن يطبقوا ما توصلوا إليه على أرض الواقع؟ بل والأكثر إثارة كيف يجتمع أناس من جميع بقاع الأرض في مكان واحد ليستمعوا إلى أحد زملائهم وهو يناقش معهم ما جادت به عليه قريحته.

سنحاول خلال هذه السلسلة توضيح ما توصل إليه «سولمز» ورفاقه، وما هي الأسباب التي مهدت لمحاولة بناء جسر بين هذين العِلمين؟ ولماذا نشأ علم التحليل النفسي في الأصل ولم يكتف «فرويد» بطب الأعصاب الذي تعلمه على أيدي أساتذته بمستشفيات ألمانيا وفرنسا؟


نشوء التحليل النفسي

لماذا لم يستخدم «فرويد» العلوم العصبية لخلق نموذج يصف العقل البشري؟ لنرجع إلى بداية القصة، لقد كان «فرويد» طبيبًا متميزًا للأمراض العصبية متقنًا للمنهجية التشخيصية المعمول بها في ذلك الوقت في أواخر القرن التاسع عشر، والتي اعتمدت على الربط بين مجموعة من الأعراض، والتلف الدماغي الذي يسببها لتشخيص الحالة؛ أي أنها عملت على الربط بين الأعراض الإكلينيكية والملاحظات التشريحية فعرفت بـ«المنهجية الإكلينيكية التشريحية – «The clinico-anatomical method».

لكن تبين لـ«فرويد» قصور هذا المنهج في التعامل مع أمراض لا يسببها تلف دماغي وإنما هي أمراض فسيولوجية وظيفية مثل الهيستيريا والعصاب وامتناع الكلام. فالوظائف العقلية في رأي «فرويد» تمتاز بأنها غير متموضعة في أماكن معينة بالدماغ، بل تتفاعل عدة مراكز دماغية فيما بينها لتقوم بوظيفة ما، وقد شبهها «فرويد» بالمجهر؛ فالمجهر يتكون من قطع عديدة تشترك لتكوين صورة مكبرة لمجموعة من الخلايا على سبيل المثال، لكن هذه الصورة تتكون في منطقة لا يقع فيها أي مكون ملموس من مكونات الجهاز.

إذن فالصورة المكبرة التي يكونها الجهاز يشترك في تكوينها أكثر من جزء، والصورة نفسها ليست متموضعة بمكان واحد تمامًا مثل الوظيفة العقلية؛ وبسبب هذا فإن الملكات النفسية لا تتلف أبدًا بإصابات موضعية في المخ، إنها لا تنزع ببساطة كقطع من أحجية الصور المقطوعة (Jigsaw puzzle). بالأحرى فإنها تتشوه وتتغير بطرق ديناميكية تعكس ترابطًا مشتركًا مع ملكات أخرى. فإذا أصاب عطب جزءًا ما فإن أكثر من وظيفة ستتأثر.

على سبيل المثال إذا أصيب الجزء السفلي من الفص الجداري الأيسر فإن المريض لا يحلم لكن هذا لا يعني أن هذه المنطقة هي مركز الأحلام، بل هي منطقة تساعد على ترميز المعلومات الحسية؛ أي استخلاص مفاهيم مجردة مما يراه الإنسان مثل مفهوم اليمين أو اليسار، وهذا هام في تكوين الأحلام، لكن هذا العطب سيتسبب أيضًا في توهان يميني يساري؛ فلا يستطيع المريض على سبيل المثال أن يحدد أي الكتفين هو الكتف الأيمن لشخص يقف أمامه؛ هذا يُبين كيف تقوم منطقة ما بأدوار متعددة في وظائف مختلفة.

إن إدراك «فرويد» لعجز هذه المنهجية عن التكيف مع السمات الأساسية للنشاط العقلي، ساهم في انفصال التحليل النفسي عن علم الأعصاب حتى يستطيع المحلل النفسي وصف النفس ونشاطاتها من خلال اصطلاحات نفسية، متجاوزًا قصور المنهجية التي تموضع النشاطات العقلية في مواقع بعينها.

سيحتاج الأمر إلى عالم النفس الروسي «ألكسندر لوريا» فيما بعد ليقوم بتطوير هذه المنهجية حتى تصبح قادرة على ما فشلت فيه من قبل، من خلال نظريته المعروفة بـ«التموضع الديناميكي النظامي»، وسيقوم «مارك سولمز» بالاشتراك مع زوجته «كارين كابلن سولمز» بإضافة التحليل النفسي إلى تلك المنهجية المطورة كأساس لعلم التحليل النفسي العصبي.


حلم «فرويد» صار ممكنًا

إن التحليل النفسي اليوم هو مجال متورط في حرب. أيّ أمل موجود في عصر العلاجات المثبتة تجريبيًا التي تقدّر التدخلات المنظمة الوجيزة (يقصد العلاجات التي يعتمدها الآن الطب النفسي من عقاقير وجلسات تنظيم كهرباء المخ وغيرها) لمنهج علاجي يعرّف نفسه بالتحرر من القيود والأفكار المسبقة ويحصي مدة العلاج لا بعدد الجلسات بل بعدد السنوات (يقصد التحليل النفسي)؟»

من المهم أن نشير إلى عدم إنكار «فرويد» أن العمليات العقلية والنفسية يجب أن يكون لها تمثيل ما في الدماغ في صورة عضوية. كل ما أنكره هو تموضع الوظائف العقلية في مواضع معينة بالدماغ، فكل مسعى لتخيل الأفكار على أنها مخزنة في الخلايا العصبية وعن التنبيهات على أنها تسير خلال الألياف العصبية قد أخفقت بالكامل.

وهذا واضح في كتاباته؛ فلقد ذكر في كتابه «مقدمة عن النرجسية»: «يجب أن نتذكر أن أفكارنا المؤقتة في علم النفس من المحتمل في يوم من الأيام أن تكون مبنية على بنية عضوية»، وفي «ما بعد مبدأ اللذة»: «إن القصور في وصفنا من المحتمل أن يختفي إذا كنا بالفعل في موقع يسمح باستبدال المصطلحات النفسية بأخرى فسيولوجية أو كيميائية».

وفي محاضرات تمهيدية عن التحليل النفسي: «إن البناء النظري للتحليل النفسي هو في الحقيقة بناء فوقي، سيؤسس في يوم ما على أسسه العضوية، لكننا مازلنا جاهلين بذلك».

نستطيع أن نستشف من خلال هذه السطور: أن «فرويد» كان يأمل في التعبير عن العمليات النفسانية في صورة عصبية، لكن المعوقات التكنولوجية في عصره حالت دون ذلك، ولقد حاول القيام بمحاولة في هذا الصدد من خلال كتابه «مشروع من أجل علم نفس علمي» الذي وصفه بالشذوذ، فقد كان عملًا تخمينيًا بالأساس وقاوم نشره بشدة، فلم ينشر إلا بعد وفاته.

كان القصور التكنولوجي بمثابة سد منَع علم الأعصاب من دراسة النشاط الدماغي بصورة أكثر كثافة، لكن التقنية الحديثة قد جعلت هذا السد دكاءً، فنحن لدينا الآن جهاز رسم المخ والرنين المغناطيسي الوظيفي والأشعة المقطعية، بل ومن الممكن أن ننتج أعراضًا مشابهة لبعض الأمراض النفسية لدى بعض المتطوعين للقيام بدراستها، كإعطائهم عقاقير تعرف بالعقاقير المحاكية للذهان، لإنتاج أعراض لديهم مشابهة لأعراض الذهان.

بالإضافة إلى ذلك فقد تم تأسيس ما يعرف بعلم الأعصاب الشعوري، وهو ذو أهمية كبرى لهذا العلم الجديد، وسنتحدث عن بعض نتائجه في المقال التالي. هذه التقنيات والعلوم التي ساعدت على تأسيسها هي التي جعلت من حلم «فرويد» حلمًا يمكن تحقيقه، ولقد قام عدد من العلماء بالتصديق على مثل هذه المحاولات مثل إيريك كاندل الحاصل على جائزة نوبل في الطب عام ألفين.

حاولنا في هذا المقال تقديم نبذة عن الأسباب التي مهدت لإنشاء علم التحليل النفسي العصبي، والمنهجية التي يستخدمها لدراسة الأسس العصبية للسلوك الإنساني. وسنقوم في المقال التالي بالكلام عن بعض نتائج هذا العلم الجديد، وكيف أنها من الممكن أن تقلب بعض مفاهيم التحليل النفسي رأسًا على عقب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.