عشر رصاصات تقطع هدوء الفجر، جثةٌ ترتطم بالأرض، ثلاثة أطفال نائمون وزوجةٌ ينقبض قلبها. بداية تجذبك للاستمرار في مشاهدة الفيلم لترى ما الذي وصل بالأحداث إلى هذه النقطة. لكنها بداية تؤلمك إذا كان المغدور وأطفاله وزوجته من أقربائك، يشاركونك اللغة والدين والوطن.رصاصة الغدر أكثر مرارةً من رصاص المواجهة، لكن هل تسقط النسور المحلقة إلا غدرًا. فادي البطش؛ نسر محلق في سماء العلم، تلك حقيقة ثابتة. أما الحقيقة المتنازع عليها هل كان أحد نسور حركة المقاومة الإسلامية حماس أم لم يكن. حماس في بيان نعيها قالت إنها تنعي ابنًا من أبنائها البررة، وفارسًا من فرسانها، وعالمًا من علماء فلسطين الشباب. وسائل الإعلام الإسرائيلية توافق حماس في هذا، لذا تداولت الخبر بصيغة اغتيال مهندس حماس في ماليزيا. أكدت وسائل الإعلام الإسرائيلية أيضًا أنه خبير حماس المختص في الطائرات بدون طيار.

الصحافة الماليزية هي الأخرى تؤكد تلك الرواية وتضيف عليها أنه كان بارعًا في بناء الصورايخ، وعضوًا نشيطًا في جمعيات خيرية كثيرة في ماليزيا. لكن والده يختلف مع الجميع، فأكد أن ابنه لم يكن ذا نشاط سياسي أو عسكري.الحقيقة الدامغة الأخرى التي يشير إليها الجميع أن للموساد دورًا في اغتياله. الوالد يرى أن إسرائيل لمحت في تفوقه العلمي خطرًا عليها فآثرت وأد الخطر في مهده. أما حماس فعلى يقين أن الموساد اغتاله لما قدّمه لها، يزيد من ذلك اليقين الفرح الإسرائيلي بالأمر، والتلميحات الإعلامية الإسرائيلية المتكررة عن دور الموساد «البطولي» في العملية.


لعنة «الطائرات بدون طيار»

خارج المسجد يترصد المهاجمان، لم تكن ملامحهما آسيوية بل ضخمي البدن، شُقر البشرة. انتظرا طويلًا يتفحصان المصلين واحدًا تلو الآخر، يبحثان عن رجلٍ من أهل جباليا بقطاع غزة، حاصل على شهادة الدكتوراة في الهندسة الإلكترونية، يعمل محاضرًا في جامعة ماليزية خاصة، يبلغ من العمر 35 عامًا، لعلهما لو انتظرا قليلًا لتبيناه من صوته الندي وهو يؤم المصليين.

حين وجدا نسرهم باغتوه بعشر رصاصات، استحت منه سِت وسكنت جسده أربع. فتردى من فوره حاملُ الشهادات العلمية،أبرز ما حصل عليه البطش كان جائزة منحة «خزانة» الماليزية عام 2016. جائزة رفيعة في موطنها، والأرفع أنه كان أول عربي يفوز بها. استحق تلك الجائزة لبراءات الاختراع المتعددة التي سجلها في تطوير العديد من الأجهزة الإلكترونية، وفي استخدام معادن مختلفة لتوليد الكهرباء. في احتفالية حصوله على المنحة الماليزية قال البطش إن هدفه هو المساعدة على توفير الكهرباء باستمرار في قطاع غزة.حادثة سابقة ليست بالبعيدة زمنيًا ولا أحداثًا. المكان، منزل بمنطقة العين في محافظة صفاقس بتونس. الزمان، 15 ديسمبر/كانون الأول 2016. الحدث، يطلق مجهولان 20 رصاصة على محمد الزواري، ثماني رصاصات تستقر في جسده، 5 منها في رأسه.بعد الحادثة خرج أورن هيلر، معلق الشئون العسكرية في القناة العاشرة الإسرائيلية، يؤكد بصيغة غير مباشرة مسئولية الموساد عن العملية، قائلًا أن إسرائيل كانت تخشى من الأفعال التي كان من الممكن أن يقدمها الزواري لحماس مستقبلًا. ما كان بإمكان الزواري تقديمه هو طائرات انتحارية تستطيع تنفيذ عمليات في العمق الإسرائيلي. للموساد الحق في خشية الزواري، رسالة تخرجه كانت في صناعة غواصة تعمل عبر التحكم عن بعد، ثم قدم رسالة للدكتوراة في صناعة الطائرات بدون طيار.

محمد الزواري، تونس، فلسطين
المهندس التونسي «محمد الزواري» مهندس طائرات حماس

كان المشرف على مشروع طائرات الأبابيل التي خدمت في حرب «العصف المأكول» عام 2014. وفي 2015 كان رئيسًا لـ «نادي الطيران النموذجي بصفاقس»، يدرب النادي شبابه على صناعة الطائرات بدون طيار. وفي العام ذاته استطاع الزوراي تصنيع طائرة بدون طيار، وتمت تجربتها بنجاح في «سيدي منصور».

اقرأ أيضًا:الرنتيسي سلاح المقاومة الذي لم يحمل السلاح


عياش: المهندس الأول

المهندس الفلسطيني «يحيى عياش»

إذا مررنا ببقيع شهداء مهندسي حماس، فكيف لا نمر بروضة المهندس الأول، يحيى عياش. بينما تولى الزواري والبطش مجاهدة إسرائيل جوًا، هندس هو الجهاد عبر الأرض. كان أول من أدخل أسلوب العمليات الاستشهادية لساحة المعركة. ومكنته خبرته التي اكتبسها من دراسة الهندسة الكهربائية من صناعة المتفجرات باستخدام أبسط الأدوات.

وضع اسمه للمرة الأولى على قائمة المطلوبين أمنيًا بعد رصد سيارة مفخخة في تل أبيب. سرعان ما ترقى على هذه القائمة حتى صار المطلوب الأول بعد سلسلته الانتقامية ردًا على مجزرة الحرم الإبراهيمي. قتلت عملياته عشرات الجنود الإسرائليين وجرحت آخرين.

وحين تفوق على نفسه بإدخال نمط التفجير عن بعد إلى المعركة، أدركت إسرائيل أن بقاءه صار أمرًا لا يحتمل. استخدمت إسرائيل مقاولًا فلسطينيًا يوالي الـ «شاباك» في تمرير هاتف محمول له، إلا أن الرواية لم تؤكد حتى الآن. يروي أسامة حامد اللحظات الأخيرة لعياش، فيقول أنه أعطاه الهاتف ليتحدث مع أبيه ثم تركه بمفرده. لكن حين عاد وجده مضرجًا بدمائه، انفجر هاتفه فارتقت روحه سريعًا كأنما تكمل ما بدأه صاحبها من هروب وتسلل من بين أنياب العدو.


إسرائيل تكره الهندسة

الرابط بين الثلاثة السابقين هو الهندسة. فلماذا تكرهها إسرائيل إلى الحد الذي يدفعها لقتل روادها مهما تباعدت المسافات أو طال الزمن. في 2014 أعلنت حماس أنها استطاعت تسيير طائرات بدون طيار حتى عمق 30 كيلو مترًا داخل إسرائيل. زادت حماس في صعق الجانب الإسرائيلي فقالت أن إحدى طائراتها حلقت فوق وزاة الدفاع واستطاعت تصوير أماكن حساسة في العمق الإسرائيلي قبل أن تعود بسلام إلى قطاع غزة.

ليس الصادم أن الطائرات استطاعت المرور بسلاسة في سماء غزة المُلبدة بطائرات الاستطلاع الإسرائيلية ومنظومات الاعتراض شديدة التطور. بل الصادم حقًا أن الجانب الإسرائيلي استخدم منظومة دفاعه الـ «باترويوت» لإسقاط طائرتين. وبينما حاول وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون التأكيد على أن هذا انتصار لليقظة والتقدم الإسرائيلي، فإن الحقيقة تقول أن ذلك فشل ذريع.

إذا استطاعت عقول المقاومة المُضيق عليها أن تجبر عدوها على إنفاق 350 ألف دولار، تكلفة صاروخ باتريوت واحد، فهذا إنجاز. والإنجاز الأكبر أن المهندسين الإسرائيليين لم يستطيعوا الولوج إلى شبكات التحكم في تلك الطائرات وإجبارها على الهبوط في إسرائيل لفحصها، فذلك انتصارٌ للعقل الفلسطيني الذي يدير شبكة التحكم من قطاع غزة على العقل الإسرائيلي.

ولخص لهم قيادي حماس البارز مشير المصري الرسالة قائلًا: «أنّا بطائراتنا ومهندسينا نخبركم أن المقاومة تخطت مرحلة الدفاع عن الشعب الفلسطيني إلى مرحلة غزو العدو، وأنه لا أمان للإسرائيلين من البر أو البحر أو الجو». إسرائيل فهمت رسالة المصري جيدًا، لهذا تعاهدت أن تئد التقدم الفلسطيني في مهده، فثمن 20 رصاصة للزواري أو 10 للبطش هو بالتأكيد أرخص من ثمن صاروخ باتريوت واحد يعترض طائرةً بدون طيار.


حماس لم تذاكر جيدًا

يحيى عياش
يحيى عياش

قد يكون اختزال الأحداث مجحفًا هنا، فنحن إذ نقول أنه تم اغتيال ثلاثة مهندسين لحماس فإننا لا نقول الحقيقة الكاملة. الحقيقة أن اثنين منهم تم اصطيادهم بصورة سهلة أمام منازلهم معروفة العنوان، أثناء تأدية طقس معتاد في يومهم المعلن المُتكرر، بينما الثالث كان صداعًا في رأس الاحتلال لأعوام.

حتى قال جدعون عيزرا، نائب رئيس الشباك السابق، إن نجاح عيّاش بالفرار والنجاة حوله إلى هاجس يسيطر على قادة أجهزة الأمن ويتحداهم. فقد أصبح رجال المخابرات يطاردونه وكأنه تحد شخصي لكل منهم، وقد عقدتُ اجتماعات لا عدد لها من أجل التخطيط لكيفية تصفيته. ثم أضاف لقد كرهته لكني قدرت قدرته وكفاءته.

حين صارت مداهمات الاحتلال لبيته وبيت أقاربه وأصدقائه طقسًا يوميًا في الضفة الغربية، استطاع أن ينتقل تحت سمع ونظر الاحتلال إلى قطاع غزة. ثم ضُربت المعنويات الإسرائيلية في مقتل حين انضمت له زوجته وابنه، ولاحقًا زارته والدته. كل هذا التنقلات وجميع من رآه ولو لحظة كان خاضعًا لمراقبة كثيفة من جنود الاحتلال. ثم بعد 4 أعوام من وضع إسحاق رابين ملف اغتيال عيّاش على قمة الأولويات الإسرائيلية تم اغتياله. فإذا كانت حياة عياش قد لقنت الاحتلال درسًا قاسيًا، فإن استطاعه بالنجاة طول هذه السنوات لقن حماس درسًا آخر.

لكن الاحتلال وعى درسه جيدًا ولن يسمح بتكراره، بينما حماس ربما لم تعِ أنّ عليها الإبقاء على مهندسيها بعيدًا عن متناول الاحتلال قدر استطاعتها. وأن استراتيجية مشاركة مهندسيها في الأنشطة الخيرية والأمور العامة لتضليل عيون الموساد عن حقيقة تعاملهم معها لا تُجدي نفعًا. وفي الأخير يبقى لنا تساؤل مشروع، إذا كانت حماس قد نجحت في الحفاظ على عياش في قلب الخطر أعوامًا طويلة، كما نجحت بعد ذلك أن تُخفى جلعاد شاليط لأعوام، فهل بتوالي حوادث الاغتيال الأخيرة تكون حماس قد قصّرت في الحفاظ على كنوزها أم أن الحماية خارج الديار صعبة المنال؟