بالملاحظة المُطّرِدة، مثّلت متلازمة إنكار وجود الجيشّ الحرّ، متى تظاهرت، وأنّى أصابت؛ تهيئةً لاشتباكٍ متغاير الشدّة مع مجتمع الثورة، بوصفه المَوْلِدَ والموئل، اشتباكٍ صورته ممارسات عنفيّة ضدّ هذا المجتمع تَراوحُ بين الإبادة أو القتل الواسع، والتدابير القمعيّة أو الهجمات الكلاميّة.


(1)

إنكار وجود الجيش الحرّ هو في جوهره عمليّةُ طمسٍ مقصود وموجّه لطبيعة ما يحدث في سوريا منذ ربيع 2011.

أوّلُ المنكرين وجودَ الجيش الحرّ نظامُ الأسد وإعلامه، وكان الإنكار معطوفًا أصلًا على إنكاره للثورة بدايةً، وإنكارٍ لسوريّين يمكنُ لهم أن يقولوا له: لا، أو هذا غلط وهذا صواب؛ إعلام النظام وكتبته، ورأسه وأذنابه؛ كانوا يقولون عند خروج مظاهرة في مدينة أو بلدة: «لا نعرفها!» أو «لا نعرف إن كانت تقع في سوريا!»، وكان ذلك في حقيقة الأمر مقدّمةً لحملات «التطهير» و«التطويق والتفتيش»، ثمّ في مرحلة لاحقة لهجمات الإبادة والتهجير. والمنكرون الداعمون لنظام الأسد كثر، من يسارٍ ويمين، من حزب حسن نصر الله اللبنانيّ الشيعيّ إلى جمعيّات وشخصيّات عربيّة وأعجميّة، وأشدّهم غلواءً كان سيّد النظامِ، النظام الإيرانيّ، والذي أنكر وجود سوريا جملةً، مُلحِقًا دمشق بأشيائه. إن إنكار وجود الجيش الحرّ هو في جوهره عمليّةُ طمسٍ مقصود وموجّه لطبيعة ما يحدث في سوريا منذ ربيع 2011.

وثمّة فرقٌ، يبدو لي، في طبيعة الإنكار بين هؤلاء، فعناصر النظام الأسديّ، من العلويّين أوّلًا، ومن فئات أخرى ثانيًا؛ يختلط عندهم الإنكار الواعي القصديّ المعبّر عن الكبر والغطرسة بالإنكار المشخّص لمسالك تستبطن آليّات دفاعيّة نفسيّة فرويديّة؛ هذا العنصر لا يريد تصوّر من ينازعه مقتناياته (سوريا ومجتمعها)، ويرفض الاعتراف بخسارتها أو بإمكانيّة خسارتها، وبذهاب زمنه، ويخاف حقيقة أنّ دوره يتلاشى (شبح الثورة، شبح الأكثريّة)، وبالنسبة للنظام الأسديّ ككلّ يمثّل ذلك أيضًا وسيلة دفاعيّة للحدّ من هروب أو انشقاق عناصر جيشه؛ فاضمحلال عدده وقوّته وشرعيّته، واسترخاء سلطته وقصورها. لقد نظام الأسد أنكر وجود الجيش الحرّ لأنّه أنكر حقيقة إمكانيّة قيام ثورة عليه، وحقيقة أن يقول له سوريّ «لا». وأمّا إنكار إيران وحزب الله وبقيّة الذين يعمل رؤوسهم من مكاتب خارج سوريا، والذين قد لا تعتريهم هواجس الخوف والقلق ومشاعر النقص والكبر المركّبة القديمة حيال بقيّة مكوّنات الشعب السوريّ، أو على الأقلّ ليس لديهم، بوصفهم لا يعيشون فيها، أوضاع مأزومة خاصّة مرتبطة بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم في سوريا؛ هؤلاء إنكارهم إنكارٌ واعٍ هادفٌ معزولٌ معبّرٌ عن العتوّ الكبير والعجرفة.

نظام الأسد أنكر وجود الجيش الحرّ لأنّه أنكر حقيقة إمكانيّة قيام ثورة عليه، وحقيقة أن يقول له سوريّ «لا».

وفي الحالتين يكون غرض هذا الإنكار سياسيًّا، وفي الحالتين يتجاوزان، الغرضُ والأثرُ الجيشَ الحرّ، إلى الناس المنتفضين على نظام الأسد. وأعني بالسياسيّ؛ شطبَ حقِّ هؤلاء الناس بالتعبير عن أنفسهم سياسيًّا، وبالتالي إعطاء مجتمعاتهم اسماء وصفات تُشرعن لاحقًا استخدام العنف ضدّها لكتمها سياسيًّا كتجربة أولى، وفي حال فشلها لإلغاء وجودها في المكان الذي يكون لها فيه قوّة سياسيّة، وهذا يفضي إلى القتل أو التهجير أو الحصار أو البعثرة أو النفي.

يجب أن يكون ذلك واضحًا، فلم يعد لدينا اليوم، في العام الخامس للثورة، أي شبهة حيال ما يلي؛ لم يكن إنكار وجود الجيش الحرّ اختلافًا حول توصيف هذا التشكيل، بمعنى رفض توصيفه بأنّه، مثلًا، عبارة عن جماعات مقاتلة تدافع عن مجتمعاتها ذات هذا الحقّ السياسيّ، بل كان رفضه ورفض مجتمعاته مطلقًا، وأنكار وجوده، وهذه حالة قلّ ما توصف حتى بين الدول والشعوب الأعداء في حالات الإستعمار، حيث يبقى ثمّة اعتراف متبادل من نوعٍ ما. هذا ولم تتوقف بالنتيجة الأفعالُ المترتّبة على ذلك على المقاتلين، ولا اقتصرت على الناشطين والفاعلين، بل طالت كافّة أفراد المجتمع الحاضن، نسائه وأطفاله وضعفائه، لقد كان تجاهلًا لوجود مجتمعات المناطق المنتفضة: والدليل، تمّ تدمير هذه المناطق على نحوٍ واسع كنتيجة منطقيّة، وتهجير أهلها أو قتلهم أو تجويعهم وتفقيرهم، حتى مع قول المنكرين كذبًا أنّ عناصر أجنبيّة هي من تقاتل، أو أنّ أفرادًا معزولين يحملون السلاح.


(2)

التدخل الروسيّ طرح من جديد قضيّة الوجود السياسيّ للجيش الحرّ؛ فقد أنكرت روسيا وجوده لأنّ مجرّد وجوده ينسف سياستها.

عاد التدّخل العسكريّ الروسيّ المتصاعد وحشيّةً وجذريّةً منذ 30 سبتمبر 2015 على أرضيّة تواجدها السياسيّ العسكريّ القديم؛ أعادَ طرح قضيّة الوجود السياسيّ للجيش الحرّ، لا، بل ووجوده على الأرض كتشكيل مقاتل، أو مجموعات، وانتقل هذا السجال إلى مستوى قادة ووزراء بين مثبت ومؤكدّ على وجوده ودوره، وآخر مقلّل أو نافٍ، في حلقة من حلقات سعي أطراف عداؤها قديم سابق لتصفية حساباتها على مساحة سوريا ومساحة أجساد السوريّين وأحلامهم، وتحويل الحرب إلى حرب بالوكالة تقودها مكاتب بعيدة لا يخسر قادتها شيئًا. وإذ استهلت موسكو أولى ضرباتها الجويّة بقصف مقرّات ومناطق الجيش الحرّ بالخاصّة، ملحقةً إيّاها بعمليّات بريّة في مناطق انتشاره، هو لا غيره، ريف حماة الشماليّ (يعمل جيش النصر وفصائل وتشكيلات أخرى من الجيش الحرّ) وفي ريف حلب الجنوبيّ (تدافع فصائل من الجيش الحرّ كثيرة)، فقد عملت نظرًا لالتزاماتاتها الدوليّة بشكل موازٍ على انتقاء واستدعاء شخصيّات تدّعي في كل مرّة أنّهم «ممّثلون للجيش الحرّ»، وأنّها تتفاوض معهم من أجل «الانتقال السياسيّ»، وهذا خلافًا للنظام وإيران الذين يرفضان حتى الآن محادثة أيّ شخصيّة منه، وإنْ كانت مزيّفة. إنّ هذا السجال يعكس أهميّة المعنى السياسيّ الراهن والمستقبليّ للجيش الحرّ بوصفه ممثلًا لمجتمع الثورة، ممثلًا لحقّه في الدفاع عن وجوده وقضيّته. لقد قال وزير خارجيّة روسيا: أين هو الجيش الحرّ، لا وجود لهذا التشكيل، أروني أنظر إليه؛ ولا جرم أنّ هذا الإنكار إنكار غطرسة، ولا جرم أنّه تمهيد لمذابح، وقعت فعلًا بحقّ الناس عمومًا من المناطق الخارجة عن سلطة الأسد، وغير الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة؛ مناطق الثورة. لقد أعاد التدخل الروسيّ طرح قضيّة الوجود السياسيّ للجيش الحرّ من جديد؛ فقد أنكرت روسيا وجوده لأنّ مجرّد وجوده ينسف سياستها.

أنكر تنظيمُ الدولة كذلك الجيشَ الحرَّ لأنّه أنكر طريقةَ خروج الناس على نظام الأسد، لا الخروج، حيث عدّ المظاهرات وما حدث بدايةً دليلًا على عدم شرعيّة الثورة.

من جهة أخرى، قال رئيس وزراء تركيا: «نحن نرى أنّ الجيش السوريّ الحرّ هو الكيان الممثّل الوحيد للشعب السوريّ، وإنّ تواجده في منطقة ما يعطي ثقةً لسكان في تلك المنطقة، ومهما سيطروا على أراضٍ داخل سوريا، لانرى أحدًا يضطر للفرار، على عكس النظام السوريّ الذي حينما يسيطر على منطقة ما يضطر العرب الذين يشكلون الأغلبية السنيّة إلى النزوح هربًا منه، وعلى عكس تنظيم الدولة ووحدات حماية الشعب»، ونشرت الخارجيّة البريطانيّة تعريفاتها عن «المقاتلين المعتدلين» بمناسبة التدّخل الروسيّ؛ وما يعنيني هنا ليس فرز المواقف ولا البحث عن دليل وشرعيّة وجود الجيش الحرّ عند الآخرين، ما يعنيني بالضبط، هو هذه الحقيقة متزايدة الرسوخ؛ إنّ دأبَ روسيا ومن قبلها الأسد وإيران على إنكار وجود الجيش الحرّ؛ إنّما يمثل في كنهه تشويهًا أو طمسًا لطبيعة ما حدث ويحدث منذ ربيع 2011 بُغيةَ إعطاء شرعيّة لوجود الأسد وللإحتلالين الإيرانيّ والروسيّ، شرعيّة من خارجهما، شرعيّة بالضد؛ وهذا (تعريف طبيعة ما حدث) يمثّل من جهة أخرى الورقة التأسيسيّة لتوظيف الأطراف المختلفة لـ (ما حدث) لتحقيق مصالحها المختلفة.

أنكر تنظيمُ الدولة كذلك الجيشَ الحرَّ لأنّه أنكر طريقةَ خروج الناس على نظام الأسد، لا الخروج، حيث عدّ المظاهرات وما حدث بدايةً دليلًا على عدم شرعيّة طريقة الخروج، ودليلًا على عدم إسلاميّة مجتمع الثورة لأنّه دعا إلى نظام سياسيّ بوسائل حديثة. أنكرت روسيا، متوافقةً مع تاريخها في الإنكار الخبيث، والذي راح ضحيّته شعوبٌ وهُويّاتها الحضاريّة في حزام الاتحاد السوفيتي، طبيعةَ الثورة في الحدث السوريّ، وأنكرت أنّ المؤسّسين للحدث سوريّون أصلًا، فأنكرت الجيش الحرّ، فهي ترتكب اليوم مجازر إرهابيّة. فإنكار روسيا الجيش الحرّ إنكارُ غطرسة وعلوّ، ومقدّمة لارتكاب مذابح بحق بيئة هذا الجيشّ لإلغاء الوجود السياسيّ لجماعة كبيرة من البشر.


(3)

وممّا لا يحتاج منّي كثير كلامٍ لإجلائه هو: إنّ متلازمة الإنكار هذه ترافقت ترافقًا جليًّا مع إظهار وتضخيم وجود وأدوار فاعلين أخر، وبصرف النظر عن تقييمنا لخلفيّات وخطابات وأدوار ومسالك هؤلاء الفاعلين، وأريد هنا المحاربين لنظام الأسد وحلفه، فإنّ جعلهم في بؤرة الضوء دومًا كفاعلٍ شبه وحيدٍ أو مهيمنٍ، خلافًا للواقع تمامًا، مثّل ثابتًا في سياسة حلف النظام، لأنّه يعتقد بعمق بأنّ هذا يمثّل حبل النجاة الوحيد له من المجتمع الدوليّ، إذْ إنّ شرعيّته وديمومته تأتي من موقعه الحساس في المنظومة الدوليّة لما لسوريا من أهميّة جيوسياسيّة؛ نظام الأسد وحلفه أدركوا منذ وقت مبكر أنّ الثورة عميقة وأخيرة، لذلك سعوا لخلق توازنات جديدة تضمن لهم موضع قدمٍ في ما بعد المرحلة الحادّة، وكان منطلق سعيهم هو خلق مبررات تغيير الديمغرافيا عبر القتل والتهجير؛ فكان إظهار دور «القاعدة» وطمس دور «الجيش الحرّ» عمليّةً مديدةً مركزيّة تهدف لشرعنة استباحة دماء وحقوق وأحلام ملايين السوريّين.

ومن المنكرين، ربطًا مع ما سبق، كان هؤلاء الفاعلون، وإنْ اختلفت أساليبهم وحيلهم وأهدافهم، فقد أجمعوا على هذا الإنكار الطامس؛ وهم تنظيماتٌ، أو دون التنظيمات من جماعات وأفراد. ولقد استهدفوا بالإنكار الجيشَ الحرّ ، فصائلَ وتشكيلات، واستهدفوه حالةً ومسمًّى، واستهدفوه أصولًا، وكذا أعمالًا، نواةً لمقاومةٍ يمكن بناء أنساق سياسيّة وتنظيمات بحمايتها، أو حولها، لأنّها بزعمهم «غير شرعيّة» أصولًا. فإنكار المنكرين المختلفين أنتج أساليب متشابهة، وكان منه إنكار الوجود مطلقًا (غير موجود)، وإنكار الدور الفاعل (مطلقًا أو انتقاصًا)، أو إنكار طبيعة الوجود والفاعليّة (تشويههما).

أنتج إنكار المنكرين المختلفين أنتج أساليب متشابهة، وكان منه إنكار الوجود مطلقًا (غير موجود)، وإنكار الدور الفاعل (مطلقًا أو انتقاصًا)، أو إنكار طبيعة الوجود والفاعليّة (تشويههما).

وإنّ اختلاف علّة وحجّة الاستهداف أدّى إلى اختلاف مبرراته، وأنتج تشابه معتبر في التصرفات حيال المستهدف بهذا الإنكار، خبرنا ذلك في مواطن عديدة وفي أزمنة مختلفة، وشعرنا به وكأنّه تحالفات ضمنيّة، أو تقاطعات مصالح أو اختراقات، أو أمراض موروثة أو منقولة من السلطة القديمة الفاسقة؛ فتنظيم الدولة الإسلاميّة والذين أقرب إليه أنكروا شرعيّة المظاهرات والطرائق الحديثة في النشاط السياسيّ من دعوات لاستقالة الرئيس، وتغيير النظام، وتوظيف الصناديق، وتداول السلطة، وتقسيمها على مؤسّسات، وفصلها عن أفراد ذوي امتيازات. وأرى أن نقترب من هذه الفكرة بعنف ودون تردد؛ الشرعيّة في هذا السياق هي قولُهم هذا حلالٌ وهذا حرامٌ بزعمهم، وهذا التنظيم ومن في حكمه يرون المظاهرات ميوعةً قبل كلّ شيء، كما يرونها تعبيرًا عن قبولٍ بـ «تحكيم الديمقراطيّة»، أي تحكيم غير ما أنزل الله برأيهم أو زعمهم، وإذْ يمكن الاستطراد في ذلك، إلّا إنّ وضوحَ متوالية ما يترتب على مثل هذا الحكم من نظرةٍ إلى المجتمع السوريّ ككلّ، وحتى إلى مجتمع الثورة خاصّة، بل إلى «أهل السنّة»؛ يجعلني أنتقل للفكرة التالية مباشرةً.

أنكر تنظيمُ الدولة وأعداله الجيشَ الحرّ واصفًا مقاتليه بالمرتدّين عطفًا على إنكاره لشرعيّة ثورة الناس كطريقةٍ للخروج على الحاكم لا للخروج مطلقًا، وعطفًا على عدّه المجتمعَ الثائر فاسقًا أو كافرًا أو ضالًّا، وهو إذْ يتفّق مع النظام عيانيًّا في إنكار هذه الشرعيّة، إلّا أنّه يختلف نظريًّا في مرجعيّة منح ألقاب الشرعيّ وغير الشرعيّ ومآلات ذلك، هذا إنْ صدّقناه في ادعائاته النظريّة، وكالنظام ترتّب على إنكاره مقاتلةً عنيفةً للجيش الحرّ ، مقاتلةً نالت بالضرورة من مجتمعات الثورة، ومن ناشطيها في المجالات المختلفة، لأنّ الجيش الحرّ منها وفيها ببساطة، فكان التنظيم، حتى تاريخه، القاتل الثاني بعد الأسد وحلفه، والمهجّر الثاني، وما هو أخطر تمكّن التنظيم من اختراق صفوف المقاتلين على نحوٍ واسع وعميق، فكان الماسخ الأوّل للسياسة المتعلّقة بمناهضة الأسد، وكان الطامس اللعين لطبيعة الثورة.

نعم، لقد تطابقا، النظام والتنظيم، من حيث طبيعة وجذريّة الإنكار للجيش الحرّ وتعلّقه بإنكار شرعيّة وطبيعة الثورة ومجتمعها، مع اختلافها في تأصيل الـ «لاشرعيّة» هذا؛ فالأوّل يمنح ألقاب الشرعيّة لأنّه ممثّل الدولة الوطنيّة الحديثة، ولأنّه معتمد في المنظومة الدوليّة كحامي للعلمانيّة والأقليّات، ولاعتبارات أمنيّة وظيفيّة زبائنيّة، والثاني لأنّه ضدّ كلّ هذا بوصفه الطائفة التي على الحقّ المعتمدة حصريًّا لقراءة وتفسير نصوص الكتاب والسنّة وقول هذا باطلٌ وهذا حقّ عن الله ورسوله.

ولقد تشابها في أحد أبرز مبررات ووسائل الطمس والتشويه، وهو قذف الجيش الحرّ بمساوئ الأخلاق، ثمّ ربط المسالك السيئة مع التأصيلات السابقة من خلال منهجيّة فاسدة وفاسقة، والوصول بالنتيجة إلى تجريم الثورة والثوّار، والطعن الرخيص بمجتمعات كبيرة من الناس؛ حيث تكون أسواء التصرف والسلوك للأفراد مبررًا للقدح بعدالة القضيّة وبشرعيّة الدفاع عنها بالتالي، وبأيّ طريقةٍ للدفاع لا تصبّ في خُرجه الخاص في حالة التنظيم؛ والمدافعُ الأوّل الذي قدّمته أحياء الثوّار من دموعها ودمائها كان طلائعَ الجيش الحرّ، بوصفه معبّرًا عن «حالة مقاومةِ» مجتمعات تريد الانعتاق من بطش وتنكيل أجهزة نظام الأسد المنفلتة الضارية.

لكن ما يبدو ملفتًا هو، وبالانتقال إلى صنف منكرين آخرين للجيش الحرّ، أقلّ جذريّة، بعضهم قريب من النظام وبعضهم قريب من التنظيم، هو الصنف الذي يظهر ويضّخم أخطاء ومسالك أفراد الجيش الحرّ مقابل «الجيش العربيّ السوريّ» ومقابل «كتائب تنظيمه أو فصيله»، بالترتيب، لا ليصير إلى التأكيد على عدالة وشرعيّة الثورة وحقّ مجتمعها الواسع والكبير الدفاع عن نفسه وعن قضيّته، بل ليصير إلى انتقاء النظام أو فصيله كأفضل الموجود والاصطفاف خلفه، أو إلى لزوم الحياد الخاطئ المقيت، ليس لأنّ النظام أو فصيله أكثر أخلاقيّة من كل الذين يتسمّون بالجيش الحرّ، بل لأنّه أكثر تنظيمًا وقوّة وقادرٌ على إخفاء حشد العيوب والنقائص الأخلاقيّة تحت غشاء تنظيمه، في حين أنّ الجيش الحرّ لا يستطيع لأنّه ليس تنظيمًا سابقًا، وليس سلطةً، كما سنفصل في هذه المسألة لاحقًا.

هكذا عمل المنكرون الجيشَ الحرّ، كلّ من جانبه، ومن أجندته، وبأساليبه، على إضعاف مجتمع الثورة وتشتيت شمله، وإفقاده عوامل قوّته، وكشف سرّه. وهم على فرق؛ الجذريون الذين أنكروا الثورة ومجتمعها فقادهم كِبْرُ الإنكار إلى إبادة مجتمعات وتفريغ مناطق. والأقل جذريّةً الذين خلطوا بين أسواء التصرف وعيوب المسالك، وبين أهليّة الحالة التي تضفي شرعيّةً، وتوفر مناخًا إيجابيًّا، وتؤمّن مظلّة جامعةً؛ للحشد والعمل في ميدانيّ الحرب والسياسة القاصديَن تحقيق هدف الثورة الأوّل والأسهل، إسقاط نظام الأسد، الذي صار بذلك الأصعب وبحكم الأخير.

إنّ إنكار الجيش الحرّ هو إنكار لحشدٍ كبير من الأفراد، عشرات الآلاف، الذين قاوموا واستشهدوا، وقاوموا واعتقلوا، وقاوموا وانتصروا، وقاوموا ولا يزالون صامدين على جبهات الأرض منتظمين في تشكيلات كبيرة وكثيرة. وهو أذيّة لأهلهم ولذويهم ومجتمعهم وشعبهم. فمتلازمة إنكار الجيش الحرّ الشديدة هي حالة واعية ذات قصد وإصرار؛ تنكر وجود الجيش الحرّ بوصفه حالة مقاومة شرعيّة وفعّالة للدفاع عن قضية مجتمع الثورة، وقضيّة السوريّين، وتحضّر لإبادة سياسيّة و جسديّة متغايرة الشدّة لهذا المجتمع، بعد حملة تشويه وتحريف نابية وبذيئة تنال من أعراض وأحلام وعقول حشد كبير من الناس.

والمغفّلون من المحسوبين على الثورة، أو الخاطئون منها، والذين اقترفوا سيّئة واحدةً أو أكثر ممّا سبق، بدعوى النقد، أو بداعي التسلية بالغيبة والنميمة، أو تحقيقًا لأغراض شخصيّة ضيّقة، أو لما في قلوبهم من بغض وحقد وحسد على أفراد أو عائلات أو مناطق يُرى أنّها تعلو في الوضع المستجدّ، أو في سياق التنافس والتنازع على الوجاهة والجاه، وذلك كلّه دون وعيٍ بأنّهم إنّما يُهلكون أنفسهم قبل الناس.


(4)

فمتلازمة إنكار الجيش الحرّ الشديدة هي حالة واعية ذات قصد، تنكر وجود الجيش الحرّ بوصفه حالة مقاومة شرعيّة، وتحضّر لإبادة سياسيّة وجسديّة لمجتمع الثورة.

ولست أريد من وصفي وتفصيلي حالة الإنكار هذه التعريف بالجيش الحرّ استنادًا إلى ضدّه أو نقيضه، مع إنّ تعريف الأشياء بأضدادها فيه من الدقّة والصوابيّة الشئ الحاسم؛ لكنّي أريد هنا لأبيّن شدّة الردّة والثورة المضادّة، والتي تستهدف أساسًا الفرد السوريّ المتشوّف للتغيير، وتريد لتنال من عزيمته وإصراره، وأمله، ولتقلل من حجم تضحياته، فهي تعمل لتجريده من حقّه في أنْ يكون له قضيّة، ولذلك تعمل لتجريده من وسائل صموده ومقاومته الجامعة الموحدة، ولزرع الشكّ الممرض في ضميره ممّا قد فعل وقدّر. ومن هنا تأتي أهميّة ما سيأتي، حيث سأنظر في أصول وبنى الجيش الحرّ، من المنظور الأتي: من حقّ السوريّ أنْ تكون له قضيّة، مشروعها على أرضه، ومن الطبيعي أنْ يكون له مقاومة أفرزها دفاعه عن قضيّته لمقاتلة منكريه من أعدائه، ومن الحيويّ والضروريّ أنْ تكون هذه المقاومة معبّرة عن أوسع الفئات وأكثر الشرائح من المجتمعات المنتفضة، وموحدة، لا متطابقة بالتنظيمات وبالتفاصيل وبالجزئيّات، بل بالمؤسسات الحاضنة والمشاريع الجامعة والأساليب والخطابات العامّة والاستراتيجيّات والأهداف الكُليّة.