(8)

الجيش الحرّ هو، من حيث نشأته، اسمُ اصطفاف أو اصطفافات مسلّحة، قوامها منشقون عسكريّون، ومدنيون ناهضون إلى السلاح، من متظاهرين وغيرهم، كوادره معبّرة عن المجتمع بمكوّنه الثقافيّ الهوياتيّ الأبرز، ويستمد مشروعه السياسيّ معناه من الثورة، لا من قبل نفسه، ولا من سواها، «كما لو أنّ» مشروع هذه الاصطفافات مؤجل لما بعد سقوط النظام. مشروعه السياسيّ: إسقاط النظام والدخول في الانتقال.

بوصفها ثورة الكرامة والحريّة، سمّى المنشقّون الأوائل، المنحازين لهذين المعنيين، تشكيلهم الأوّل باسم حركة الضبّاط الأحرار، ثمّ لمّا أنْ تزايد عددهم وتفاوتت رتبهم وأرادوا هيكلته أعطوه لقب الجيش السوريّ الحرّ، وتلقّف الناس هذا الاسم وصاروا يطلقونه على أيّ عاملٍ عملًا مقاومًا عنيفًا موجّهًا ضدّ عناصر النظام وحواجز تفتيشه المنتشرة في الشوارع، ويميل الناس عامّةً إلى تعميم هذا الاسم أو التوصيف حتى اليوم حين التكلّم بشكلٍ غير محدد عن المقاومة والتحرير، وفي البداية، ومع تمايز مجموعات مقاتلة تنأى قصدًا عن هذا الاسم؛ كانَ الخلط أوضح. ويقدّر أنّ هذا التمايز حدث بفارق زمنّي معتبر، من 6 وحتى 12 شهرًا، وحتى في تلك الفترة كان عدم التمييز هو الغالب، وهو عدم تمييز مقصود وغير مقصود.

كعنصر في الجيش السوري الحرّ، عسكري منشّق أو مدنيّ متطوع، مهمتي الأولى هي الدفاع عن السوريين الثائرين في وجه نظام الطغيان، بما يضمن استمرار الثورة حتى إسقاط النظام. إنّ سلاحي موجه حصرا ضد النظام الأسدي المعتدي[…]، أعمل بسلاحي على إسقاطه.

ميثاق الشرف، المادة الأولى، القيادة المشتركة للجيش السوري في الداخل 29/ 3/ 2012

إنّ ذلك، وإذا ما رُبط مع صيغ بيانات الانشقاق، أو تشكيل مجموعات السلاح الأولى؛ والتي تزخر بمفردات: الثورة، الحماية، الدفاع، سوريا، الحرية والكرامة، المظاهرات السلميّة،الشعب – إنّما يعبّر عن طبيعة ما كان يحدث، حتّى بعد رفع شعار إسقاط النظام، وإذا كان المتظاهرون قد رفعوا شعارات صريحة تطالب بسقوط النظام كعنوان عريض جامع في جمعتي سقوط الشرعيّة 24 يوليو وجمعة إرحل يونيو 2011، فإنّ بيانات وإعلانات الانشقاق وإشهار السلاح لم تعلن هدف الإسقاط به حتى بدايات 2012، حيث كان السلاح اصطفافًا خلف الثورة أساسًا، وقبلها لم ترد كثيرًا «أعمل بسلاحي على إسقاط..» التي وردت في المادة الأولى من ميثاق الشرف ربيع 2012؛ حيث اعتبر السلاح عاملًا مساعدًا. ويظلُّ هذا صادقًا حتى لو افترضنا أنّ المنشقّين أو الناس والمتظاهرين لا يعرفون إلّا هذا الفضاء المتوّفر حيث أنّهم خارجون من تحت غشاء نظام أحادي النغمة البليدة على هذا النظام، والمنشقّون العسكريّون بالذات قادمون من «مؤسّسة الجيش».

الاسم، من هذا المنظور، لم يعطَ لتنظيم سياسيّ ذي بنية، ولا لتشكيلٍ عسكريّ ذي هيكليّة هرميّة مكتملة، ولا لجماعة مقاتلة مؤدلجة متجانسة، لا جهاديّة ولا يساريّة ولا شئ، بل اُعطي لتوصيف مجموعات الحماية والمقاومة عفويّة التنشّؤ، والتي تستهدف حماية المقاومة السلميّة العاملة على إسقاط النظام، أو على نحوٍ أحسن دقّةً، تريد حماية المجتمعات المنتفضة بهدف افتكاك الاعتبار السياسيّ لوجودها، وحماية وجودها.

مثل الانشقاق أحد أبرز الديناميّات المؤثرّة في المقاومة المسلّحة، وكانت الانشقاقات عمومًا فرديّة أو بمجموعات صغيرة. وحتى تمّوز 2014 يقدّر بأنّ 100 ألف انشقّوا، وبين حزيران 2011 وآذار 2013 انشقّ 70 ضابطًا من ذوي الرتب العالية عن الجيش والمخابرات، نصفهم برتبة عقيد، وجلّ ذوي الرتب العالية كانت له وظائف لوجستيّة وفي البنية التحتيّة للجيش.

عن دراسة دوروثي، هولغر، كيفن، مركز كارنيغي، والمعطيات الإحصائيّة نقلًا عن دراسات أخرى

الجيش الحرّ اسمٌ أُعطيه التشكيل الأوّل لمجموعات مسلّحين من المنشقّين العسكريّين السابقين تمّ هيكلتها نظريًّا، ثمّ أمسى لافتةً عريضةً لحالة المقاومة العنفيّة المسلّحة، وصفةً لحشد كبير متغاير ومتغيّر، مختلفٍ ومؤتلفٍ، من الوحدات والمجموعات والتشكيلات المقاتلة غير المهيكلة بالضرورة، والمعندّة على محاولات التنظيم، ثمّ صار، مع تمايز العمل السياسيّ والعسكريّ الفصائليّ، عنوانًا سياسيًّا للمقاومة والتحرير لتشكيلات (جبهات وجيوش وغرفات وتحالفات)، موجودة وفاعلة وفعّالة (تقاتل وتقاوم وتنتصر وتستشهد)، متعددّة البؤر آخذة بالانتظام والتمايز، تعرّف نفسها بالشعار والراية والمشروع بأنّها الجيش الحرّ، أو من الجيش الحرّ، وتعمل من هذا المنظور؛ (1) بجوار الفصائل التي لا تعرّف نفسها بالجيش الحرّ صوريًّا، ولكنّها لا تبتعد عنه أصولًا، ويشار لها بأنّها منه بوصفه المعبّر الأوّل عن حالة المقاومة والدفاع عن مشروع الثورة، وباعتبار نشأتها المحايثة لديناميّة الثورة، وإنْ كانت تعبّر عن نمط فكريّ أو آخر سابقٍ وجوده أو كامنٍ في مثل المجتمع السوريّ تجاه السياسة والدين، و (2) مقابل التشكيلات والتحالفات التي تبتعد عن هذا الاسم أصولًا.


(9)

الانشقاق هو مغادرة الخدمة العسكريّة بدافع سياسيّ، أو أخلاقيّ له وجه سياسيّ، ويكون تامًّا إذا ما أرفق ببيان، أو ألحق بحركة ضدّ النظام المتروك. «أعلن انشقاقي» كان لها دورٌ حاسم في إيقاظ فكرة حمل السلاح وتنظيمه؛ وإذ لم يتفكك جيش النظام من تأثيرها؛ فقد أطلقت، بلا أدنى شكّ، ديناميّات المقاومة المسلّحة، ومحاولات تنظيمها. ويقدّر وفقًا لدراسات صغيرة أنّ نصف من انشقّوا فعلوا ليقاتلوا ضد الأسد، وأقلّ من ذلك ربّما من قاتلوا فعلًا لفترة ما ضدّ الأسد.

كلّ الذين سألتهم عن نشأة العمل المقاوم العنفيّ، لم يربطوا العنف كردود أفعال معزولة كثيرة بالمطلق بإعلان الهرموش عن حركة الضباط الأحرار، لكنّهم اعتبروا أنّ إعلانه هذا مثلّ الفرق بين حوادث عادية متوقّعة، وبين الميل لتنظيم مقاومة مسلّحة، كما مثل عاملًا مهمًّا في «إيقاظ فكرة حمل السلاح والإيمان بجدواها»، وهذا يبدو متوافقًا عليه بين المناطق المختلفة والظروف المختلفة، ويظهر لي أنّه دقيقٌ، فبعد الهرموش أخذ العنف المسلّح بالتصاعد مع محاولات التنظيم والتجمّع التي لم تنجح ولم تنته حتى اليوم. جمعة العشائر، شهر يونيو/تموز، فيديو بيان انشقاق الهرموش، إعلان الضباط الأحرار، الهجمة على جسر الشغور وتلغيم طريق رتل المخابرات السوريّة من قبل مجموعة الهرموش قبيل إعلانه، موجة النزوح الأولى إلى تركيا (2600 سوريّ من إدلب)، تصاعد عدد القتلى اليوميّ من المتظاهرين، اقتحامات التنكيل والاعتقالات، فترة الحواجز في دير الزور، القتل والإعدام الميدانيّ، كلّها ربطت بهذه الفترة مع تصاعد العمل المقاوم العنفيّ وميله للتجمّع والانتظام.

وحين النظر في قيادات، أو أحد أعضاء الكادر القياديّ، لعدد كبير جدّا من التشكيلات المقاتلة للجيش الحرّ، أو التي من الجيش الحرّ، حتى بعض التي سمتها إسلاميّ أو متديّن واضح، أو اسمها يحمل صفة الإسلاميّ؛ فإنّ جلّهم من المنشقين، ومن رتب عسكريّة ضباط وصف ضباط، وهم قادة ميدانيّون، قاتلوا ويقاتلون، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وذلك منذ تشكيل الضباط الأحرار وحتى الآن.

يبدو لي أنّ الضباط والعساكر الذين انشقّوا فعلًا لاعتبارات أحد وجوهها سياسيّ كانوا يميليون إلى هيكلة مجموعاتهم وإعطائها أسماء وتوصيفات تقنيّة وجامعة في إطار وطنيّ «الوطن سوريا».

ويبدو لي، أنّ الضباط والعساكر الذين انشقّوا فعلًا لاعتبارات أحد وجوهها سياسيّ كانوا يميليون، وبالربط مع «مهنتهم»، إلى هيكلة مجموعاتهم وإعطائها أسماء وتوصيفات تقنيّة وجامعة في إطار وطنيّ «الوطن سوريا»، وهذا خلافًا لتلك التي مؤسّسوها غير هؤلاء، أو إنّ كوادرها من غير الـ «محترفين»؛ فأسماؤها كانت من الموروث الشعبيّ الدينيّ السائد معبرةً عن الاستقلاليّة النسبيّة السلبيّة، وكانت بلا تراتبيّة ولا هرميّة، ومرتبطة في حركتها بقادتها ومناطقها، وهذا مقترنٌ اقترانًا معلولًا بطبيعة العلاقة بين القيادة الاسميّة بالخارج وسعيها المتكرر والناكس لهيكلة وإعادة هيكلة «مجموعات المقاومة» لتقترب ما أمكن من بينية «الجيش الوطنيّ»، وبين القيادات الميدانيّة الفاعلة والتي مالت للتشكك بدور هذا الذي في الخارج، أو لم تفطن لضرورة الهيكلة أو التنظيم، أو سعت لتعزيز مكانتها ووجاهتها وسلطتها، أو أنّ طبيعتها انحصرت في أداء وظيفة وحيدة بسيطة قهقريّة الطابع، تعيش تنافسًا أو صراعًا أو تكافلًا أو تفاهمًا مع وحدات مشابهة مجاورة. هذه الاسماء عبّرت عن وحدات متغايرة؛ فبعضها مرتبط بقائد له كاريزما، وبعضها بمنطقة أو بجهة، وبعضها بداعم أو راعٍ؛ مع كونها تقيم علاقات ظرفيّة استنسابيّة متغيّرة، أو علاقات قصيرة بنيويّة الطابع.

لم تكن مجموعات حملة السلاح الأولى تنتمي بالضرورة من حيث التنظيم إلى هذه التشكيلات (الضباط الأحرار والجيش الحرّ)، بل تتشكل بؤريًّا، وعفويًّا، ترادفيًّا أو تزامنيًّا، وتسمّي نفسها بنفسها، وتتصرف من تلقائها وظرفيًا. ويأتي الذين سيحملون السلاح من فئات مختلفة وبنسب غير متساوية، من طلاب ومتعلمين، ومن فتوّات شعبيّة، ومن المتظاهرين وغير المتظاهرين، ويأتون على نحو مسيطر من أبناء الأرياف المنتفضة، ويأتون من المدن من الأحياء الفقيرة أو القاصية أو العشوائيّة، ومن الفئات الأقل تعليمًا وتفقّهًا، ومن متديّنين ومن غير متديّنين، ومن مختلف الأعمار، إلّا إنّ الشباب هم الفئة المسيطرة، ومع تقدّم الحرب مثلت الفئة العمريّة دون العشرين نسبة لافتة.

ويأتون من المنشقين تباعًا، هذا، وحين النظر في تشكيلات الجيش الحرّ الأكثر التصاقًا به اسمًا وتنظيمًا فقد غلب على قيادتها الميدانيّة المنشقّون، لا سيما في بعض المناطق، الرستن وما حولها من ريف حمص، على سبيل المثال لا الحصر، حيث كانت موئل الانشقاق فشهدت أولى التشكيلات الهرميّة الأكثر وضوحًا، وظلت فيها التشكيلات من الجيش الحرّ ذات بنيّة مرتّبة، وكانت أغلب تشكيلاتها الأوليّة تشكيلات عسكريّين بامتياز.

وتشير كلمات المنشقين الأوائل إلى عفويّة حركتهم، وإلى شجاعتهم؛ فانشقاقهم لم يكن يعبر عن تمرّد معتبر داخل الجيش لا من حيث الارتفاع ولا الامتداد، كما أنّ الأوائل كانوا ينشقّون تحت خطورة مرتفعة، ودون توقّع عالٍ لأن ينالوا مغانم سريعة وكبيرة، وفرادى أو مجموعات صغيرة حيث لم يحدث انشقاق لوحدات كبيرة معتبرة من الجيش مع كامل السلاح والتجهيز، ودوافعهم كانت صدمتهم من حقارة الأوامر التي وجّهت إليهم، ومن طبيعة التنكيل بأهلهم وذويهم ومجتمعاتهم وشعبهم، وهم عبروا عن ذلك بكلمات واضحة لا تقبل اللبس، وتوافقوا على هذا التعبير، وتطابقوا حتى بالمفردات، واستمروا على ذات التوصيفات رغم مرور الوقت وتبدل الظروف بين القسوة والراحة.

إنّ الإشارة إلى كون عموم المنشقّين والمتسلّحين من «أبناء الريف» اختلفت بحسب تقييم كلٍّ للوضع، وبحسب الوسط الذي كان يعمل فيه، وبحسب الاختلافات بين المناطق. وأرى أنّ معالجة هذا المسألة تتعلق بطبيعة المجتمعات السوريّة وطبيعة تركيب السلطة أكثر مما تتعلّق بديناميّات الصراع المتولّدة بعيد اندلاع انتفاضة هذه المجتمعات، وحتى حين التحدّث عن طبيعة التسلّح والعمل العنفّي فهو سيتعلق بطبيعة الثورة السورية منذ مراحلها الأولى، لا سيما من حيث غياب فاعلين وكيانات وروابط بالتعريف السياسيّ بسبب استحالة الحياة السياسيّة إلى أشكال سيّئة التمايز في عهد الأسد، وبالتالي تشكل أنساق تتكون من وحدات اجتماعيّة والعلاقات الأقصر والأقوى بينها، وإذ يمكنني افتراض أنّ مناخًا إيجابيًّا كان سيساعد على تطاول العلاقات وتشابكها وهشاشتها، وتكوّن أنساق سياسيّة الطابع محدّدها السياسيّ القيميّ الجمعيّ بارز أو حاضر بوضوح؛ بمعنى أنّ عنف نظام الأسد شكّل عاملًا لاجمًا على هذا الصعيد؛ وفي هذا الإطار نفهم أكثر أنّ انحسار التظاهرات وتوسعها، كما هو تركّز العنف على مناطق دون أخرى؛ لا علاقة له بثنائية ريف مدينة، وقطعًا لا علاقة له بكون الثورة ثورة ريف أو ثورة ريفيّين كتمايزات اجتماعيّة سابقة متصارعة كصراع فئات وطبقات أو ما شابه.

إنّ حقيقة أنّ غالب المنشقّين من أبناء الريف له علاقة، من جهة أخرى، بتركيبة جيش نظام الأسد «الجيش العربيّ السوريّ»، وبتركيبة بقيّة مؤسّسات الدولة السوريّة بعد أنْ صارت دولة الأسد، فالنظام عمل على علونة (تطييف) وترييف وإفساد مؤسّسات الدولة على مجال زمنيّ واسع، وأريد لأتعامل مع هذا المركّب بحذر؛ ليست المسألة في تولي ابناء الريف مهام في بيروقراطيّة الدولة، وأنّهم أميل لإفسادها، بل المسألة في عمل هذا المركب جملةً واحدة وتداخله في مراحلة مبكرة من تطوّر الدولة السوريّة الحديثة، وعلى مدّى طويل، مع مختلف الوحدات والأوضاع والحالات. في الجيش العربيّ السوريّ، ثمّة التجنيد الإجباريّ وثمّة المتطوعون، وإنّ التطوّع في الجيش يأتي أكثر من الريف، ويأتي أكثر من ريف دون آخر، ومن فئات أقلّ تدينًّا وأقل تعريفًا للإسلام كمكون هويّة سياسيّة ما (الكلام داخل الأكثريّة)، وتحركّه عوامل اقتصاديّة إجتماعيّة أكثر منها سياسيّة، أكثر بكثير، وإذا كان التجنيد الإجباريّ يشمل جميع الفئات والطبقات، فإن المتطوعين كانوا عادة من فئات أضيق، كانوا أقل تعليمًا عند مقارنتهم بالمثاليّ أو الواجب وبالأقران، وكانوا أفضل تعليمًا من أبويهم حين السؤال عن منبتهم؛ والكلام هنا عن غير العلويّين، فهؤلاء أهل الجيش والمخابرات وخاصتهما على أيّ حال.

وليس كلّ الخارجين من جيش نظام الأسد منشقّين؛ وتقدّر دراسة صغيرة حجم العيّنة اضطلعت عليها من إعداد مركز كارنيغي بأنّ 50% من المستجوبين من الخارجين من الجيش ينطبق عليهم تعريف المنشق المعتمد في دراستهم، أي انشقّ وقاتل النظام، بصرف النظر عن هدف ومضمون المقاتلة، سياسيّ اقتصاديّ أخلاقيّ دينيّ، وإلى ذلك يصعب تقدير نسبة المنشقين في التشكيلات المختلفة، وهي تختلف بين تشكيل وآخر وبين منطقة وأخرى، فمثلًا بالمقارنة مع الرستن يظهر أنّ نسبة المنشقين في كوادر التشكيلات والوحدات في أرياف دير الزور أقلّ، عددًا وأثرًا، ومثلها أرياف حلب.


(10)

إنّ حقيقة أنّ غالب المنشقّين من أبناء الريف له علاقة، من جهة أخرى، بتركيبة جيش نظام الأسد «الجيش العربيّ السوريّ»، وبتركيبة بقيّة مؤسّسات الدولة السوريّة.

ليست هناك فئة عامة تدعى الفلاحين، بل هناك تشكيلة من الفئات الاجتماعية»، وأقول مع حنّا بطاطو، ليس هناك نسقٌ اجتماعيّ متماسك صافٍ على جغرافيا متواصلة يسمّى نسقًا متمدّنًا أو متريّفًا؛ ولذا حين القول بإنّ الفئة الأكبر الناهضة بأعباء السلاح، جاءت من الريف والمدن الصغيرة، ومن الأحياء الفقيرة؛ فإنّ هذا له علاقة بعوامل سيسولوجيّة وسياسيّة اقتصاديّة سابقة؛ لا بدناميات الصراع منذ الثورة، ولا بطبيعة الثورة، والأكثر أهميّة، لا علاقة له بشرعيّة حقيقيّة عميقة لنظام الأسد عند فئة ومنطقة دون أخرى، في هذا السياق وداخل «الأكثريّة»، كما يدّعي هو، وغيره.

إنّ قدرة السلطة الجاثوميّة على ضبط المدن المركزيّة أو الأحياء الرئيسة في هذه المدن، أقدر على تفسير عجز ناس من هذه المدن عن التعبير عن رأيهم.

إنّ قدرة السلطة الجاثوميّة على ضبط المدن المركزيّة أو الأحياء الرئيسة في هذه المدن (الضبط بالإجراءات الأمنيّة)، مثلًا، أقدر على تفسير عجز ناس من هذه المدن عن التعبير عن رأيهم، هذا يضاف بطبيعة الأمور إلى حقيقة كون الوحدات الاجتماعية هنا أصغر وأعجز بنيويًّا عن التكافل والمقاومة، إلى جانب طغيان علاقات تعاقديّة جزء كبير منها موظّف في شبكات السلطة المعقّدة، ولكن ماذا عن الريف؛ أليس فيه أنماط من علاقات وصراعات تعاقديّة الطابع لاعبها الأبرز السلطة القائمة؟, أكثر من ذلك، وينعت نظام الأسد بأنّه قائم على «تغليب» نسج علاقات مشوّهة للريف والفلاحين!، هذا إنْ أضيف إلى حقيقة أنّ أحياء من هذه المدن (في وسطها جغرافيًّا) كانت في طبيعة العلاقات السائدة فيها أقرب إلى النسق الاجتماعيّ الأقوى والأقدر على المعاوضة والمقاومة؛ كانت قد استعصت على أجهزة النظام القمعيّة ووسائله، وصمدت لاحقًا صمودًا أسطوريًّا في الحرب، بصمود أهلها أنفسهم، ولقابليّة طبيعتهم لاستقبال مجموعات المقاومة من «الريف» ومنذ وقت مبكّر من الثورة؛ وهذا يستدعي منّا تريثًّا في التصنيفات، والنظر أكثر إلى ما قبل الثورة وديناميّات الصراع، إلى ديناميّات تشكيل سلطة البعث والأسد، وارتداداتها، وحتى إلى تعريف المدينة والريف، وتحديد معايير الأنساق الاجتماعيّة المفترضة في البيئتين، في الحالة السوريّة.

مهما اختلفنا في تقييم ومقاربة مجتمعات سوريا، وطبيعة النظام، وظروف اندلاع الانتفاضة، وتحديد وتوصيف ديناميّات الصراع؛ فلن نختلف، إلّا إذا تقصدّنا الاختلاف، بأنّ نشأة السلاح لا علاقة له بهجوم مكوّن على آخر، لاسيما ريف مدينة هنا، ولا علاقة له بصراع مظالم وامتيازات بين طبقة وأخرى أو فئة وأخرى؛ وإنّما له علاقة بطبيعة الردّ على عنف النظام ووسائله، والرد على الرد. وهذا كلّه يمكن دراسة علاقته بالثورة أساسًا منذ اندلاعها.

علينا أنْ نتحرّى الدقّة والموضوعيّة هنا، ففي هذا السياق أرفض تنميط الثورة تنميطًا حاصرًا لها بفئة أو بجهة أو بمطلب، وفاصلًا لها عن الحالة السوريّة، ومقيمًا تاليًا لغشاء كتيم بين الثورة والسلاح بوصفهما معبرين عن شيئين مختلفين أو متناقضين، لأنّه تنميطٌ خاطئ أوّلًا؛ حيث يخلط بين مقاربة المجتمع السوريّ والدولة السوريّة الحديثة من ناحية، وبين مقاربة النظام السياسيّ والنسق الثوريّ المنطلق وديناميّات الصراعات من ناحية أخرى. كما إنّه تنميطٌ خبيث يريد لينتقص من شرعيّة الثورة ومن شرعيّة المقاومة، ومن مشروعيّتهما، بغية إضفاء شرعيّة للنظام القديم عبر القول بأنّ هذا النظام له شرعيّة «حقيقيّة» في الحواضر الكبيرة، في المجتمعات السنيّة الكبيرة، شرعيّة مستمدّة من تمثيل هذا النظام لهؤلاء «المتمدنين» مقابل أولئك «غير المتمدنين»؛ وواضحٌ خبث هذا الطرح.

في المقابل، هل أرفض هذا الطرح، والذي يبدو لكثيرين صحيحًا، رفضًا دفاعيًّا!. لا واحدة. أجادل منطلقًا من هذه البديهيّة: كون غالبية ما، يمكن قياسها وإنْ لم يتمّ قياسها، من الثوّار، ثمّ من الثوّار المسلّحين، تأتي من الريف؛ لا يعني أنّ الثورة ثورة ريف بالمعنى الظاهر للكلمة، ولا يعني حكمًا أنّها غير شرعيّة عند مجتمعات كلّ المدن، وحكمًا لا يعني أنّ النظام يجد له شرعيّة مطلقة وعميقة وواسعة هنا؛ومن هنا أرفض الخلط الكبير في الحقيقتين التاليتين:الأولى: إنّ فئات واسعة في الريف والمدينة، وفي المدن الكبرى أكثر، نظرًا للعامل الأوّل المذكور أعلاه والمتعلق بالطبيعة المتغايرة لمقاومة الأنساق الإجتماعيّة المختلفة، أو عجز بعضها عن المقاومة وعن الثورة؛ فإنّ فئات كثيرة وواسعة مع طول الدهر أخذت تتصرف كما «لو أنّ» النظام شرعيّ،[…]، ومع حقيقة تصاعد عنف النظام تصاعدًا لا يُقبل به في العرف البشريّ المستساغ، يكون هذا التصرّف تحت الخوف والذعر أكثر تظاهرًا من هذا المنظور، لا من غيره. وإذْ لا يمكننا إثبات هذا عبر دراسة تكميميّة بسبب سرقة النظام للمجتمعات السوريّة وبعثرتها، ولغياب آليّات ذلك بالنتيجة، إلّا إنّي أعتقد بأنّ مقولات مثل وجود طبقة تجّار في حلب ودمشق تستفيد من نظام الأسد قد سيطرت على القطاعات الأكبر من المجتمع السوريّ المتمدن هي مقولات مبالغ فيها، وإنْ صحّت فهي تصحّ على هذه الفئة الضيّقة فقط دون سحب النتائج كما لو أنّ هذه الفئة ملايين، ولا يصحّ توسيعها للقول برضًى واسع وعميق ضمن هذه المجتمعات عبر الخلط بين المستفيدين المقتنعين وبين المستفيدين الصامتين دون قناعة، ومع غياب القدرة على التكميم، فإنّ رفض نظام الأسد لأيّ تحكيم نزيه للصناديق يمثل الطاعن الأوّل في شرعية النظام خارج طائفته، وخارج فئات ضيّقة من طوائف أخرى، ومن ناحية ثانية، يمكنني وضع هذا المعيار للنظر فيه: أينَ استقرّتْ المظاهراتُ بعد تمادي القمع هو علامةُ المساهمين العنيدين ومادّتهم الأساسيّة، وهم القادرون على المقاومة لأبعد حدّ، وحتى النهاية، لعوامل سيسيولوجيّة ولبنيتهم الفكريّة والنفسيّة ولطبيعة حياتهم، وإلى أين امتدّت في الفواصل القصيرة التي خفف الجهاز الأمنيّ وملشيات الشبيحة من كثافة الرصاص الحيّ هو علامةٌ على أنّ لأسباب الثورة و أهدافها وجاهة وأحقيّة وأهليّة وشعبيّة واسعة، وهو طعن في الشرعيّة الملصقة بالنظام. هذا وكلّ ما سبق يتناول الظاهر والمعلن عنه فقط.

والثانية: هي اختلاف النظر أساسًا، كما أسلفت، في طبيعة المجتمعات السوريّة، الثائرة وغير الثائرة. حين سألتُ، مثلًا، شباب ديرالزور هل وجدتم أنّ المقاومة المسلّحة جاءت من الريف ومن جهات محددّة، رفضوا ذلك مرّةً واحدة، وقالوا إنّه تعبير عن نسب فقط، المقاومة اندلعت في المدينة كما اندلعت في الريف، والمقاومون الذين رفعوا السلاح منهم الفتوّات ومنهم المتعلموّن، فإذا ما كان الطرح سيتغيّر استنادًا إلى دراسة سيسيولوجيّة أكثر دقّة لمجتمعات ديرالزور؛ فهذا سيبتعد بنا عن ديناميّات الصراع المتعلّقة بالثورة، وحكمًا عن شرعيّتها، والطعن بمشروعيّتها عبر تنميطها كثورة ما.

وثمّة اختلافات معتبرة بين المناطق تتطلب تفصيلًا أكثر، ففي حلب، وفي معركة مدينة حلب كان الواضح امتداد فصائل الثورة المسلّحة من الريف إلى المدينة. وبالمقابل في درايّا التي تمثّل نموذجًا متميّزًا للثورة، من حيث المقاومة السلميّة والعنفيّة، ثمّة انسجامٌ وتفاهم عميق مردّه إلى تعبير البنى القائمة عن النسق الأوّل للثورة، وعن المجتمع، تعبيرًا غير متكلّف ولا منتقص، وهذا جعل من «المدينة» عنوانًا لصمودٍ أسطوريّ رغم كونها نظرًا لموقعها واحدة من أشدّ المدن الثائرة استهدافًا؛ فإذا ما نظر أحدهم لمجتمعها كمجتمع غير مجتمع المدن التي يُقال أنّ النظام يجد له فيها قبولًا وشرعيّة ما؛ فهذا خلافٌ آخر. وكذلك يبرز هذا النقاش عند الحديث، مثلًا، عن امتداد مناطق من المرج ودوما من ريف دمشق إلى جوبر فالعباسيّين وبرزة من دمشق، وهي مناطق متلاصقة جغرافيًّا لكنّها متباينة من حيث طبيعة الأنساق الاجتماعيّة فيها.

وكما أنّ سيطرة النظام بالقوّة على مناطق قنّع حالة رفض له وخلق حالة نفاق عمومي، أظنّها واسعة وكبيرة، فإنّ سيطرة الثوّار على أرياف واسعة ومدن، حجب حالة تأييد وأفرز حالة نفاق، أراها معتبرة، والأمر متعلقٌ عندي بتقييم الواسع والكثير بعوامل النزوح الداخليّ (حواضن ثورة كثيرة انتقلت لمناطق النظام هربًا من المذابح)، وبعوامل مثل أقدميّة النظام وخبرته في القمع وسيطرته على مفاصل المجتمع والاقتصاد، وعوامل أخرى يمكن التفصيل فيها تتعلق بعلائق السلطة. لا يمكنني هنا حسم القضايا المطروحة، ولكني أردت لأثير نقاشات حول بعض نقاط تخصّ الأصول السيسيولوجيّة لنشأة المقاومة والجيش الحرّ وكوادرههما، لربطهما على نحو أحسن دقّة بالمفاهيم السياسيّة وبالمسالك والخطابات فيما يتعلق بعلاقات السلطة.