كلُّ مريدٍ سمعتموه يقول حقيقتي الله أو لا موجود إلاّ الله فعرّفوه بذنبه، فإن لم يتب فاقتلوه؛ لأنه زنديق!
أبو الحجّاج الأقصري[1]

كتبتُ كلمة بسيطة حول سلوك بعض المتصوفة اليوم، وكعادة من يحسنوا الظنّ بي نبّهني غير واحد عن ضرورة الصمت على أفعال أشخاص بعينهم، ولأني أعرف أن بعض الناس دخل طريق التصوف اليوم هربًا من واقع مأزوم أو زهدًا في كل خطابٍ ديني متشدد أو متلوّن تبعًا لمراد غيره، فاستجبتُ لمن أكبرهم ملتمسًا من كلام السابقين -(فنحن لا نعرف من سبق إلا من خلال الكلام) ومن الصعب اليوم أن نحكي على (رؤى) و(مكاشفات) والناس تكفرُ بالعيان والواقع وتجادل فيه!- ما أعانني على ذلك.

إذا صحت هذه الأوصاف على سلوكات (سلفية اليوم) فإنها بتمامها تتنزّل على (صوفية اليوم)، فلا فرق بين سلفي وصوفي!

الشيخُ في الطريق قنديلٌ يُضيء العتمة لا لحظة نور خاطفة سرعان ما تنقلنا من عتمة إلى عتمات أكبر! يُنكر متصوفة اليوم (من خالطناهم وجلسنا معهم وأخذنا العهد عليهم في وقت من الأوقات) على (سلفية اليوم) أنهم يضيّقون الواسع ويرغّبون الناس عن دين الله والأصل عندهم التحريم والتفسيق والتبديع والتكفير مما جعل رقعة الكفر تتسع لتشمل إخوانهم في الدين من كافة الفرق والمذاهب.. السلفيون حسب رؤية (متصوفة اليوم) يظهرون وجهًا قبيحًا للإسلام .. فالإسلام ليس كذلك .. وتتكرر هذه العبارة على لسان من يُظن بهم (أنهم أهل التسامح) و(الفاهمون لروح الشريعة والدين) .. إذا صحت هذه الأوصاف على سلوكات (سلفية اليوم) فإنها بتمامها تتنزّل على (صوفية اليوم) فلا فرق بين سلفي وصوفي! وعقيدتنا أنه لا يتحقق بوصف (صوفي) أو (سلفيّ) اليوم إلا نفرٌ قليل!


«على دين الصّليب يكون موتي»!!

قال هذه الكلمة حلاّجُ الأسرار يومًا وقد شرح معناها اليوم محقق شهير لديوانهمصطفى كامل الشيبي اتّصل بنصّه زمنًا وجاور شاهد قبره في بغداد. طبيعيٌ أن كلمة كهذه يستحق الحلاّج الإدانة عليها، لأنه بها يقترب مع مثيلاتها من المصطلحات (الناسوت، واللاهوت) من (دين من قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وهؤلاء كفارٌ بنصّ القرآن، لن يقترب الحلاج بكلمته ممن (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)! فلا يُلتفت إلى هؤلاء من قطاع عريض من مسلمة اليوم، صوفية كانوا أو سلفية، وأي تركيز على تنزّل هذا الوصف على قطاع كبير من أهل الأديان (التوحيدية وغيرها) سيكون تأويلاً متعسّفًا وتساهلاً في دين الله!

طبيعيٌ أن يكون هذا موقف المخاصمين للتصوف من الحلاج، فهم لا يهتمون بتجربة أو مكابدة أو تطور في التجربة الدينية أو زيادة في الخلق (كما يشاء الخلاّق).. لكننا لا نرى هذا السلوك اليوم من المخاصمين للتصوف فحسب، بل من المنتسبين للتصوف صورة أو طرقيّة مكرورة.

فالحلاج كما كتب صديق صوفيّ شاعر قبل سنوات لا يعوّل عليه عند القوم الصوفية! ولا أدري من أين أتى بهذه الكلمة الشاذة في نظري، وهو نفسه لا يسير على صراط صوفي أو شرعي حسب تأطير الصوفية اليوم للمريد.

بمراجعة سريعة لكتاب «أخبار الحلاج» سنجد هذه العبارة ترد في خبر مروي يأخذ في ترقيم ماسنيون وكراوس للنصّ رقم 52 (ص 80-81) ويرد بتمامه على النحو التالي:

سمعتُ الحسين يقولُ في سوقِ بغداد:

ألا بلّغ أحبّائي بأني .. ركبتُ البحر وانحسر السفينة
ففي دين الصليب يكون موتي.. ولا البطحا أريدُ ولا المدينة

[تُروى الأبيات باختلافات أخرى في نسخة ديوان الحلاج بتحقيق الشيبي، وقارن عمل عبد الحكيم حسّان في تحقيق أبيات الحلاّج في كتابه عن الشعر الصوفي].

فتبعته، فلمّا دخل داره كبّر يصلّي فقرأ الفاتحة والشعراء إلى سورة الروم، فلمّا بلغ إلى قوله تعالى: «وقال الذين أوتوا العلم والإيمان»..الآية. كررها وبكى. فلمّا سلّم قلتُ يا شيخ تكلّمت في السّوق بكلمة من الكفر، ثم أقمت القيامة ههنا في الصلاة، فما قصدُك؟ قال: أن تُقتل هذه الملعونة، وأشار إلى نفسه. فقلتُ: يجوز إغراء الناس على الباطلِ؟ قال: لا. ولكّني أُغريهم على الحقّ؛ لأن عندي (قتلُ هذه من الواجبات) [أي النفس،استنادًا من الصوفية على قول: موتوا قبل أن تموتوا، وقد فصّل الحديث في شرح هذا المطلب غيرُ واحدٍ من القوم الصوفية نحيل على شاعر الصوفية الأكبر في كلامه النادر في كتابه (فيه ما فيه) فصل يُعنون بهذه الكلمة]. وهم إذا تعصّبوا لدينهم يؤجروا.

سنلاحظّ في النصّ جزءًا لا يُذكر عند ذكر (الصّليب) وهو تعبّد الحلاّج وصلاته وقراءته للقرآن بعد النطق بهذه الكلمة، مما أثار دهشة راوي النصّ كما هو ظاهر، ونُسي بل محي تمامًا من ذكر الحلاج وأخباره تعبّده ولا يُذكر إلاّ شذوذه وشطحه وتساهله في إطلاق ألفاظ عُدت في وقته وحتى اليوم (كُفرًا) عند كثيرين من أهل الإسلام.

ونُسي بل محي تمامًا من ذكر الحلاج وأخباره تعبّده ولا يُذكر إلاّ شذوذه وشطحه.

أقول إن هذا طبيعي ممن يلتمس لأخيه الخطأ في الأنفاس قبل التلفظ، وبفضل الانغلاق والتعصب هذا حال الكثيرين، أما من يلتمس للكلمة ألف وجه من وجوه التأويل ويقبل بالذوق والمكاشفات والأحوال كيف يُقبل منه ذلك؟! وهل القوم الصوفية أنكروا جميعًا على الحلاج مقاله وأحواله؟! هذا مما لا يغيب عن دارس وحقق فضلاً عن سالك متحقق وقد كُتب فيه الكثير من لحظة مقتل الحلاّج حتى اليوم ويكفي أن نُطالع مجلة المورد لنقف على البحث المعرّب عن حياة الحلاج بعد وفاته لماسنيون أو نراجع ما كتبه العلاّمة الممتلك لناصية لغات عدّة رحمه اللهحسين مجيب المصري أو نطالع ما كتبته السيدة العاشقة للإسلام أنّا ماري شيمل عن شهيد العشق الإلهي أو ما كتبه محمد إقبال في «تجديد التفكير الديني» الذي لا يزال حاضرًا بأفكاره عند (السلفية والصوفية) وغيرهم حتى اليوم.

لو راجع الصوفية الطرقيون اليوم صاحب الأخلاق والطبقات والعهود لوجودوه في كتابه «لطائف المنن» يروي هذه الكلمة:

«وقد كان الشيخ أبو العبّاس المرسي رضي الله تعالى عنه يقول: أكره من الفقهاء خصلتين: قولهم بكفر الحلاّج، وقولهم بموت الخضر عليه الصلاة والسلام. أمّا الحلاّج فلم يثبت عنه ما يوجب القتل، وما نُقل عنه يصحّ تأويله نحو قوله: «على دين الصّليب يكون موتي» ومراده: أنه يموت على دين نفسه فإنه هو الصّليب، وكأنه قال: أموت على دين الإسلام، وأشار إلى أنه يموت مصلوبًا».

إذا كان الصوفي يلوم الآخر المخالف له في الرؤية وشريكه في الدين أنه لا يُحسن الظنّ ولا يقرأ جيدًا ويقتطع الكلام عن سياقه، فلماذا يكرر الصوفي اليوم نفس سلوك مخالفه؟ ولماذا لم يعد حسن الظن في وقت يتفاخر فيه بانتشار الإسلام خارج أرضه، وما يُنشر عن الإسلام ويقبل البعض عليه في الخارج لا يكون في أغلبه إلا من كتابات المستشرقين، لأننا لا نُحسن الكتابة عن ديننا ولا نحسن تمثيله ونحن في شغل بخلافات المذاهب والأفكار الموروثة ليل نهار!

إن من يظن بنفسه أنه أصبح صوفيًا بتكرار كلام من اعتبره شيخًا في الطريق لمجرد ارتداء مسوح التصوف أو حفظ بضع كلمات قصار، فقد ظلم نفسه وظلم الآخرين.

إن شيخك الذي يكفّر الناس ويزندقهم ليل نهار ومشغول بعباد الله ورميهم في سجن أو جنهم لا أظنه يتحدث يومًا معك ويخبرك بما قاله الأوائل من جميل الكلام الذي تحقق في فعاله، ويهزأ من شيخ صوفي آخر لمجرد مخالفته له سياسة أو نهجًا أهذا شيخ صوفي؟!

سأختم هذه الكلمة بعبارة للصوفي المصري الشهير لا أظنك تستطيع تلاوتها جهرًا وأنت صوفيّ:

«من محاسن العاصي! أنه لولا تحمله تلك القاذورات التى نزلت على الخلق لربما كنت أنت المرتكب لها بحكم القبضتين إذ لا بد للمعاصي من فاعل ! في حكاية لأفضل الدين‌ رحمه اللّه يقول: أنا في غاية الحياء والخجل من جاري،فقلت لماذا؟ فقال: لأنه غارقٌ في الزنا واللواط وشرب الخمر والبوظة وبلع الحشيش ليلا و نهارا، فأنا أتخيل دائمًا أنه محتمل ذلك عني لقذارة حالي وخباثة أصلي،فإنه من ذوي البيوت وأى شى‌ء بين حائطي وحائطه. ويروي الشعراني عن سيدى على الخواص رحمه اللّه يقول: لا يصح‌ لعبد قدم في طريق القوم حتى يشهد نفسه تحت الأرضين السفليات!» عن [البحر المورود في المواثیق والعهود].

تواضع قليلاً فلا يمتلك الحقيقة أحد، وتدبّر قصة الفيل والعميان، التي رواها قبل جلال الدين الرومي صاحبُ إحياء علوم الدين في باب التوبة!


[1] أستخدمُ كلمة الأصولية بحسب مدلولها المعاصر الذي ينصرف ذهن متلقيه إلى سلوك يتسم بالتشدد والتضييق وعدم الانفتاح على رؤى متعددة وتصلّب متبنيه وعدم تفكّره فيما يُطرح من رؤى متعددة حول موضوعه، فالكلمة بهذه الدلالة صارت تعبّر عن سلوك يُمارس في الدين والسياسة والمعرفة عندنا كعرب منذ فترة بعيدة. وأعني بالصوفية ما ارتضاه البعض من نسبة إلى قوم يختلفون في تصورهم الديني عن الصراطين الملتزمين بحرفية النصّ ويعتمدون تأويلاً يختلف عنهم.