تنفرد القاهرة بين المدن العربية القديمة بأنها اكتسبت شخصيتها التاريخية من أربع مدن إسلامية نشأت على أرضها متتابعةً متجاورةً، كان «القاهرة» اسمَ الرابعة، التي نشأت ملوكية فاستحوذت على الصدارة بعد قرنين من ميلادها، وأطاحت بمجد أخواتها الكبريات وابتلعتهُن، حتى أمسين بين أحياء فيها وضواحٍ لها وخرائب من حولها.

لم يكن للقاهرة أن تحدد موقعها ولا اتجاهات تَوسُّعِها ولا موقعَ مركز الحكم فيها لولا أثر مدن: «الفسطاط» و«العسكر» و«القطائع» عليها، ولم يكن للعسكر والقطائع أن تقوما إلا في كنف الفسطاط، التي وَلدَت وأرضعَت عاصمة تلو الأخرى حتى توارت بالحجاب، كانت الفسطاط المغناطيس الذي ظهر في هذه البقعة أولًا، فجذب إليها كل العمران، ثم انزوى تحت طبقات التاريخ.

البداية وما قبل البداية

ما قبل البداية كان حصن بابليون، الذي أنشأه الإمبراطور تراجان (98-117م) في موضع قريب من ملتقى الوادي والدلتا، ليكون مركز سيطرة عسكريًّا على مصر كلها، بخلاف الإسكندرية الطاعنة في الشمال المطلة على العالم الهيليني.

أمَّا البداية فكانت بعد فتح العرب للإسكندرية سنة 21هـ/ 642م، حين أبى الخليفة عمر بن الخطاب أن يتخذها المسلمون عاصمة لكون النيل يجري بينها وبين المدينة المنورة فيقطع الطريق على أي إمداد للمسلمين في أوطانهم الجديدة، هنا قرر الفاتح عمرو بن العاص العودة إلى موقع الحصن وبناء عاصمته بجواره. [1]

أنشأ عمرو مسجده الجامع إلى الشمال من الحصن، وانتشرت القبائل تختطُّ خِططها حوله وتنشئ مدينة الفسطاط، في الموقع الذي صار الآن حي مصر القديمة القاهري.

جامع الفسطاط العتيق الذي اشتهر باسم عمرو بن العاص
/ من تصوير الكاتب

اختطَّ أهل الراية (وهم خليط من قريش والأنصار وقبائل أخرى) حول الجامع، واختطَّت مَهرة وتُجيب حول الحصن، وتوغلت قبائل أخرى في الجنوب والجنوب الشرقي كالصدف وحضرموت، حتى نزلت راشدة في موقع منطقة أثر النبي، والمعافر في تخوم حي البساتين.

أمَّا إلى الشمال من الجامع فقد نشأت خِطط عُرفت بالحمراوات نسبة إلى الروم، وصلت حدودها إلى نطاق حي السيدة زينب، فيما طعنَت قبيلة يشكر (أخت راشدة) شمالًا فنزلت بموقع جامع ابن طولون، وعُرف الجبل الذي أقيم عليه الجامع فيما بعد باسمها. [2]

الانتشار الواسع المتباعد للقبائل كان ضروريًّا لتوفير مسارح لخيولها بين الأحياء، لكنَّ هذه الفراغات سرعان ما ملأها العمران مع فقدان هذه القبائل صفة العسكرية، وتضخم المدينة وازدهارها الاقتصادي.

ولأن مصر بلد شديد المركزية تُمسك عاصمته بزمام كل شيء، فسرعان ما انتزعَت الفسطاط لنفسها اسم مصر، فصارت تُدعى «مصر» و«مدينة مصر» أكثر مما تُدعى باسمها.

العسكر والقطائع والقاهرة

عند دخول العباسيين مصر سنة 132هـ عسكرَ القائد «صالح بن علي» إلى الشمال من الفسطاط (في موقع الشطر الجنوبي من حي السيدة زينب)، وبنى فيه مدينة عُرفت بـ «العسكر» نسبة إلى عسكره، سرعان ما انتقلت إليها دُور الإمارة والشرطة ومؤسسات السلطة، وأنشأ ابنه «الفضل» فيها جامعًا سنة 169هـ [3]، لكنَّ العسكر التي وُلدت متصلة بالفسطاط لم تستطع أن تستقل بهُويتها، وأصبحت حيًّا من أحياء الفسطاط بدلًا من أن تكون عاصمة ذات سلطان عليها، فتوسعت بها (مصر الفسطاط) توسعًا فارقًا.

وفي عام 256هـ/ 870م وجد الأمير الطامح أحمد بن طولون أن مدينة مصر ضاقت بجنده وحاشيته، فاتجه إلى الشمال الشرقي من العسكر وأنشأ مدينة جديدة عُرفت بـ «القطائع»، بين الجبل الذي أقام عليه جامعه غربًا، والجبل الذي أقيمت عليه القلعة فيما بعد شرقًا، وهو الموقع الذي يشغله حي الخليفة الآن.

طموحات ابن طولون وابنه خمارويه جعلت من القطائع مدينة ملوكية ذات طبيعة مختلفة عن الفسطاط والعسكر، واحتفظت الكتب بحكايات تُشبه الأساطير عن قصر الأمير وبساتين ابنه وما كان فيهما من العجائب ورفاهية الملوك.

صغر القطائع والدور المختلف الذي أُنشئِت له لم يسمحا لها أن تنازع الفسطاط شيئًا من ثقلها الاقتصادي والاجتماعي والعلمي، لكن عمر القطائع لم يطل، إذ دمرها القائد العباسي محمد بن سليمان الكاتب سنة 304هـ، وطمس مجدها الملوكي، ولم يترك غير جامعها، على أن العمران لم ينقطع حول الجامع وسرعان ما أعاد الناس البناء حوله.

في عام 358هـ/ 969م دخل القائد جوهر الصقلبي مصر فاتحًا للخليفة المعز الفاطمي، ليدخل تاريخ الإسلام مرحلة جديدة بقيام خلافة شيعية في المشرق تُجهز على ما بقي من سلطان الخلافة العباسية.

ولاستكمال الهيبة الملوكية للخلافة أنشأ جوهر عاصمة جديدة إلى الشمال من العواصم القديمة سمَّاها «القاهرة»، شغلت موقع حي الجمالية والشطر الشمالي من حي الدرب الأحمر، وللمفارقة فإن القرن الأول من عمر القاهرة سيكون أزهى قرون الفسطاط وقمة منحنى مجدها وازدهارها.

أطلال الحمام الفاطمي الذي كشفته لجنة حفظ الآثار العربية شمال مسجد أبي السعود بداية الثلاثينيات
/ من تصوير الكاتب

العصر الفاطمي

أُنشئت القاهرة مدينة ملوكية مغلقة على الخليفة وبيته وجنده وحواشيه، فلم تقم فيها أنشطة اقتصادية ضخمة، ولم يُسمح بسكناها لعامة الناس، الأمر الذي انعكس إيجابًا على الفسطاط التي تشبعت بالرخاء الاقتصادي للخلافة الجديدة الثرية، فأصبحت عاصمة تجارة الشرق، وتوسعت عمرانيًّا حتى قال المقدسي (377هـ):

الفسطاط ناسخ بغداد، ومفخر الإسلام، ومتجر الأنام، وأجل من مدينة السلام. [4]

في هذا العصر كتب أهم مؤرخي الخطط قبل المقريزي، وهو القضاعي (454هـ) فذكر أن في الفسطاط 36 ألف مسجد، و1170 حمامًا، وتحدث المقدسي عن كثافة عمرانها وبلوغ بيوتها سبع طبقات، وأن الدار الواحدة يسكنها مائتا نفس.

بدأت الفسطاط منحنى الهبوط العنيف مع المجاعة الشهيرة التي عُرفت بالشدة المستنصرية (457-464هـ)، إذ هلك الناس وخلت أحياء كاملة من أهلها أو كادت، وتضرَّرت القاهرة أيضًا بسبب المجاعة واشتداد الصراع بين فرق الجيش الفاطمي، ولم تستقم الأمور إلا بقدوم «بدر الجمالي» إلى مصر سنة 466هـ/ 1074م، وتوليه الوزارة للخليفة المستنصر.

أراد بدر تعمير القاهرة –عاصمة الخلافة- وتوسيعها وتحصينها، فقرر التضحية بالفسطاط، وأمر الناس بهدم ما خلا من بيوت الفسطاط والبناء بأنقاضه في القاهرة، فاندثرت أحياء كاملة كانت تُعرف بـ «عمل فوق» من شمالي الفسطاط وشرقيها وجنوبيها، وباتت بقعة العسكر والقطائع خرابًا بين المدينتين. [5]

فقدت الفسطاط قرابة نصف عمرانها، أما القاهرة فقد توسعت ونشأت فيها الأسواق والقياسر وازدهرت فيها التجارة، ومع ذلك ظلت الفسطاط العاصمة الأولى اقتصاديًّا واجتماعيًّا حتى نهاية العصر الفاطمي، حيث ستتلقى معها ضربة قاصمة بحريق مدمر دبَّره الوزير شاور سنة 564هـ/ 1169م حين لم يستطع تحصين المدينة أمام غزوة صليبية وشيكة.

لم يقضِ الحريق على المدينة، وسرعان ما أعيد تعميرها، لكنها لم تعد بعده كما كانت قبله، إذ تنازلت للقاهرة عن الريادة واكتفت بمركز الوصيفة، كما فقدت مناعتها تجاه الكوارث، ليتآكل عمرانها خلال القرنين التاليين شيئًا فشيئًا باتجاه مصير كان يمكن ألَّا يكون محتومًا.

فسطاط الأيوبيين والمماليك

صلاح الدين، الناقم على إرث الفواطم، نقل مقر الحكم من عاصمتهم الملوكية، إلى قلعة أنشأها على هضبة متقدمة من المقطم بين القاهرة والفسطاط يُشرف منها على المدينتين، وأدار منها سورًا عليهما، هكذا حددت الفسطاط للقاهرة موقع قلعتها خارجَها، وجذبت توسعاتها الكبرى دائمًا باتجاه الجنوب، حيث القلعة والفسطاط، فنشأت أحياء الدرب الأحمر والخليفة فيما بعد، وصارت بقعة القطائع من توسعات القاهرة.

حظيت الفسطاط بنهضة إنشائية في عهد صلاح الدين، لكنها خسرت أجزاءً كبيرة من رقعتها في المجاعة التي ضربت البلاد زمن أخيه العادل سنتي 597 و598هـ [6]، كانت القاهرة أيضًا تتأثر بالمجاعات لكن ما يُخرَب منها يُعاد تعميره، أمَّا ما يخرب من الفسطاط فيذهب في ذمة التاريخ، وبينما أخذت القاهرة تتوسع باتجاه القلعة التي حددت الفسطاط موقعها، أخذت الأخيرة تنحسر بعيدًا عنها وتلتصق بالنيل.

في عام 640هـ زار المدينتين «ابن سعيد الأندلسي» الذي ذكر أن الفسطاط ما زالت تحتفظ بمجامع أسواق البلدين، ميزة طبيعية لأنها تطل على النيل، فتحط بها البضائع ثم تُنقَل منها إلى القاهرة، كما كثرت بساحلها العمارة إثر إنشاء «الصالح أيوب» قلعته في الروضة. [7]

كان هذا آخر نص يُسجِّل للفسطاط مزيةً على العاصمة الجديدة، فبعد ربع قرن وفي عهد بيبرس تلقى عمرانها ضربة غير مُبرَّرة بهدم بابيها الشماليين الضخمين (باب الصفا) و(باب درب معاني) [8]، الأمر الذي ضيَّع حدودها الشمالية والشمالية الشرقية، وأذن بانحسار عمرانها من الجهتين.

خلال النصف الأول من القرن الثامن فقدت الفسطاط مركزها الاستراتيجي كميناء نهري للقاهرة لصالح بولاق الناشئة حديثًا، فاكتمال زوال الخطر الصليبي أدى إلى ازدهار تجارة الشمال حيث بولاق، فيما اقتصرت تجارة الجنوب على التوابل القادمة من الهند وأفريقيا.

ورغم ذلك فقد حافظت الفسطاط على حشمتها وبقايا مجدها التاريخي طيلة عهد الناصر «محمد بن قلاوون» الذي أنشأ فيها جامعًا كبيرًا سنة 712هـ، لكن وفاته وضعف خلفائه أدَّيا إلى اختلال الأمور وفتحا على البلد باب المجاعات مرة أخرى، فكانت مجاعة 749هـ الأقسى على الفسطاط، وخَرِب بسببها أكثر أحيائها، ثم تضررت بمجاعتي عامي 761هـ و776هـ، قبل أن تُجهز مجاعة سنة 790هـ/ 1388م على قلب المدينة المحيط بالجامع وتؤدي إلى خرابه، وعلى رأسه خط بين القصرين وخط النخالين [9]، ثم مجاعة سنة 806هـ التي أودت بعمران شمالي المدينة وقرافتها الكبرى في الجنوب.

وكما حدث بعد الشدة المستنصرية أخذ الناس في هدم دور المدينة وبيع أنقاضها للبناء بها في القاهرة وضواحيها، ولم يبقَ من الخِطط العامرة إلا قطع أطلال ستغمرها الرمال بعد سنوات قليلة.

أطلال بيوت من شرقي الفسطاط، كُشفت في حفائر علي بهجت 1912-1920
/ من تصوير الكاتب

منذ ذلك الحين لم تعُد الفسطاط مدينة تُضارِع القاهرة، ولم تعد تقوم بدور ذي شأن كعاصمة لمصر، وباتت ضاحية للقاهرة لا تنازعها شيئًا من أمرها، فلم يبقَ منها إلا شريطها الساحلي الضيق، وحتى هذا الشريط الضيق أخذ يفقد أسواقه وقياسره لأن عمران الضاحية لم يعد يحتمل بقاء هذا العدد الكبير من الأسواق المتخصصة، وخلال القرن التاسع الهجري فَقَد القسم الباقي من المدينة أسماء معظم أخطاطه وشوارعه، وتنازلت الفسطاط عن اسم (مصر) تنازلًا مستحقًّا لصالح القاهرة، لتحمل من بعده اسمها التقاعدي (مصر القديمة).

عمران الفسطاط في العصر العثماني التصق كثيرًا بالساحل، حتى كان بابها الشرقي (باب الوداع) عند خط المترو، أمَّا جامع عمرو فقد أصبح في الخلاء خارج المدينة مُحاطًا بالخراب، صامدًا في وجه الزمن حتى تخرَّب وتعطلت الصلاة فيه وكاد يندثر، لولا مراد بك الذي أنقذه بالترميم سنة 1212هـ/ 1797م.

لم تدخل (الفسطاط) في حدود القاهرة إداريًّا إلا في زمن الخديوي إسماعيل، وشهد عصر الملك فؤاد محاولات حثيثة لبعثها بالحفائر والاستكشافات الأثرية، التي كشفت أطلال عدد كبير من بيوتها وحمامًا فاطميًّا ومئات الكنوز التي احتضنها متحف الفن الإسلامي.

ومع الزحف العمراني الضخم بعد ثورة يوليو 1952م، بُنيت الأحياء والحدائق والمنشآت في خرائبها، واتصلت من جميع جهاتها بسياق عمران القاهرة الشاسع الذي لم يعد يوقفه حد.

المراجع
  1. ابن عبد الحكم (فتوح مصر وأخبارها 91) ت تشارلز توري، مكتبة مدبولي 1419هـ 1999م.
  2. ابن دقماق (الانتصار لواسطة عقد الأمصار 4/122) ت فولرز بولاق 1893م.
  3. المقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 4/55) ت أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي 2002م.
  4. المقدسي (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم 197) ت دي غويه، مكتبة مدبولي 1411هـ 1991م.
  5. المقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 2/142) ت أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي 2002م.
  6. عبد اللطيف البغدادي (رحلته إلى مصر 132) الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م.
  7. ابن سعيد الأندلسي (المُغرب في حلى المغرب 8) ت زكي حسن وشوقي ضيف وسيدة كاشف، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2003م.
  8. ابن دقماق (الانتصار لواسطة عقد الأمصار 4/28،27) ت فولرز بولاق 1893م.
  9. المقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 2/146) ت أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي 2002م.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.