سجنٌ حربيٌ في شمال لبنان، حيث يتركز عدد من اللبنانيين السنة. على جدرانه كتب عمر، الشاب صاحب الأربعة والعشرين عامًا، عبارة مجلجلة، «يسقط كل شيء»، وبجوارها «تسقط الجماعة الإسلامية»، «يسقط تيار المستقبل»، «الموت لحزب الله»، «الموت لإيران»، و«الجحيم للسعودية». تساءل كثيرون كيف جمع الشاب العشريني بين هذه التناقضات، وأراد لها الفناء مجتمعةً. ربما يحمل بين دمائه مرضًا، أثّر على سلامة قواه العقلية. من يدري! ربما.


السنة بين غياب الفاعلية وفاعلية الغياب

حاولت الطائفة السنية في لبنان مرات عديدة التحرك باتجاه تعريف ذاتها، وتحديد كينونتها، وتوحيد بوصلتها. غير أنه قد حيل بينها وبين غايتها بعراقيل ما فتئت تجابهها في طريقها هذا.

بدأت هذه المحاولات إبان المارونية السياسية في أربعينيات القرن السابق، والتي شهدت نشأة جماعات إسلامية وأحزاب قومية وعائلات سياسية كبرى، حاولت رفع لواء تمثيل الطائفة السنية والدفاع عنها، بغرض تحقيق مكاسب سياسية في معظم فتراتها. جاءت حقبة سيطرة نظام الأسد الأب على لبنان بعد اجتياحه لها في السبعينيات، ثم شرعنة هذا الوجود، من خلال ما سمته الجامعة العربية، مشروع قوات الردع العربية، الذي طرحته الرياض ووافق عليه حافظ الأسد.

ينص المشروع على نشر 50 ألف جندي سوري. الأمر الذي مكّن الأسد من السيطرة على كل قطاعات ومؤسسات الدولة اللبنانية من ناحية، وإقصاء وتهميش القوى المعارضة للنظام السوري بصفة عامة، والسنية تحديدًا من ناحية ثانية. فتم تفكيك كل المليشيات المسلحة، عدا حزب الله، الذي نما على يد النظام السوري، حتى أضحى خنجرًا مغروسًا في الخاصرة اللبنانية، صاحب الصوت الأعلى.

في حين غدا المسلمون السنة بغير تمثيل أو شوكة تحمي وجودهم، لاسيما وأن ملحمة حماة التي سطرتها جماعة الإخوان في سوريا مع الأسد الأب فبراير/شباط 1982، كانت قد دفعته لاتخاذ كل الوسائل التي تمكنه من إضعاف السنة في بيروت ودمشق.

مثلت لحظة اتفاق المحاصصة في الطائف فرصة جديدة لتعريف هوية السنة في المجتمع اللبناني الطائفي، ورغم تقسيم السلطة وهندستها بين السنة والشيعة والموارنة، فإن السنة وقعت مجددًا في فخ غياب الممثل القادر على تمثيلهم. ويعود ذلك بالأساس لعدة أسباب سردنا أحدها من قبل، وهو سيطرة حافظ الأسد على مفاصل الدولة اللبنانية.

السبب الأهم في هذا التهميش يعود بالأساس إلى غياب المرجعية التي يمكن الاتكاء عليها في تغذية الطموحات والتحركات السنية في الداخل اللبناني، إذ تتمتع الطائفة المسيحية بالدعم الفرنسي والأمريكي، كما تتمتع الطائفة الشيعية بالدعم الإيراني الكامل، لذا عانت الطائفة السنية من الانقسام الحاد على نفسها، نتيجة غياب القطب الذي يوحدها.

وأبرز تجليات هذا الانفصام يظهر من تقارب الجماعة الإسلامية مع حزب الله، رغم وجود علاقات طيبة لها مع السعودية أيضًا، وهو الأمر الذي تكرر بين تيار المستقبل وحزب الله، والذي انتهى في الأخير إلى إجبار السعودية للتيار على استقالة ممثله من الحكومة، سعد الحريري، جميعها تجليات تظهر عمق الأزمة التي يعيشها السنة في لبنان.

والجدير بالذكر، أن ثورات الربيع العربي قد أحيت الأمل بإمكانية بروز محور سني قوى يدافع عن قضايا الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية، من خلال محور مصر-تركيا-قطر، الذي تجلى بصعود الإسلاميين المعتدلين إلى سدة الحكم، وهو ما ظهر صداه في تحسن العلاقة بين الجماعة الإسلامية وتيار المستقبل، لاسيما مع توافق مواقفهم من الثورة السورية، ومن مشاركة حزب الله تحديدًا، غير أن دعم تيار المستقبل للانقلاب العسكري في مصر دفع باتجاه توتر العلاقة بينهما مجددًا.

ومن المفارقات التي تحسب على السنة في لبنان محاولاتهم المستمرة تُجاوز الخطاب الطائفي المذهبي، الأمر الذي وضعهم في خانة غياب الفاعلية، لاسيما مع عدم تبني مواقف حاسمة من القضايا المختلفة، على خلاف الطوائف الأخرى، التي منحتها مذهبيتها نفوذًا وقوة.

ونحن هنا إذ نسرد الوقائع، لا نجادل بأهمية التمذهب والخطاب الجهوي الطائفي، بقدر ما نحاول تفسير هذا التوجه في لبنان، في محاولة للبحث في أسبابه، لفهم حاضر الطائفة السنية في لبنان، واستعراض تاريخها الحديث. بُغية استشراف مستقبلها وسط حالةٍ من تلبّد الغيوم تضرب المنطقة وتعصف باستقرار لبنان.


خريطة الفاعلين السنة

الجماعات الإسلامية

كانت البداية مع جماعة «عباد الرحمن» التي ظهرت عام 1950م على يد «محمد عمر الداعوق»، والتي انشق عنها مجموعة أخرى أسست الجماعة الإسلامية عام 1964 على يد «فتحي يكن»، وتعد امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين في لبنان. تبنت الجماعة الإسلامية منذ تأسيسها خطابًا معتدلًا عامًا. ربما يتهمه البعض بالتخاذل، وذلك نتيجة ما يتعرض له السنة من تهميش وإقصاء، لاسيما منذ سيطرة دولة الأسد على مفاصل الدولة اللبنانية.

تمتعت الجماعة بعلاقات قوية مع حزب الله، خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 79، والاجتياح الإسرائيلي للبنان. ما أفرز تحالفًا إسلاميًا (سني-شيعي) تحت اسم المقاومة الاسلامية، إذ مثّل المشروع الصهيوني الدافع الأبرز لتوحيد الحركة الإسلامية بشقيها السني والشيعي في لبنان، فأضحى هدف التخلص منه منهجية وقاعدة محورية. وتم على إثر ذلك تهميش الخلافات المذهبية والطائفية، إلا أن الأحداث الدموية التي شهدتها مدن سوريا على يد بشار الأسد وحليفيه حزب الله وإيران أصابت العلاقة بين الجماعة وحزب الله وإيران بتوتر وفتور كبيرين.

انشق «فتحي يكن» عن الجماعة مؤسسًا جبهة «العمل الإسلامي» عام 2006، والتي دعمت تحالف 8 آذار، بعد الخلاف الذي حدث بين الجماعة الإسلامية وحزب الله، وهو الأمر الذي دفع البعض للقول بأن تأسيس جبهة العمل كان بمبادرة من حزب الله، ليحل محل الجماعة، حتى يستمر الحزب في السيطرة على السنة والشيعة في لبنان، واحتكار الحديث باسم مسلمي لبنان، بما يحقق له تماسكًا في خطاب المقاومة ضد الكيان الصهيوني، وإزالة تهمة الطائفية عنه، لاسيما وأن حزب الله وإيران يتمتعان بخطاب عقلاني متميز في ألفاظه وأسلوبه، يبعتد عن التجييش المذهبي، بل حتى في السياسات مثل تلك الداعمة لحماس في فلسطين والجماعات الإسلامية السنية في مختلف الأقطار العربية.

تيار المستقبل

تأسس هذا التيار على يد رئيس الوزراء الأسبق «رفيق الحريري»، الذي تم اغتياله عام 2005، ويعد أهم ممثلي المسلمين السنة، نظرًا لما يتمتع به من علاقات إقليمية ودولية، لاسيما بعد تشكل تحالف 14 آذار الذي يعد أحد أهم ركائزه.

ادعى منذ تأسيسه سعيه نحو تحقيق مجموعة من الأهداف المرتبطة بتعزيز قيم التعايش المشترك وإرساء السلم الأهلي، ودعم القيم الديمقراطية والبرلمانية، ويعد هذا التيار مذ تأسيسه إلى الآن يدًا للسعودية في لبنان، لاسيما بعد وصول الحريري الابن إلى رئاسة الوزراء.

وتتوافق مواقفه مع مواقف النظام العربي الرسمي في قضاياه المختلفة، وفي مقدمتها الموقف من الصراع العربي-الصهيوني، كما أنه أيد الانقلاب الذي قام به الجيش على حكم جماعة الإخوان في مصر، وهو الأمر الذي أثر على علاقاته بالجماعة الإسلامية، رغم بعض المحاولات الساعية لتقوية الطائفة السنية في مواجهة المشروع الإيراني.

دار الإفتاء

دار الفتوى اللبنانية هي الممثل الرسمي للسنة، ويعد الشيخ «حسن خالد» أبرز شيوخها. تعالى نجمه بعد مواقفه المناهضة للنظام السوري، والتي أدت في النهاية إلى اغتياله. وهو حدث يُظهر استباحة رموز السنة في لبنان، وهو أمرٌ سنفصله لاحقًا.

جماعة الأسير السلفية

حاول الشيخ «أحمد الأسير» في 2012 أن يرد على حالة الصمت السني، فقرر الاعتصام في صيدا، بهدف الضغط من أجل نزع سلاح حزب الله الذي يقتل السنة في سوريا.خرج الأسير من عباءة سلفية، تستهدف المشروع الإيراني الشيعي في المنطقة. سرعان ما تطور اعتصامه إلى عمل مسلح، قاده للحصول على حكم بالإعدام بنهاية المطاف.


الاغتيالات هي الحل!

تعرض أغلب قادة ومسئولي السنة في لبنان إلى الاغتيال على يد النظام السوري. بدأت سلسلة الاغتيالات مع رئيس الوزراء، «رياض الصلح» الذي تعرض للاغتيال على يد أحد عناصر الحزب القومي الاجتماعي السوري، وهو الأمر الذي حدث مثله مع الرئيس «رشيد كرامي»، ثم الشيخ «حسن خالد»، أحد أبرز قادة السنة، وأخيرًا «رفيق الحريري»، الذي حصل على نفوذ قوي داخل الدولة اللبنانية، نتيجة المشروعات الاجتماعية والبنيوية، التي ساعدته فيها أموال السعودية، وهو ما دفع إلى اغتياله.

اقرأ أيضًا:العودة إلى بعبدا: نهاية عهد الطائف في لبنان

ونتيجةً لكل ما سبق طُرد الجيش السوري من لبنان عقب هذا الاغتيال، بعد وصول مسئولي التحقيق لمعلومات تفيد بتورط النظام السوري وحزب الله في عملية الاغتيال، وليس أدل من ذلك على غياب قوة داخلية تردع مخالفي السنة في الداخل، وتستمد قوتها من ذاتيتها، أو حتى من مصدر في الخارج، وهو الأمر الذي ازداد بشراسة بعد الثورة السورية، حيث تتعرض المناطق السنية في شمال لبنان وطرابلس إلى الاضطهاد الشديد، الذي تقوده مليشيا حزب الله، وعناصر الجيش اللبناني، الذي أضحى مطية في يد الأول، نتيجة الدعم الذي قدمته هذه المناطق للاجئين السوريين، الفارين من إجرام حزب الله ونظام الأسد.

ومع ذلك لا يجد السنة هناك من يتبنى الدفاع عنهم حقيقةً، إذ أضحى شعار الحرب على الإرهاب أداة الجميع لإرهاب السنة، ولا شيء أدل على ذلك أكثر من سجن «رومية»، سيئ السمعة، الذي أضحى حصرًا على السنة المشتبه فيهم، ولم لا وعناصر حزب الله تعود إلى لبنان باستقبال الفاتحين، في حين يقابل مقاتلو الثورة بالحديد والزنازين.


قادم قاتم لواقع أليم

هناك مجموعة من التحديات التي ستحدد مصير السنة في لبنان، ويتمثل أول هذه التحديات في الموازنة بين أولويات الأجندة الخارجية العربية و أولويات الشارع السني واللبناني، وعلى رأس هذا التحدي تأتي قضايا مشروع المقاومة ضد العدو الصهيوني في مقابل مشروع مواجهة التمدد الإيراني الشيعي في المنطقة من ناحية، مع تبني قيم وأهداف ثورات الربيع العربي من ناحية أخرى، فقدرة أي جماعة سنية على صياغة خطاب ورؤية لتفكيك ألغام تلك المشاريع ستكون مؤشرًا على مستقبلها، وطبيعة المسارات التي ستتخذها.

أما التحدي الثاني فيتمثل في شعور حزب الله بسيطرته شبه الكاملة على لبنان، وهو الأمر الذي قد يدفعه إلى تغيير اتفاق المحاصصة الذي أقرته معاهدة الطائف، وعليه فسيتشكل واقع جديدة يفرضه منطق القوة، وهذا المسار من المتوقع حدوثه مع تصاعد حدة الصراع السعودي–الإيراني في المنطقة.

وأخيرًا التحدي الثالث، ويتمثل في تمكن تشكيل سني من تبني خطاب ديمقراطي يقوم على قيم المواطنة والتعددية، وينادي بإعادة هندسة السلطة، وحل أزمة الدولة، من خلال اعتماد مشروع تحول ديمقراطي حقيقي، يقوم على قيمة المواطنة، ويتخذ من آليات الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وسيلة لتشكيل دولة لبنان الديمقراطية الوطنية، بعيدًا عن خطاب التمذهب المخداع، الذي جعل من لبنان مركزًا للتجاذبات الإقليمية، ما أفقدها فاعليتها، وجعلها بؤرة توتر دائمة وميزانًا للقوى الإقليمية، وهو الأمر الذي منح التيار الوطني الحر شرعية وقبولًا كبيرًا داخل المجتمع اللبناني، دون إغفال أهمية الدعم الخارجي للأخير.

وأخيرًا، فالقراءة الموضوعية للحالة السنية القائمة في المنطقة بصفة عامة، ولبنان بصفة خاصة، تُظهر حقيقة واحدة، وهي استمرار الانقسام السني الذاتي، مع قرب حدوث تسوية سورية، وتحسن العلاقات بين الجماعات الإسلامية وحزب الله وإيران، وعودة خطاب المقاومة من جديد، وهو ما شهدته العلاقة بين حماس «السنية» وحزب الله وإيران، من عودة للتحالف الاستراتيجي بينهم، ومتوقع أن يحدث مثله وأكثر بين الجماعة الإسلامية اللبنانية وحزب الله، مع استمرار العلاقات الجيدة بين الأحزاب القومية اللبنانية ونظام الأسد، باعتباره نظامًا مقاومًا ممانعًا، يتبع نهج القومية العربية التي وضع عبد الناصر ركائزها.

لذا تعد الإجابة عن تساؤل مصير أهل السنة في لبنان انعكاسًا مصغرًا لسؤال آخر أكثر مساحةً وعمقًا، وهو يتعلق بالسنة في العالمين العربي والإسلامي، حول المرجعية التي يمكن أن تقودهم في ظل غياب المأمول وهزلية الماثل.