من أشهر الكتب التي تناولت مفهوم المكانة، كتاب «قلق السعي إلى المكانة: الشعور بالرضا أو المهانة» للكاتب والفيلسوف البريطاني «آلان دو بوتون»، الكتاب ترجمة محمد عبد النبي، وصادر عن دار الشروق.

الكتاب يضع قضية هامة على طاولة البحث، وهي قلق الإنسان حول أن يكون محبوبًا من المجتمع، ويتطرق في هذا البحث بما هو ضروري لمفهوم المكانة الاجتماعية، أو ما الذي يُمكّن الشخص من أن يكون في قمة السلم الاجتماعي، ويحظى بما يرتبه الأمر من مميزات، وكذلك ما يجعل الإنسان في درجة من درجاته الدنيا، بما يترتب عليه رؤية الآخرين للشخص بنظرة من نظرات الإعجاب أو الاستحقار.

يعتبر الكتاب جامعًا لمجموعة من التساؤلات التي دارت في أذهاننا جميعًا، ولكنه يطرحها في تصور منظم، سيُشعرك حينًا بالبداهة وحينًا آخر بالمفاجأة، ولا يخفى أن هذه المسألة هي جزء أصيل من تصور فلسفة: أن تضعنا ثانيةً في مواجهة ما نعرفه أصلًا، وتضعه على بساط البحث، في محاولة لإعادة بحث ما نظرنا إليه على سبيل التسليم، فالكتاب مقدمة جيدة في تكوين تصور مناسب حول هذه المسألة.

يرى المؤلف أن هناك مجموعة من العوامل تتحكم بشكل أو بآخر في أن يكون الإنسان أعلى أو أقل شأنًا في المجتمع، وتختلف هذه العوامل من مجتمع لآخر، بل وفي نفس المجتمع بمرور الزمن.

تجتمع هذه العوامل بشكل ما فيما يُعرف بالقدرة على التأثير كان من أبرزها: الثروة، والسلطة، والشهرة، والموهبة نسبيًا، ومؤخرًا في عصر ازدهار التكنولوجيا من الممكن أن يكون عدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، كما يرى أنه من الممكن أن يكفي بشكل ما أن يتمتع بدرجة أو اثنين من هذه العوامل.

المكانة في مجتمعنا

لا يختلف الأمر كثيرًا بشأن هذه العوامل في المجتمع المصري، فهي تتفق على نحو كبير مع مجموعة العوامل السابقة، وتدور بوجه أو بآخر في هذا الفلك ربما باختلافات طفيفة.

فقوة التأثير تتزايد كلما مَلَك الفرد عددًا أكثر من العوامل، وتزداد قوة التأثير أيضًا كلما كان امتلاك عامل من هذه العوامل بصورة أكبر أو تم استخدامها بصورة مميزة.

غير أن المكانة في مجتمعنا من خلال النظر لمجموعة من الأحداث والظروف المحيطة تستلزم عاملًا آخرً، لا يمكنه وحده تحقيق المكانة وإن كان محلًا للتقدير من قبل العموم، وغيابه كفيل بتشويه صورة المكانة المقررة لصاحبها وموجبًا للاستحقار ولو اجتمعت باقي العوامل كافة، وكأنه اشتراط لحد أدنى للأهلية أو استحقاق النظرة الإيجابية للمكانة. وهذا المفهوم يستدعي قدرًا من التمهل لاستيعاب تعقده الشديد.

مفهوم خاص لتحقق المكانة

يعتبر العامل الذي لا يقبل الاختفاء والذي يعد فقده ضربة قاصمة في نظر المجتمع ومشوهًا للمكانة رغم توافر أحد أو كافة العوامل السابقة هو معيار «القوة/الفتوة» أو «الذكورة»، ويُقصَد بذلك السيطرة في مفهومها العام، فهو ليس مقصورًا على مفهومه الجنسي وإن كان مؤثرًا بشكل كبير، فيكفي أن توجه الاتهامات بأن الشخص له توجه جنسي مغاير أو أنه غير قادر جنسيًا، حتى تُوجه له نظرات الاحتقار.

ويلقي هذا المفهوم بظلاله على مجموعة من الأفعال التي تشمل فرض السطوة، والقدرة على الإخضاع، والقدرة على الانتقام، واستخدام العنف… إلخ. والذي ليس خافيًا ثبوتها كملمح واضح من ملامح الحارة المصرية وأدبياتها في تاريخ الفتوات.

وربما هذا المفهوم يعتبر المُنطق المُفسِر لمجموعة أخرى من الظواهر التي نجد لها تفسيرات مختلفة، ولكن من الصعب إيجاد مفاهيم جامعة لهذه الظواهر معًا بدونه.

مكانة المرأة في ظل هذا المفهوم

سيكون من الصعب أن تنال المرأة المكانة اللائقة في نظر المجتمع في ظل هذا المفهوم، والذي يجعل ترقيها للسلم الاجتماعي أمرًا محفوفًا بالمخاطر، فمهما بلغت من الرقي، والثروة، والسلطة، والشهرة، والتأثير، سيظل السؤال عن أمر زواجها أو إنجابها، وهو ما يمكن تفسيره برقي المكانة عبر الإلحاق وهو صلاحية المرأة لأن تكون ملحقة بمن يتمتع بالقوة أو الذكورة، فتتمتع بقدر اجتماعي أفضل في ضوء هذا المفهوم، وهو ما يفسر بشكل ما -بمفهوم المخالفة- نظرة المجتمع غير العادلة للمطلقات أو المتضررات من علاقات غير صحية، وكأنهن من جلبن هذا الوبال على أنفسهن، فهن غير صالحات لهذا الإلحاق، كما يسهم أيضًا -بجانب الأعباء المالية- في تفسير سباق الزواج الذي يجري بين الأسر لتزويج بناتهن لدرجة -حتى وإن كن قاصرات- واعتبار المرأة أقل درجة إذا ما بلغت سنًا معينة دون زواج، وهو الذي يُرى في مجمله كتحويل المرأة لسلعة للتخصيب أو الإنجاب.

كما يمكنه المساهمة في تفسير التحرش كظاهرة اجتماعية أكثر من كونها ظاهرة جنسية، فهو لا يخضع لمسألة الاستثارة الجنسية بقدر خضوعه للرغبة في فرض القوة والسيطرة، بغض النظر عن سن المتحرش، حيث ساد مؤخرًا أحداث تحرش لمنتقبات، وتحرش من أطفال صغار السن، لذا لا يمكن القول بأن الاستثارة قد بلغت ذلك المبلغ الذي لا يمكنه السيطرة عليه.

وكذلك ظاهرة العنف الأسري، فهي ليست نتيجة لضيق الحالة المادية فقط أو نتيجة لمسألة عدم التفاهم، إنما كل هذه الظواهر هي أعراض للشعور باحتمالية فقد السيطرة، باعتباره شعورًا مُهدِدًا للذات بفقدان المكانة، وموجِبًا للاستحقار، وذلك في ذهن الجاني.

ويقع في مركزية تسبيب اعتداء الأزواج على زوجاتهم، كما يفسر بالقدر ذاته ظاهرة تعدي الزوجات على أزواجهم –بغض النظر عن الأكثرية إحصائيًا– كما يفسر بالقدر ذاته تفسير تعديهما معًا أو تناوبًا على أطفالهما.

وهو ما يضع قيودًا ومجموعة من المفاهيم الخاصة التي تمس المرأة كالاحتشام أو ارتباط الشرف بها وحدها، باعتبار أن ما يقوم به الرجل لا يعيبه فهو مصدر القوة لا مُلحَقها.

الجدير بالذكر أن هذا المفهوم من المكانة، لا يرتبط بالمرأة وحدها، وإنما يأخذ الحكم ذاته -ولكن بدرجة تختلف- ما يمكن وصفه بـ «الرجل الضعيف» أو «المتحرر» أو «المخالف لأعراف القوة والسيطرة» أو «المغاير جنسيًا» أو «غير القادر جنسيًا» وهكذا، وهو ما يعد ملمحًا أشد تعقيدًا من هذا المفهوم الخاص، حيث إنه لا يكتفي بمعايير واضحة قدر وضوح القوة ذاتها.

ظواهر مجتمعية أخرى في ظل المفهوم الخاص

يمكن في ضوء هذا المفهوم تفسير مجموعة من الظواهر الاجتماعية، والتي قد تجد لها أصولًا دينية ولكن لا نجد أن التشبث بهذه الظواهر راجعًا للدين فحسب، بل لو تصادف أن الفهم الديني الصحيح يستلزم نبذ هذه الظواهر من الصعب أن نجد قبولًا أو إرساءً لهذا المفهوم الديني الجديد أو الأقرب لفلسفته، ويُعد المثال الأشهر في هذا الأمر قضيتا ضرب وتعدد الزوجات، حيث عقَّب أحد المتابعين لصفحة دار الإفتاء المصرية على الفتاوى المنشورة بأن «الأصل في الإسلام الزوجة الواحدة وأن للتعدد شروط… إلى نهاية الفتوى» بقوله: «أنت هتفتي؟»

كذلك حرمان المرأة أو الرجل الذي لا يتمتع بقدرة على السيطرة، من الميراث، رغم أن أحكام الميراث من أوضح الأحكام وأشدها أثرًا في الدين الإسلامي أو الإصرار على إعطائه في صورة مادية معينة، كالمال عوضًا عن الأرض، باعتبار أن الأرض من مظاهر القوة والملكية.

كذلك استخدام كلمة «ديوث» والتي خرجت كثيرًا عن أصلها الديني لتكون معنى شديد التطرف، كسُبَة لمجرد الإيمان بالمساواة -ولو كانت نسبية- بين الرجل والمرأة.

كما نجد تطبيقًا له في مجموعة من الظواهر اليومية في الطريق العام، كالتقابل بين سيارتين وإصرار أحدهما على إرجاع السائق الآخر لآخر الطريق، كذلك السباق الضمني والمفترض بين السيارات على طرق السفر، كذلك تعامل كل من يملك قدرًا من السلطة الوظيفية مع المواطنين بشكل غير لائق.

كما أنه في إطار هذا المفهوم يمكننا المساهمة في تفسير الصعود المستمر لنماذج سينمائية بعينها، تدور حول الأشخاص المسلحين بالسلاح الأبيض والقادرين على إخضاع الآخرين لهم.

وهذا المنظور الخاص شديد التعقيد في مفهوم المكانة ليس قاصرًا على تكوينه الذي يمنحه قوة وصعوبة في تفكيكه، فبالإضافة لما تتمتع به عادة المفاهيم والعادات الاجتماعية من قوة بمرور الزمن عليها وتوارثها عبر الأجيال، فإن التراجع والشك في هذا المفهوم يعد نقيصة لمعتنقيه لما يمكن وصفه بأنه ضعف أو انتقاص في مفهوم السيطرة، كما لا يقتصر هذا المفهوم على رؤية الذكور فقط وإنما يعمل على ترسيخه عن قصد أو دون قصد قطاع كبير من النساء في المجتمع المصري، وبغض النظر عن الأسباب الدافعة لذلك، فإن هذه النظرة  تمنح لهذا المفهوم حصانة أكبر على حصانته، وكأنها أحجية أخطبوطية التفت حول نفسها لتعتصر كل من لا يتمتع بتوافر هذا العامل تحديدًا دون غيره.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.