في الثاني والعشرين من شهر فبراير/ شباط 1854، كتب دستويفسكي من منفاه في سيبيريا لأخيه ميخائيل:

أَرْسِل إليَّ القرآن وكتاب كانط نقد العقل الخالص. وإذا كان بإمكانك أن ترسل إليَّ أيَّ شيء بصورة غير رسمية فابعث لي بكتب هيغل، خصوصًا كتابه «فلسفة التاريخ». إنَّ على ذلك يتوقف كلّ مستقبلي.

ترى، كيف يمكن لمستقبلِ أحدٍ ما ومصيره أن يتوقفا على قراءة هذا الكتاب أو ذاك؟ أيّ نظرة إلى الكتب، وما يمكن لها أن تفعله بالمرء وبمستقبله ومصيره هذه النظرة؟ لماذا اختار دستويفسكي، وهو الأديب، هذه الكتب على وجه التحديد، وهي كتب دينية وفلسفية وليست مما يُعَدّ في أعمال الأدب؟ كيف نفسّر تلك الأدوار الفلسفية أو الدينية أو السياسية التي لعبها الأدباء الروس من بوشكين إلى ماياكوفسكي، مرورًا بليرمنتوف وغوغول وبيلينسكي وهرزن وتورغنيف وغونتشاروف وأستروفسكي والعدميين والثوريين ودوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف؟ ما الذي يقف خلف تلك المصائر المريعة التي شهدتها حيوات كثير منهم، قتلًا ونفيًا وسجنًا وتشريدًا وفقرًا؟

لعل الإجابة تكمن في تاريخ روسيا الاجتماعي الثقافي، وموقع ما يُدْعَى «الإنتلجنسيا» أو المثقفين، وعلى رأسهم الأدباء، في ذلك التاريخ. فما إن انتهى عهد بطرس الأكبر (1672 -1725) بإصلاحاته الكبرى حتى برز انشقاقٌ حاد وصارخ بين الفئة الحاكمة وهذه الإنتلجنسيا؛ شكّل واحدًا من أكبر الأحداث المصيرية في التاريخ الروسي، وانضاف إلى تلك المشكلة الأساسية التي وَسَمَتْ حياة روسيا وتاريخها منذ عهد بطرس الأكبر فصاعدًا، ألا وهي انقطاع الصلة بين ما يمكن أن ندعوه ثقافة «الإنتلجنسيا الرفيعة» التي انتابها كثير من الصقل في العهود التي تلت عهد المصلح الكبير، وبين الثقافة الشعبية البسيطة واسعة الانتشار، والتي غلب أن تكون في أخفض مستوياتها.

هكذا شهد التاريخ الروسي فئةً يكاد ألا يكون لها مثيل في التاريخ العالمي من حيث التهاب نشاطها، مع أن الاستبداد القيصري الرهيب ورقابته المُحْكَمة كانا يحدّان على نحوٍ وحشيّ من قدرتها على إيصال أفكارها لمن ينبغي أن تصل لهم، فئة تُطْلِق أجرأ الأفكار في بلد إمبراطوري ليست لديه أيُّ تقاليد راسخة في الحرية، وفئة ترنو إلى الاستقلال مع أنها ليست –في الغالب- سوى جزء من الطبقة المعوزة في المدن.

ولقد أفضى ذلك كله إلى نشوب صراع هائل دام أكثر من قرن، وعرف آلاف الشهداء والضحايا بين الإنتلجنسيا والحكم المطلق. بل إنَّ بمقدور المرء أن يقرأ تاريخ روسيا في القرن التاسع عشر على أنه سلسلة من محاولات المثقفين، التي غالبًا ما كانت يائسةً ومحزنة، للاتصال بالشعب. وليس السؤال «ما العمل؟» الذي تطرحه سونيا في رواية دستويفسكي «الجريمة والعقاب» سوى سؤال مصيري يتردد خلال الأدب الروسي كله، ولدى قادة الفكر الروسي من شاداييف إلى لينين، في محاولةٍ لتهيئة الجواب.

ولقد قيل عن الروس، في هذا السياق، إنهم يتناولون الأفكار على مستوى عاطفي، فلا يكتفون من الفلسفة بدراستها بل يعيشونها، ويرمون من وراء المعرفة النظرية إلى نتائج عملية، ويبحثون في أي نظرية عن طريقة حياة. أما الأدب، فيكاد يشكّل جماع حياة روسيا الفكرية والثقافية، كما يقول تشيرنيشيفسكي الذي وضع هو نفسه رواية عنوانها: ما العمل؟ ففي بلدٍ حُرِمَ من المنافذ المتاحة في سواه من البلدان، خاصةً الغربية منها، كان العمل الأدبي حدثًا اجتماعيًا وسياسيًّا على الدوام. وكان تأثيره الأخلاقي والعاطفي أعظم وأعرض منه في أي مكان آخر في أوروبا، حتى إن القصة أو الرواية، التي هي في الغرب وسيلة من وسائل تصوير السلوك البشري، باتت تمتلك في روسيا إيقاع العاطفة النبوية والتغييرية وطرائقها.

وإذا ما كانت أوزان الأدباء الروس في ذلك العصر تتفاوت بتفاوت درجات إبداعهم وما خلقوه من أشكال فنية ورؤى للعالم ومشكلاته وقضاياه، فإنّ همزة الوصل بين كل الواقعيين الروس، الذين شكّلوا ذروة الأدب الروسي ولا تزال إبداعاتهم أشبه بالمفاجأة الطازجة والمُلْهِمة، تبقى نقد الواقع القائم، هذا النقد الذي يشكل واحدة من أبرز السمات المميزة للقصّ الروسي وتكاد أن تجعل للأدب الروسي موضوعاته التي راح يكررها الكتّاب الروس منذ بوشكين فصاعدًا: أهمية الإصلاح، دور القوة والثورة في التاريخ الروسي، الصدع بين المجتمع المتأثر بالغرب وجماهير الشعب المتمسكة بالتقاليد القومية، الصدام بين تطلعات الرجل الصغير المُذلّ والمُهَان وأعمال القهر التي تمارسها الدولة الكبيرة، قضية الإنسان الزائد عن الحاجة، تعقيد الطبيعة البشرية، فِعْل العاطفة المدمِّر وسحرها الجمالي، سموّ القلب البسيط الأخلاقي على الادِّعاء الثوري الانتهازي.

وعلى الرغم من اختلاف دوستويفسكي وتميزه، فإنه كان في النهاية كاتبًا روسيًا من أبناء جيله، وكان هذا الجيل يستوحي أيديولوجية تقدّس الحياة وتضعها فوق الفن، أو تسعى إلى تسويغ الفن بمقدار ما يهب الحياة من تنوير وآمال في الترقّي. ولعل تميز دوستويفسكي يكمن في تطويعه هذا المفهوم تبعًا لقدرته الخلاّقة، فقد محا الخط الذي يفصل بين المنطقي وغير المنطقي، وبين العادي وغير العادي، في محاولةٍ لاستكشاف جوهر الواقع ليس من خلال مظاهره اليومية المعتادة، بل عبر ما هو شاذ وغريب. فكان يعمد إلى وضع أبطاله في ظروف بالغة الشذوذ والخروج على القياس لكي يرى كيف يتفاعلون ولكي يدرك مقدار العناء الذي يسعهم احتماله، آملًا أن يستخلص سر الإنسان والحياة من هذه الظاهرات الشاذة غير العادية أكثر من استخلاصها من الظاهرات العادية.

كما يكمن تميّز دستويفسكي في كونه أول كاتب روسي يركّز على المدينة الكبيرة بما فيها من اندفاعٍ ومتناقضاتٍ فاجعةٍ وسوءٍ ظاهرٍ وباطن. وعادة ما تكون شخصياته الأهم من المقيمين في المدن. والمدينة –أو الأصح العاصمة- هي خلفيته التي لا تنفكّ تتكرر في أعماله، حيث يستقصي فيها إلى النهاية مشكلات ساكنها ومآزقه وتناقضاته، خاصةً مشكلات ومآزق الرجل الصغير، والمصير التعس لفريسة الظلم الاجتماعي في عالم مضاد. بيد أن دستويفسكي، بفنّه العظيم، يطور ذلك إلى إثارة مشكلة الإنسان على الأرض، ويضع نظام الأشياء برمّته موضع تساؤل اجتماعي وأخلاقي وميتافيزيقي.

وإذا ما كان ذلك كله يتم من خلال تقديمه شخصيات مركبة تكشف عن قدر كبير من الاعتلال النفسي، وتُصَوَّر أثناء مدّ معاركها الداخلية وحركيّة متناقضاتها، فإنَّ ذلك يُوضَع على خلفيةِ الأحداث والصراعات الجارية في المجتمع. وبذلك يُبْرَز الصدام بين حوافز الإنسان المتناقضة وتُنَاقش حدود الحرية وجوهر الطبيعة البشرية في إطار الصراع بين البشر، أو بين نوعين من البشر: الضعفاء، خانعين ومقاومين، من جهة أولى، وسادة الحياة القساة الذين ينبذون نواميس الأخلاق ويتخطون حدود الخير والشر، من جهة ثانية.

ويكمن تميز دستويفسكي، إذًا وأيضًا، في رصده ذلك التنازع الدرامي البالغ في دخيلة الحياة والنفس الإنسانيتين، حتى إن نيتشه يصفه بأنه «السيكولوجي الوحيد الذي كان لي أن أتعلم منه شيئًا». غير أن الرواية النفسية التي يقدمها دستويفسكي، والتي كثيرًا ما تتنكر في رداء الرواية البوليسية، هي في الواقع رواية أفكار. وهذه الأخيرة لا تُنَاقَش مناقشةً من قبل شخصيات مختلفة، بل تتجسد في هذه الشخصيات التي تعيش المشكلات والتصورات والمواقف والأفكار على مسرح دستويفسكي في يأس وألم وشهوة وجنون، وبطريقة بالغة الذاتية والعنف، وبذلك تتنـزل من علياء التجريد والتعميم إلى أرض المصائر الملموسة.

وإذا ما كان كلّ شيء يكتسب أحجامًا مفرطة في قصّ دستويفسكي الكابوسي الذي يكاد التوتر فيه يفوق الاحتمال، وتتسابق الحوادث بسرعة تسبب الدوار، وتتناوب المؤامرات الشيطانية والخلافات المالية والحرائق والاغتصاب والقتل والانتحار والجنون والابتزاز، وتمر مواكب الطلبة الجياع والمومسات الفاضلات والمقامرين والمتآمرين والقتلة المفكرين والعدميين والفتيات المازوخيات والرهبان والخطاة وأنقياء القلب والفلاسفة وبشر العالم السفلي والباحثين عن الله، فإن ذلك لا يكشف عن طاقة خالقه التخييلية الهائلة وحسب، بل أيضًا عن تلك الأخطار التي تنطوي عليها النفس البشرية في عالمٍ مجحف راح دستويفسكي يستكشفهما معًا ويسبر غورهما بقسوة وإحساس مرهف بالألم وبصيرة حادّة على نحو مرعب، كما لو أن العين تبصر الجنة والجحيم من خلال سحب مزّقتها الصاعقة.

وإزاء ذلك كله لا يعود مهمًا كثيرًا أن يتفق القارئ أم لا مع دستويفسكي في آرائه وأفكاره وتديّنه وسلافيته، مما نجده في مقالاته وأبحاثه، بل في بعض رواياته، ذلك أن جرأة دستويفسكي البالغة في استقصاء أسس الحياة والمجتمع والنفس، وتوقّد روحه وانفعاله ومعارضته، وقبل هذا وذاك صدقه الفني، هو ما يجعل منه ذلك الكاتب العميق دائم التجدد ويحوّل أسوأ تفاهاته السياسية وأخطائه الاجتماعية إلى دفاع عنيف عن البشر عمومًا وعن الإنسان الضعيف المسكين بوجهٍ خاص.

وإذا ما كنا قد بدأنا من تاريخ روسيا الاجتماعي والثقافي ومن الشعب الروسي وصولًا إلى دستويفسكي، فإن بمقدورنا الآن أن نختم بما قاله برديائيف عن دستويفسكي، في إشارةٍ إلى الفعل المقابل الذي يمارسه الفرد على الشعب والتاريخ والثقافة:

إن قيمة دستويفسكي لمن الضخامة بحيث أنَّ مجرد خروجه من الشعب الروسي تسويغٌ كافٍ بحدّ ذاته لوجود ذلك الشعب في العالم، ولسوف يشهد لمواطنيه يوم دينونة الشعوب.

ويبقى أنَّ إعادة نشر ترجمة هذا الكتاب التي صدرت عام 1955 عن دار ابن المقفع في دمشق لا تقتصر على الاحتفاء بكاتب عالمي كبير، بل تتعداه إلى الاحتفاء بمترجمٍ سوري قديم وقدير، هو فريد أنطونيوس، قدّم للمكتبة عددًا من الأعمال المهمة المميّزة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.