ليلة الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2017، صافرات الحكام تدوي في العاصمة الجابونية «ليبرفيل» معلنة بدء «كأس الأمم الأفريقية»، هتافات المشجعين تحتل الشاشات ووكالات الأنباء، وصور الرئيس الجابوني «علي بونجو» تتصدر الصحف ونشرات الأخبار وهو يحتفل باستضافة بلاده الحدث الرياضي الأبرز في القارة السمراء.

تبدو تلك المشاهد رومانسية وبريئة تماما،يخال للبعض حينها أن الجابون ليس إلا بلدًا صغيرًا هادئًا هانئًا في غرب أفريقيا، ويُهيأ للناظرين كم هو رقيق وحنون رئيسها «علي بونجو» وهو يوزع ابتساماته على الجمهور والشاشات.

ما قد يخفى على الكثيرين أن الجابون – ذلك البلد الصغير حجمًا ومساحة – يمتلك حكايته الخاصة التي تستحق أن تُروى، حكايته التي يُضرب بها المثل في الظلم والفساد والديكتاتورية، يمتلك قصته التي تروي بؤس الاستعمار وخيانة القوى العظمى للشعوب الفقيرة، القصة التي سنسردها – بإيجاز غير مخل – في السطور التالية.


فما هي قصة الجابون؟

الجابون هي جمهورية صغيرة، تقع على الساحل الغربي لوسط أفريقيا، عند خط الاستواء تماما، وكما توضح الخريطة فهي محاطة بخليج غينيا من الغرب، إذ تطل عليه مدينة «ليبرفيل» أكبر مدن البلاد وعاصمتها، فيما يحيطها شمالًا كلا من من غينيا الاستوائية والكاميرون، وتحدها جمهورية الكونغو من الشرق والجنوب.تعد الغابون من أصغر البلدان الأفريقية من حيث الكثافة السكانية، إذ يبلغ عدد سكانها نحو المليون ونصف نسمة، يسكنون على مساحة 270.000 مترًا مربعًا، ورغم صغر عدد سكانها، فإنهم يتوزعون على نحو 40 مجموعة عرقية، أهمها عرقية الفانج Fang التي تشكل نحو 29 % من مجموع سكان البلاد.وكما يوضح تقرير صادر عن مكتب حقوق الإنسان التابع لوزارة الخارجية الأمريكية عام 2007، فإن أغلب سكان الغابون يدينون بالمسيحية، وتبلغ نسبة من يعتنقون الإسلام نحو 12% من سكان البلاد، فيما يدين نحو 12 % بالديانات المحلية التقليدية، مع نحو 5 % من السكان لا يدينون بأي دين.


جمهورية الجابون، لصاحبها «عمر بونجو» وأولاده

لم تهنأ الجابون طويلًا بعيد استقلالها عن الاحتلال الفرنسي عام 1960، فبعدها بعام تم انتخاب «ليون إمبا» رئيسًا، كان إمبا متحمسًا للإطاحة بالديمقراطية البرلمانية في البلاد؛ تم قمع الصحافة وفُرضت قيود على حرية التعبير في البلاد، وتم حظر المظاهرات السياسية، وبعدها بسنوات قليلة تم فرض نظام الحزب الواحد، وبضغط فرنسي، قرر إمبا -العجوز المريض-تعيين «ألبرت بيرنارد» نائبًا للرئيس، كان بيرنارد جنديًا سابقًا في خدمة الفرنسيين، وقد أعلن لاحقا إسلامه وغير اسمه إلى «عمر بونجو».تولّى «بونجو» السلطة بعد وفاة إمبا عام 1967، ولمدة أربعة عقود سار بونجو على نهج سلفه في القمع والفساد؛ فتم إلغاء منصب نائب الرئيس، و احتفظ الرئيس بكل الصلاحيات، مثل حل الجمعية الوطنية وإعلان حالة الطوارئ وتأخير التشريعات وإجراء الاستفتاءات وتعيين أو إقالة رئيس الحكومة والوزراء، وفي عام 2003 تم تعديل الدستور لإزالة أي قيود على عدد فترات الرئاسة، كما أن «عمر» قد عين نجله «علي» وزيرًا للدفاع، تمهيدًا لتوريثه الحكم من بعده.

http://gty.im/113990063

وفي العاشر من يونيه / حزيران 2009، وفيما كان الرئيس الجابوني «عمر بونجو» يُسلم الروح إلى بارئها بعد أن قضى أكثر من أربعين عامًا في سدة الحكم،خرج نجله وزير الدفاع «علي بونجو» داعيًا الشعب إلى الهدوء، قال إنه يطالب الشعب بهذا «باسم العائلة»، وليس بصفته قائدًا للجيش، لكن الجميع كان يعلم حينها أن حديث بونجو الصغير لم يكن بالطبع بتلك البراءة، وأن وراء صوت الابن المقنع بالحزن ثمة تهديد ووعيد لكل من تسول له نفسه أن يظن أن مسيرة «عائلة بونجو» في الحكم قد انتهت بوفاة الوالد.

فبونجو الصغير كان قد أمر لتوه بإغلاق مداخل ومخارج البلاد برًا وبحرًا وجوًا، ونشر كل مكونات قوات الدفاع حول كل المواقع الحساسة في البلاد، كانت كل تلك الإجراءات تهدف إلى ضمان انتقال سلسٍ للسلطة من الأب إلى الابن، وهو الأمر الذي تم بالفعل، إذ فاز «علي بونجو» بالانتخابات التي جرت في أغسطس / آب من ذات العام، ليكمل مسيرة والده الطويلة في الحكم، وليستمر في منصبه حتى يومنا هذا.

لم يكُن فوز علي بونجو وليد شعبيته الجارفة في البلاد، بل إن بعض المصادر الفرنسية تذهب إلي التأكيد أن النتيجة الحقيقية كانت لصالح المرشح المنافس. حينها، اندلعت أعمال شغب في العاصمة وبعض مدن البلاد احتجاجًا على النتائج، لكن بونجو الابن تمكن من الاستمرار، مدعومًا بدعم دولي عمومًا، و برغبة فرنسية جارفة على وجه الخصوص، إذ كان الجميع يتواطأ لكي يصل لسدة الحكم في البلاد ابنٌ يسير على نهج أبيه، ولضمان مصالح الشبكات والدول الداعمة التي لم يكن يعنيها مصلحة شعب الجابون بأي حال.


الاستعمار الفرنسي للجابون Vs الاستعمار الجابوني لفرنسا

يعود النفوذ الفرنسي في «جمهورية الجابون» إلى لحظة الاستقلال، ويُمكن القول إن البلاد لم تنل استقلالها الفعلي حتى اليوم، فبسبب ثروتها النفطية، ظلت الجابون مطمعًا للرؤساء الفرنسيين المتعاقبين.

كان الجنرال الفرنسي «شارل ديجول» مسكونًا بالرغبة في الحفاظ على الهيمنة الفرنسية في أفريقيا حتى بعد أن اضطر إلى الانسحاب من المستعمرات الفرنسية السابقة،وقد كان مهتمًا بشكل خاص بالحفاظ على النفوذ الفرنسي في مجال الطاقة، ولما كانت فرنسا قد اضطرت إلى الانسحاب من الجزائر عام 1962 بعد حرب ضروس، فقد أصبحت الجابون الغنية بالنفط حجر زاوية في السياسة الطاقوية الفرنسية.كانت الذراع الضاربة لفرنسا في أفريقيا هي شركة «آلف آكيتين» التي تأسست بأمر من ديجول، وأسند قيادتها إلى بعض رجال استخباراته المخلصين، كانت استراتيجية الشركة قائمة على صناعة ولاءات راسخة لفرنسا بين زعماء الدول الأفريقية، و لحماية أنشطة ألف وضمان تدفق النفط الأفريقي كان لا بد من وضع آلية لحماية الأنظمة الموالية والتخلص من المناوئة لفرنسا وضمان الانتقال السلس للسلطة عند الحاجة إلى ذلك، فقد كان ديجول يرى أنّ عدم الاستقرار السياسي في أفريقيا يضر مصالح فرنسا.ولعقود طويلة فقد ظلت «شبكات فرنسا – أفريقيا» أو ما يعرف بـ «خلية أفريقيا» في الإليزيه هي التي تدير التحكم الفرنسي في مناطق نفوذها بأفريقيا بعيدًا عن أعين المؤسسات الفرنسية الرسمية، وبطريقة مخابراتية غير نزيهة غالبًا كانت تأتي بالحكام وتذهب بهم، وتصنع الدسائس وتدبر الانقلابات، وقد كانت الجابون إحدى أهم الدول التي تمارس فيها فرنسا تلك الهيمنة.شاهد: وثائقي: أفريقيا فرنسا القارة المستباحة الجزء1الجزء 2ففرنسا هي التي دعمت وصول ليون إمبا ونائبه عمر بونجو إلى السلطة بعد الاستقلال، وحين وقعت محاولة انقلاب عسكري عام 1964 سارعت باريس إلى إرسال المئات من جنودها في غضون ساعات قليلة، لإجهاض الانقلاب وإعادة إمبا إلى السلطة، وفرنسا هي التي جاءت بعمر بونجو إلى منصب نائب الرئيس، وضمنت له الوصول إلى الرئاسة بعد ذلك، كما كانت دعامته الأساسية في الحفاظ على حكمه طوال أربعة عقود، وتسلطه على الشعب وقمعه للمعارضة، وقد كانت جنازة بونجو حافلة بالقادة والمسؤولين الفرنسيين من كل الأجيال والأحزاب سابقين وحاليين، وقد حضرها رئيسان فرنسيان – جاك شيراك ونيكولا ساركوزي – فيما لا يخلو من دلالة واضحة على أهمية نظامه للمصالح الفرنسية.

لم يكن الدعم الفرنسي لعائلة بونجو مجانيًا، فقد كان للفرنسيين دومًا نصيب الأسد من الاستفادة من الثروات الجابونية، وقد حرص الرئيس الحالي بونجو الابن على الحفاظ على علاقات جيدة مع فرنسا،فكانت أول زيارة خارجية له من نصيب الرئيس الفرنسي حينئذ نيكولا ساركوزي، ويبدو أن النفوذ الفرنسي في الجابون متسع وتاريخي لدرجة أنك في كل أزمة للجابون -داخلية كانت أم خارجية- تجد اسم فرنسا حاضرًا إما بالتدخل الصريح أو بالوساطة، كما أن فرنسا تمتلك قاعدة عسكرية في الجابون تقع في مدينة بانجي، تقول إن هدفها توفير الحماية للمواطنين الفرنسيين هناك، وإن كان لا يخفى على أحد هدفها الحقيقي من حفظ مصالحها السياسية والإبقاء على حلفائها في السلطة هناك.

وقد كان إيمان عمر بونجو العميق بفرنسا، وولائه لها، وإدراكه أن الفرنسيين – لا الجابونيين – هم من بيدهم الحل والعقد، كان ذلك يدفعه إلى متابعة أدق تفاصيل السياسة الفرنسية، وبناء علاقات شخصية مع الشخصيات التي يرى أنها ستلعب دورًا مهمًا في السياسة هناك، وساعدته أموال النفط على «رشوة» ساسة فرنسيين، من بينهم رؤساء – قيل إن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي قد حصل على تمويل لحملته في 2007 من بونجو – وهو ما سخر منه بعض الإعلاميين الفرنسيين وأطلقوا عليه «الاستعمار الجابوني».

الجابون بلد غني، الجابونيون مواطنون فقراء

staticmap
http://gty.im/598653644

في الأول من يوليو/تموز 2016 قام وزير البترول الجابوني «إتينيه نوجوبو»بزيارة تاريخية للسكرتارية العامة لمنظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك» في فيينا، ليعلن عودة بلاده إلى المنظمة بعد عشرين عامًا على مغادرتها.من يعرف الجابون يعلم أنها دولة غنية بالنفط، و تمثل عائدات نحو نصف الدخل القومي للبلاد، ونحو 80 % من إجمالي الصادرات، وإذا علمنا أن الجابون تمتلك كذلك ربع الاحتياطي العالمي من معدن المنجنيز، وأن عدد سكانها قليل للغاية، قد نتوقع أن مواطنيها يهنؤون برغد العيش، خاصة أن الأرقام تشير – نظريا – أن دخل الفرد في البلاد يفوق بكثير دخل الفرد في الدول المجاورة.لكن الحقيقة المفجعة أن ثلث سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر، الثروة في البلاد متوفرة، لكن توزيعها ليس عادلا بأي حال، تتركز مقدرات البلاد بيد قلة قليلة تتلذذ بترك أغلب الشعب يئن من فرط الجوع والحاجة.في أغسطس/آب 2016، أعيد انتخاب علي بونجو رئيسا لفترة ثانية مدتها 7 سنوات، ومجددا اتّهم علي بونجو بتزوير النتيجة، واندفع مئات المتظاهرين الغاضبين إلى الشوارع هاتفين ضد حكم بونجو، وأُشعلت النيران في مقر البرلمان، وقد كان الوضع من الخطورة بحيث اضطر بونجو إلى استخدام الغاز المدمع والقنابل الصوتية، فضلا عن الاستعانة بالمروحيات لصد المتظاهرين، وقد قتل نحو خمسة أشخاص، واعتقلت السلطات حوالي ألف متظاهر، قبل أن تتمكن في النهاية من قمع «الانتفاضة» واستعادة السيطرة على الأوضاع في البلاد.


مضي أكثر من نصف قرن علي استقلال الجابون -شكليًا علي الأقل- عن فرنسا،عقود طويلة تبددت فيها غيرَ مرةٍ أمالُ الجابونيين في العيش الكريم،انهارت فيها طموحاتهم في الاستفادة من ثروات بلادهم، السيد بونجو وعائلته ورفاقه وشركاه قد أتوا علي الأخضر واليابس في البلاد، وحكموها بالحديد والنار، فأصبح الجابون -وهو البلد الغني- صاحب نسبة قياسية من المواطنين الفقراء البؤساء.

كانت هذه فصول من حكاية شعب الجابون، الفصول التي لا تحكي إلا المأساة تلو المأساة، فهل تخبئ نهاية الحكاية فصلا آخرَ أكثر سعادة ورحمة بالبؤساء المطحونين ؟ … رُبّما