تعد أحد أعظم الخدع التي يمتلكها المخرجون وصانعو الأفلام الهوليودية هو جعلك تتعاطف مع البطل أيًا ما كانت أفعاله، ربما يكون قاتلًا محترفًا يعيث في الأرض فسادًا وقتلًا للأبرياء، لكن قلبك لا يتوقف عن الخفق كلما اقتربت الشرطة من إلقاء القبض عليه. الأمر برمته يكمن في: حكي القصة بمنظور مختلف.

الرؤية من زاوية واحدة للتناول وعرض كل دوافعها الأخلاقية، يجعلك سريعًا تتعاطف معها ومن ثم تكره الطرف المعاكس مهما كان راسخًا بداخلك أن ذلك الطرف المعاكس هو الحق ذاته؛ كالشرطة التي تقبض على القاتل. الغريب أن الفيلم نفسه إن تمت إعادة صياغته للحكي من منظور ضابط الشرطة، ستجد نفسك تكره القاتل كرهًا شديدًا. هذا ليس عيبًا فيك ولا في مبادئك، لكنها طبيعة بشرية يتقن هؤلاء الصناع اللعب عليها.

نستطيع بسهولة تطبيق ذلك الإسقاط على تعامل أغلب الشعوب مع المطالبات الضريبية. فمهما كنت تظن خيرًا في حكومة الدولة التي تعيش على أرضها، فإنك دائمًا تنظر لهيئة الضرائب على كونها الثعلب الذي يرغب في أكل خرافك بلا هوادة. الأمر يتعاظم إن كانت تلك المطالبات ضد أحد المشاهير التي تتعلق بهم، تخيل الأمر إذن إذا تعلق بأمثال «ميسي» و«رونالدو».


إذا عُرف السبب

مع التطور الاقتصادي الذي يتغلغل في كل أرجاء لعبة كرة القدم، بدأت الهيئات الضريبية في كل دولة تزيد من التركيز مع المؤسسات الخاصة باللعبة من أجل ضمان حقوقها في كل الملايين التي تتبعثر على كل جانب. تزامن ذلك التركيز مع انتهاء فترة يُطلق عليها المختصون «سنوات سيب – Sepp years»، إشارة إلى الرئيس السابق للفيفا «سيب بلاتر».

أثبتت الحقائق والمستندات أن تلك الفترة كانت الأكثر فسادًا في تاريخ هذه اللعبة. ربما لم يكن بلاتر نفسه الأكثر فسادًا بين كل من سبقوه، لكن الملايين في تلك الفترة كانت رقمًا سهلًا، بالتالي كان حجم التلاعب أضخم ماديًا بشكل يجعل الجميع يصفها بالأفسد، كما أن هذه الفترة لم يتم التخطيط الضريبي لها بشكل جيد من قبل الأندية والشركات التي تُدير شئون اللاعبين.

بات من الطبيعي أن نسمع بين حين وآخر أن هذا اللاعب أو ذاك سيمثُل أمام القضاء من أجل النظر في اتهامه بالتهرب الضريبي أو التلاعب الذي تم ضبطه من قبل المحققين. وبالطبع، يرتكز الاتهام الموجه ضد اللاعبين إلى شقين:

أن تكون تلك الادعاءات ظلمًا أو تحايلاً من الهيئات الحكومية من أجل نيل أكبر مكسب ممكن من اللاعبين الأجانب الذين يجنون الملايين فوق أراضيهم، وبالتالي يضطر اللاعب للدفع من أجل استمرار بقائه، أو أن هؤلاء اللاعبين بالفعل متهربون ضريبيًا بما يضعهم تحت المساءلة القانونية.


الدول فيما يفرضون مذاهب

حتى نوفمبر 2018، كانت هيئة الضرائب الإنجليزية تنظر في شئون 171 لاعبًا و44 ناديًا و31 وكيلاً، جميعهم لديهم مواقف ضريبية غير سليمة، وحسب ما أعلنته تلك المؤسسة فلقد استعادت 332 مليون جنيه إسترليني، دون تسمية الوكلاء أو النوادي أو اللاعبين المعنيين، ما يعني أن التهرب والتلاعب احتمال قائم بشكل لا يمكن للجماهير تصوره.

ولفهم الأمور بوضوح أكثر، عليك أن تعرف أن الضرائب تلاحق اللاعبين في جهتين بشكلٍ مخصص: ضرائب على الأجور السنوية، وضرائب على الإضافات على الأجور؛ أي كل دخل يزيد عن الأجر السنوي العادي.

تشرح مسألة الضرائب على الأجور أمرًا ثانويًا على تلك القضية وهو تهافت اللاعبين، خاصة كبار السن منهم، على الذهاب إلى دول بعيدة عن أصل كرة القدم، كروسيا والصين واليابان وغيرهم، حيث تُعتبر هذه الدول منزوعة الضرائب تقريبًا. فتفرض روسيا مثلًا 13% فقط كمعدل ثابت للضرائب على الأجور، فإذا تعاقد اللاعب على أجر 200 ألف جنيه بالأسبوع،سيحصل في روسيا على 174 ألفًا صافية بعد خصم الضرائب، في حين لن ينال منهم إلا 96 ألفًا فقط إن كان يلعب في إسبانيا، و106 ألف تقريبًا إن كان يلعب في إنجلترا.

تفرض الحكومة الإسبانية المعدل الأعلى للضرائب بين كل الدوريات الخمس الكبرى، بـ 52%، تليها ألمانيا بـ 47.5% ثم إيطاليا بـ 46.2% وإنجلترا وفرنسا بـ 45% لكل منهما، عدا إمارة موناكو بفرنسا والتي تتساوى مع روسيا بـ 13% فقط.


أثر الفراشة

اللاعب الإنجليزي «ديفيد بيكهام» عن تجديد عقده مع مانشستر يونايتد عام 2002

بوضوح يمكن أن نؤكد أن الضرائب على الأجور، وإن كانت مبالغًا فيها، لكنها لا تمثل ضغطًا كبيرًا على العناصر الرياضية في ظل وجود التفاوض حول الأجر الصافي بعد خصم الضرائب، ما يعني أن اللاعبين باتوا لا يتحملون عبء هذه القيمة بل النادي، لكن القضية الأكثر جدلية هي الضرائب على الدخول الزائدة عن الأجور.

على سبيل المثال، تتراوح أجور كريستيانو رونالدو سنويًا في حدود 17 مليون يورو، وفقًا لعقده الأخير مع ريال مدريد قبل أن يرحل في صيف 2018. في حين يقدر دخله من الأرباح التجارية بنحو 23 مليون يورو سنويًا، حتى نفس الفترة، ما يؤكد أن اللاعبين من الفئة الأولى لا يعتمدون بشكل كبير على الأجر العادي بل على دخول إضافية.

تم وضع نظام الضرائب على استخدام العلامة التجارية وحقوق الصور في إنجلترا مع التعديلات التي دخلت على البطولة في التسعينيات، حيث كان المفترض أن يدفع النادي قيمة ثابتة للاعبيه بالكامل مقابل استخدام حقوق صورهم في الدعاية والإعلانات، لكن بقدوم الثلاثي «بيركامب» و«باتريك فييرا» و«ديفيد بلات» إلى أرسنال كان لابد من إحداث تغيير.

امتلك الثلاثي عقودًا مع شركات خارجية تُدير استخدامهم تجاريًا، مما جعل مقدار ما يحصلون عليه أكبر بكثير من النسب الطبيعية المعروفة لدى المسئولين هناك. بيركامب مثلًا كان يحصل على راتب 2 مليون جنيه إسترليني كأجر من النادي، و1.5 مليون من استخدام صوره دعائيًا، فكانوا هم الثلاثي الأول الذي يضع بنودًا جديدة في التفاوض على بيع حقوق الصور، أو ربما يمكن تسميتها بأنها حالة التحايل الأولى من نوعها على الضرائب.


هجرة الأموال

في حالة ثلاثي أرسنال السابق ذكرهم، كان المفترض أن يدفع كل منهم ما قيمته 50% من عوائد بيع صورتهم التجارية كضرائب، لكن بتحايل بسيط تقاسم النادي واللاعبون هذه القيمة، فتم تعديل عقودهم فلم يمتلك النادي 100% من حقوق بيع صورهم كما كان الوضع مع كافة اللاعبين، بل تم تقسيم النسبة بين كلا الطرفين، فانخفضت النسبة المدفوعة على الصور من 50% إلى 28%.

ما ساعدهم في تلك الحالة هو وجود الشركات التي تدير تلك الصور التجارية خارج إنجلترا، ما يعني أن الضرائب لم تُدفع بقيمة ثابتة في النصفين، وهو شيء ما كان يمكن للاعبين المحليين الإقدام على مثله، حتى بات ذلك الشأن مشاعًا للجميع.

أصبح كافة اللاعبين، أمثال رونالدو وميسي وكل من في فئتهم، ينشئ شركات من الباطن في بلدان خارج إسبانيا وإنجلترا وغيرهما من أجل الحصول على حقوق بيع صورهم بشكلٍ كامل، على أن تكون الضرائب في تلك البلدان منخفضة للغاية، مثل سويسرا أو بنما أو ما إلى ذلك.

وقد كشفت وثائق المحكمة الإسبانية أن هناك تحقيقات جرت ضد «صامويل إيتو» لأربع تهم تتعلق بالاحتيال الضريبي الذي يمثل ما يقرب من 4 ملايين دولار بين عامي 2006 و 2009، وطالبت المحكمة بحبسه ووكيله مدة لا تقل عن 10 سنوات بجانب غرامة حوالي 15 مليون، حيث يُتهم إيتو بالالتفاف على الضرائب من خلال حقوق صور معقدة وغير قانونية بعدما أدار اللاعب شركتين باسم «Bulte 2002» في إسبانيا و«Tradesport» في المجر، وسمح لهما بتحويل حقوقه دون الحاجة إلى دفع الضرائب.

لا يمكن وضع إيتو وحيدًا في هذه القائمة، فبعيدًا عن ميسي الذي نال عقوبة الحبس مع إيقاف التنفيذ، والغرامة التي وقعت على رونالدو بحوالي 20 مليون يورو بعد التسوية، و مورينيو الذي قُضي عليه بالحكم لمدة سنة مع عدم التنفيذ أيضًا، يمكن القول إن كل اللاعبين تقريبًا يخوضون مثل هذه الممارسات غير القانونية من أجل نفس السبب: عدم دفع الضرائب كاملة.


من أمِن العقاب

المشكلة ليست في الأجر بل المشكلة تكمن في حقوق الصور الخاصة بي.

أجرت وكالة «رويترز» بالتعاون مع مجلة «دير شبيجل» الألمانية ضمن تحقيقات الأخيرة بعنوان «تسريبات كرة القدم – Football leaks»تحقيقًا مطولًا عن واحد من أكثر التهربات الضريبية شيوعًا في إنجلترا تحديدًا وهو رسوم وكيل اللاعبين.

يفترض على اللاعبين دفع رسوم للوكلاء مقابل تسهيل انتقالهم إلى الأندية الكبرى، هذه الرسوم يجب على الوكيل دفع قيمة ضريبية من بينها، في الغالب يجب أن يتكفل بها اللاعب نفسه. التحايل يتم في اعتبار أن الوكيل كان يعمل لطرف النادي وليس اللاعب، ما يعني أن هذه القيمة المدفوعة هي أجره الطبيعي وليس أجرًا إضافيًا أو مكافأة أو أي توصيف من هذا النوع.

تنص القواعد الضريبية في المملكة المتحدة على أن انهيار الرسوم يجب أن يعكس الطبيعة الحقيقية لعلاقة العمل. إذا كان النادي يدفع جميع الرسوم تقريبًا على حسابه الخاص، وليس بالنيابة عن الوكيل أو اللاعب، فيجب أن يكون الوكيل قد تصرف بأغلبية ساحقة لتمثيل مصالح النادي، وهي النقطة التي تتلاعب بها الأندية بعد أن تتم عملية الانتقال، إلى أن تظهر وثائق تثبت أن الوكيل قد عمل لصالح اللاعب بشكلٍ كامل أو بصورةٍ أكبر.

الغريب أن التقرير ذكر كافة الوقائع التي قد أضاعت على الضرائب وممثليها ملايين، ورفض الوكلاء واللاعبون والأندية الرد على أي منها واكتفوا بالتحقيقات الرسمية التي غالبًا تنتهي بغرامات وليست عقوبات حقيقية. ليتعاظم تساؤل لا يُكل طرحه: إلى متى سيتم التساهل مع مثل هذه القضايا بغرامات لا تعادل القيمة الطبيعية لها؟

أظن أن الحالة الأولى التي سيتم فيها حبس اسم مشهور لتهرب من هذا النوع سيكون من شأنه أن ينهي تلك النوعية من المخالفات تمامًا؛ لأن من أمن العقاب أساء الأدب.