لقد ظهر مصطلح الفيمينزم Féminisme في القرن التاسع عشر، وتمت ترجمته إلى النسوية في الغالب الأعم أو النسوانية أو الأنثوية أحيانًا أخرى، وهي ترجمة لا توحي ولا تفصح عن أي بعد من أبعاد المفهوم كامنة وراء المصطلح.

لهذا لابد من تحديد البعد الكلي لهذا المصطلح ضمن الأيديولوجيات والحركات التحررية، التي غزت الغرب في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، وهي حركات تمركزت حول الإنسان وأسقطت كل الثوابت والمعتقدات سواء الاجتماعية والدينية الراسخة. وبهذا بدأ عصر العلمنة الأولى، الذي اهتم بالإنسان أو ما يسمى بـ «تأليه الإنسان».

لقد غلب على شريحة من النسويات أو البعض بشكل عام أن Féminisme مصطلح يرادفه مصطلح (Women’s Libération Mouvement)، أي حركة لتحرير المرأة والدفاع عن حقوقها، بمعنى تحريرها من الهيمنة الذكورية والدفاع عن حقوقها بمساواتها مع الرجل، ولهذا فالمصطلح مختلف تمام الاختلاف في مدلولاته عن تحرير المرأة.

تهدف حركة تحرير المرأة إلى تحقيق عدالة حقيقة مقدسة لم تُحقِّقها النصوص الإلهية، أو تحقيق العدالة الإلهية التي تم السكوت عنها في النصوص الدينية، وذلك لصالح الهيمنة الذكورية التي كانت تسود في المجتمع، وبهذا فهي حركة كما قلنا تهدف لتحقيق قدر من العدالة داخل المجتمع لا تحقيق المساواة المستحيلة خارجه، بمعنى أن تنال المرأة كل ما ترغب فيه وتطلبه مع كسر كل قيود الذكورية والهيمنة، ولهذا فالحقوق التي تُطالِب بها تتأرجح بين حقوق سياسية واجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية.

يأخذ دعاة حركة تحرير المرأة ببعض المفاهيم المركزية المستقرة التي تلعب دورًا كبيرًا في المجتمع، كمفهوم الأسرة والزواج، أو مفهوم الأم والأمومة كونه العمود الفقري لهذه المؤسسة، وحاولت الحركة إدخال مجموعة من التحولات على تلك المفاهيم.

وعمومًا فالحضارة الغربية غلب عليها تأثرها بالمفاهيم المادية الفارغة من أي معنى روحي أو معنوي، وذلك مع تصاعد العلمنة الاجتماعية وتغلل المرجعية المادية. [1]

التمركز حول الأنثى في فلسفة «عبد الوهاب المسيري»

يركز الخطاب الحقوقي النسوي على إظهار الفروق الجوهرية والعميقة بين المرأة والرجل، وهي رؤية واحدية تنفي الجوانب المشتركة بينهما، ولذا فالمرأة كيان متمركز على ذاته مكتفٍ به، ليس معنيًا بحمل أعباء الأسرة، فهي تود اكتشاف ذاتها وتحقيقه في مجتمع لا يؤمن بقدراتها، كل ذلك في مواجهة الرجل، الكيان الذي بدوره متمركز حول ذاته وكأنه شعب الله المختار، ولذا الخطاب الحقوقي الذي كانت تسعى إليه الحركة النسوية انتقل من حركة تدور حول فكرة الحقوق الاجتماعية والإنسانية للمرأة، إلى خطاب يدور حول فكرة الهوية والمفاهيم الأنثوية التي يستخدمها الإنسان.

تصدر حركة التمركز حول الأنثى حسب المسيري على مفاهيم الصراع العالمي، فهي لا تسعى إلى تحقيق العدالة للمرأة داخل المجتمع، بل تقف على النقيض من ذلك، فمحاولات الأنثى هي محاولات التحرر من الهيمنة الذكورية. ولهذا فخطاب التمركز حول الأنثى إنما يُرسِّخ الصراع الشرس والدائم بين الجنسين، ولا يهدف لاستبداله بخطاب تراحمي وودي وعاطفي مليء بالحب. [2]

وسقط خطاب التمركز حول الأنثى في هفوة ثانية حينما تقرر أن الأنثى تدير ظهرها للآخر تمامًا، فهي كما يقول المسيري SuperWoman، المرأة المستقلة عن الرجل في جميع جوانبه ومن هنا تصاعد الحديث عن السحاق كتعبير عن الواحدية الأنثوية الصلبة.

فالمسيري يرفض قبول مصطلح «فمينزم» Feminism كتعبير عن النسوية، بحيث يرى أن المصطلح لا يُعبر عن تحرير المرأة، وإنما عن حالة من الصراع مع الرجل، وتمركزها حول ذاتها، كنتاجٍ تاريخي لتحولات الإنسان الغربي.

اختلالات على مستوى البينة

تخرج النسوية المعاصرة من مفهومها التحرري المتعلق بالتوجه الإنساني التحرري، وتقع في الشعور بالمظلومية والاستغراق في دور الضحية، ليأتي دور النسوية هنا في إنقاذ المرأة وحمايتها، وعلى إثره وقفت المرأة ندًا للرجل في أعقاب الربيع العربي، واقتسمت معه أرضية الأحلام بالتغيير والحقوق، لكن الهزائم التي مُني بها هؤلاء جعل الحركات النسوية التحررية الأكثر السذاجة نسخة من الحركات النسوية المعولمة، التي تدعو للذاتية والفردانية، واتباع سياسة الاستفادة من مظلومية الهوامش.

لهذا لم يبلغ هذا الخطاب المبلغ الذي رسمه لنفسه ليصبح خطابًا إنسانيًا تحرريًا، وإنما اكتفى بالدعوة للتغيير، ولذا تقول «آمال القرامي» أنه ليست هناك حركة نسوية بالمفهوم العلمي الدقيق في مجتمعاتنا العربية، وإنما تيارات لا تمثل كتلة منسجمة ومتآلفة، تحاول إعادة إنتاج استشراق جديد بمنهجية مؤدلجة. [3]

لقد استجابت النسوية العربية اليوم بشكل جلي إلى خطاب النسوية الغربية، التي حصرت قضيتها في الذاتية والحرية الجسدية كنوع من التمرد على النظام الأبوي الذكوري، إذ يعتمد على خطاب اختزالي يمارس الإقصاء، ولا يُلزِم نفسه بالمسئولية، ويفتقد سمة النضال الحركي، دون أن تعطي وزنًا لوضع مهترئ اقتصاديًا وسياسيًا يعوق التحقق الذاتي المنشود، ويفضي إلى المزيد من التهميش والتناحر الجندري.

العيوب الحقوقية والأخلاقية في الخطاب النسوي

تنادي الحركات النسوية بسجال من الحقوق المادية البسيطة أحادية البعد، وهي كتلة من الحاجات تحددها الشركات الرأسمالية الكبرى، التي تصنع اللذة الاستهلاكية من خلال الإعلانات والأزياء وأدوات التجميل، فتعمل من خلالها هذه القوى الليبرالية على تعظيم لذة الاستهلاك، وتحاول الحركات التحررية الدفاع عن المرأة خارج الإطار المادي لكن داخل حدود المجتمع، فترى المجتمع كتلة من الذرات المتصارعة، وبالتالي تهدف إلى تحقيق قدرٍ كافٍ من العدالة الحقيقية داخل المجتمع.

إن إعادة صياغة الإنسان في ضوء معايير المنفعة المادية التي جاءت بها الحداثة الغربية، زادت من تشييء الإنسان. لذلك، ركزت الحركات التحررية على دور المرأة العاملة مع إهمال دور المرأة الأم، وكذا الاهتمام بالإنتاجية المادية على حساب القيم الأخلاقية الاجتماعية كإهمال تماسك الأسرة وضرورة توفير الطمأنينة للأطفال، ومع تحول المرأة ليدٍ عاملة مهمة وطاقة إنتاجية، أصبح شرطًا أن تتخلى عن وظائفها التقليدية مثل الأمومة، وبهذا تم القضاء على آخر معقل ومأوى دافئ للإنسان، وبهذا يكون الترشيد المادي تغلغل في كل جوانب الحياة العامة.

إن مجموع الحقوق التي نادت الحركات النسوية لتحقيقها خضعت لقوانين العرض والطلب، فاستبعدت أدوار المرأة الأساسية التي لا يمكن حسابها بالمعايير المادية، والتي لا يمكن أن تتقاضى عليها أجرًا نقديًا، ولا تخضع للمراقبة، لأنها تؤديها في إطار الحياة الخاصة. يقول عبد الوهاب المسيري: «عمل المرأة في المنزل هو عمل لا يمكن حساب ثمنه، مع أن قيمته مرتفعة للغاية، ولذا فهو ليس عملًا». وبهذا تراجعت المرجعية الإنسانية الاجتماعية مع تصاعد المرجعية المادية الأحادية.

ومع سقوط الأم والزوجة والمرأة، سقطت الأسرة وتراجع الجوهر الإنساني المشترك، وتحققت مساواة بين المرأة والرجل، وبين الإنسان وسائر الأشياء.

نسوية من منظور إسلامي: أبعادها المعرفية

هو اتجاه يُسمى بالنسوية الإسلامية، يعمل من داخل الإسلام على إعادة دور المرأة وحضورها في الدول الإسلامية والعربية، أي إعادة حقوق وحضور المرأة، وفتح آفاق واسعة لها.

إن النسوية العربية هي اتجاه يرى إمكانية تلبيس النسوية بلباس إسلامي، فينطلق من مجموعة من المنطلقات في التراث، بحيث يرى أن عددًا كبيرًا من المعاني التي تخص النساء وجاء بها الإسلام قد حُرِّف عن معناه خلال التاريخ من قبل منظومة ذكورية كرّسها الفقهاء، ومن أمثلة ذلك أن فعل التفسير والتفقه كان فعلًا رجاليًا. [4]

يبدو أنه من الصواب تسميتها بالنسوية العربية وليس الإسلامية، لأنها حرّفت مجموعة من المعاني بعدما كانت ترغب في إعادة إحيائها، أو محاولة فرضها بعض الممارسات الغربية تحت غطاء إسلامي، ويتمثل ذلك في ثلاث نقاط:

  • إعادة تفسير النص بما يخص النساء تفسيرًا جديدًا يأخذ بعين الاعتبار غاية النص العادلة والتحررية.
  • إعادة استنباط القوانين الفقهية بما يخص النساء، وتعديل قوانين الأحوال الشخصية وفقًا لذلك.
  • إعادة دور المرأة في المجال الديني كما كان في أيام الإسلام الأولى، ودور علمي ودور قيادي، كالأدوار التي لعبتها عائشة وأم سلمة، اللتان أخذنا جزءًا كبيرًا من الحديث النبوي عنهما.

ليس لدينا اعتراض على المطلب الأخير، لكن ماذا بشأن المطلبين الأولين؟

إن إعادة تفسير النص الديني وقراءته قراءة أنثوية، يعني إعادة النظر في اللا مساواة التي تعيشها المرأة المسلمة حسب رائدات هذا التيار. فمن أجل تحقيق المساواة بين الجنسين توصلّت النسويات إلى قناعة مفادها أن كل دفاع عن حقوق النساء يجب أن يمر عبر إعادة تأويل للنصوص الدينية المُكوِّنة للإسلام، فمن بين المسائل التي أخذت تؤول فيها مسألة «تعدد الزوجات»، بحيث تعتبر النسويات أن تحديد الإسلام لأربع زوجات، كان يمثل تقدمًا بالنسبة للقرن السابع الميلادي في الجزيرة العربية، فهو أمر فرضته التحولات الاجتماعية التي كان يعيشها العرب، ولذا فمن الظلم اعتبار ذلك قاعدة إسلامية أبدية، لأنه ليس أمرًا إلهيًا مُطلقًا.

وباختصار فالمطالب النسوية تعج بالرفض الشديد للمقدسات النصّية، فـ «تسليمة نسرين» مثلًا ترى أن «الدين والدولة في العالم المسلم قد جعل من المرأة عبدة جنس لزوجها». بينما طالبت «آيان هرسي علي» بـ «الانقلاب على التأويل والتفسير ورفضه باعتبار أن القرآن -عندها- وثيقة تاريخية». وعلى الرغم من تطرف هذا الاتجاه في رفض المقدس، نقول إن مطالب النساء التحررية هي غربية لا تمُت إلى الثقافة الإسلامية بصلة.

المراجع
  1. عبد الوهاب المسيري، “قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى”، نهضة مصر للطباعة والنشر، ط2، 2010، ص32.
  2. المرجع السابق، ص42.
  3. آمال قرامي، “الاختلاف في الثقافة العربية”، دار المدار الإسلامي، بيروت، ط1، 2007.
  4. نايلا طبارة، “النسوية والصوفية: ماذا يمكن أن يقدم كل منهما للآخر؟”. داخل: محمد أبو رمان وآخرون، “الصوفية اليوم قراءات معاصرة في مجتمع التصوف ونماذجه”، مؤسسة فريديريش أيبرت، ط1، بيروت، 2020، ص181.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.