مع مطلع العام الجاري 2019 أضحى قطاع غزة لأول مرة منذ سنوات الحصار الإسرائيلي عليه غارقًا في كارثة إنسانية ضربت جميع مرافق الحياة الاقتصادية، مع مطلع العام الجاري نعت غزة اقتصادها الذي انهار رسميًا تحت وطأة الحصار المالي والتضييق على التجار والاعتقالات التي يتعرضون لها من قبل سلطات الاحتلال خلال سفرهم عبر معبر بيت حانون إيرز.

يمكن القول إن الحصار هذه المرة أنهك غزة لأول مرة منذ فرضه عليها قبل اثني عشر عامًا، عشرات العائلات باتت تنام دون عشاء ودون أن تنبس ببنت شفة. العديد من العائلات نامت على قارعة الطرقات بعد أن طُردت عقب عجزها عن تسديد الديون المستحقة بسبب تراكم ديون الإيجار.

أعين المارة باتت تعتاد على رؤية أطفال يأكلون من حاويات القمامة، بعد أن كان أمر كهذا مستهجنًا ويشكل صدمة للمجتمع. في غزة عائلات باتت تبيع عفش بيتها في أسواق البالة. باتت أعيننا ترى آباء يجمعون أقدام الدجاج من أمام المذابح لطهيها في المنازل.

عشرات المشاهد الصادمة يمكن أن تراها اليوم في أزقة غزة وطرقاتها، هذا ما يظهر للعيان فقط حيث إن هناك آلاف الأسر التي وصلت لحد العوز والحاجة لكنها تستر نفسها بجدران بيوتها، عشرات الموظفين أجبروا على الذهاب للعمل سيرًا على الأقدام بعد عجزهم عن تأمين مواصلاتهم.

هذه ليست غزة التي نعرفها، غزة التي كانت تعتبر رائدة في تصدير التوت الأرضي إلى أوروبا ذات يوم، غزة التي اشتهرت بتصدير الزهور والخضروات ذات الجودة العالية والتكلفة المنخفضة لكل العالم.

اتخذت السلطة الفلسطينية بحق موظفيها في غزة إجراءات تمثلت في تقليص رواتبهم بنسبة 50%، بالإضافة لخطوات غير علنية بحق مصادر تمويل الجمعيات الخيرية والتحويلات المالية إلى القطاع بشكل عام، كذلك الاحتلال الإسرائيلي شنّ حربًا على رجال الأعمال واعتقل العديد منهم، وفرض أنظمة مالية تسمح بتصدير رؤوس الأموال من غزة للخارج وتمنع إدخالها لغزة مرة أخرى إلا على شكل بضائع.

تعرضت جميع مناحي الحياة في غزة لضربة قاصمة، أُفرِغت من رؤوس الأموال وأغلقت الشركات وحتى المؤسسات الإعلامية بعد الضربة الاقتصادية التي تعرضت لها، بالإضافة إلى شركات أخرى أُجبرت على تخفيض العاملين فيها بنسبة كبيرة.

المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أعلن مطلع العام الجاري عن إحصائيات صادمة، حيث ذكر المرصد في تقريره أن 6 أشخاص من أصل 10 فقدوا أمنهم الغذائي، وأن 18-20 ساعة هي مجموع عدد ساعات انقطاع التيار الكهربائي، وهو ما يعني خفض إمدادات الطاقة من (10-12) ساعة إلى (4-6) ساعات يوميًا فقط. 97% من مياه غزة غير صالحة للاستهلاك البشري. بالإضافة إلى أن نصف المستلزمات الطبية في غزة باتت غير متوفرة في ظل عدد الإصابات الكبيرة التي تسقط على حدود غزة في مسيرات العودة.

يمكن أن تلمح حجم الألم الكبير الذي يمر به قطاع غزة في أعين الشبان المصابين في مسيرة العودة وهم على قراع الطرق وأكبر همّ لديهم علاج يتلقوه، بعد أن فتك رصاص الاحتلال بأجسادهم ثم فتك الحصار بأوضاعهم الاقتصادية. يمكن أن ترى حجم الألم الذي يمر به القطاع في عيون التجار وهم يغلقون محالّهم التجارية دون أن يُدخلوا قرشًا واحدًا لبيوتهم خلال اليوم.

أشكال الانهيار ليست على جانب الاقتصاد فحسب، بل على الجانب الصحي والذي افتتح العام الجديد بأزمة في توفر الوقود المخصص لعمل المشافي في ظل نقص عدد ساعات وصل التيار الكهربي، حيث حذرت الصحة في بيانات متتالية الأسبوع الماضي من توقف غرف العمليات في عدد من المشافي، وهو ما ينذر بكارثة لا يمكن تخيلها في ظل استمرار وصول الإصابات من مسيرات العودة على الحدود الشرقية لغزة. كما أن إغلاق معبر رفح البري عقب سحب قوات السلطة الفلسطينية طواقمها منه ردًا على الخلاف مع حركة حماس؛ أدى لقلق بالغ لآلاف المواطنين الراغبين في السفر عبر المعبر المصري.

تحارب غزة آخر قلاع الصمود بدعوى محاربة صفقة القرن، رغم أن من يدير محاربة صفقة القرن يحاول خلال الأشهر الماضية إرغام غزة على تسليم سلاحها، غزة التي قدمت يوم نقل السفارة الأمريكية للقدس لوحدها أكثر من 70 شهيدًا تعاقب اليوم بدعوى محاربة صفقة القرن.

لا شك أننا قرأنا ذات يوم رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، ونتذكر جيدًا العاجز أبو خيزران، حين قال: «لماذا لم يطرقوا جدار الخزان؟» عقب اكتشافه وفاة اللاجئين الثلاثة خنقًا، فغزة طرقت جدران خزان القطاع منذ أشهر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.