يميل صناع الأفلام والفنانون عمومًا للاعتقاد بأن الفن لديه القدرة على تغيير العالم، على التأثير وعلى «الأنسنة»، على الوصول لشتى أنواع البشر وجعلهم يرون ما يراه صانع الفيلم، خاصة إذا كانت نية الفيلم إنسانية أو سياسية، فهو بشكل مبدئي أداة لكي يكون الفرد مكان الآخر، أداة لخلق التعاطف وتوسيع الرؤية، لكن الواقع لا يدعم تلك التصورات بجوانبه السياسية والاجتماعية.

لا يستطيع الفن والسينما إيقاف الحروب والمجازر أو الإبادة الجماعية، لا يستطيع فيلم إيقاظ ضمير ميت، لكن القدرة التي تحويها السينما بشكل حقيقي هي أنها تتذكر، يمكن للشهادات والأحاديث المروية في أوقات الكوارث الإنسانية أن تدون شفهيًّا وكتابيًّا، لكنه شيء آخر أن ترى شهادة أو توثيقًا لوضعٍ بصوت وصورة من اختبره فعلًا في مكان وزمان مختلفين.

الشهادات السينمائية والتمثيلات البصرية تعمل مثل الكتابة، لكن على مستوى أبسط في الإدراك الحسي، لأنها تشرك الحواس وتحول الأرقام الإخبارية لبشر حقيقيين تسافر تجاربهم عبر الزمن.

لا توجد قيمة حقيقية في مشاهدة الأفلام في الوقت الحالي، حيث يفشل العالم في مجابهة عملية إبادة جماعية تحدث في غزة ومناطق متفرقة من الأراضي الفلسطينية المحتلة على يد الحكومة والجيش الإسرائيلي، ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية ماديًّا ومعنويًّا، لكن تدعو مشاهدة الأفلام خاصة التي تسجل مشاهد حقيقية لاستدعاء الذاكرة وحفظها وإعادة زيارتها، كما أنها تثبت دون وثائق أو أخبار أن ما يحدث في هذه اللحظة ليس هو البداية، بل حلقة من سلسلة لا تنتهي من سياسة استعمارية قائمة منذ 75 عامًا، وتفعل شيئًا آخر، وهو أنها تثبت أن لا شيء يتغير.

الزمن دائري والأحداث نفسها تحدث مجددًا، على نطاقات تضيق أو تتسع، لكنها هي نفسها. تعكس الذاكرة المصورة الواقع بشكل يثير الألم والتعجب، فعلى الرغم من تطور وسرعة أساليب التوثيق الحالية وسهولة وصولها، فكل شيء يحدث أمام الجميع موثق بكاميرات الهواتف المحمولة ومنشور على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن التاريخ لا يزال لغزًا لا يتعلم منه أحد، بل يتم تجنبه والتعالي عليه في انتظار نتائج جديدة.

يظل حفظ الذاكرة هو شكل من أشكال مقاومة الفناء والنسيان، إثبات أن هنالك من صمدوا وقُتلوا وهُجِّروا، وأنهم لا يزالون هنا يختبرون في أجيالٍ الأهوالَ نفسها.

السينما كوعاء للذاكرة

لقطة من فيلم Gaza Ghetto 1985/ مؤسسة الفيلم الفلسطيني
لقطة من فيلم Gaza Ghetto 1985/ مؤسسة الفيلم الفلسطيني

يعتبر الكثيرون فيلم «غزة جيتو: بورتريه لأسرة – Gaza Ghetto: Portrait of a Family» هو الفيلم الوثائقي الأول الذي صُوِّر في غزة. عُرض الفيلم على منصة مؤسسة الفيلم الفلسطيني مجانيًّا لعدة أيام ولا يزال متاحًا للتأجير، وعلى الرغم من كونه من إنتاج غربي شارك في صناعته ثلاثة مخرجين صحفيين، هم: جوان مانديل (أمريكا)، بي هولمكويست (السويد)، وبيير بيوركلاند (السويد)، إلا أنه يجعل من قصص الفلسطينيين جوهره.

تدور أحدث الفيلم في مخيم جباليا، وعن أسرة محددة هناك لدواعي التركيز الدرامي والتوثيقي، مخيم جباليا الذي قصفته القوات الإسرائيلية في الأيام السابقة أسسته الأمم المتحدة بعد تهجير الفلسطينين في عام 1948، وهو أحد أكبر مخيمات اللاجئين داخل فلسطين، ومع الوقت أصبح منطقة سكنية تتعاقب عليها الأجيال.

لا يتوقف أحد ليسأل: لماذا يعيش أفراد فلسطينيون داخل مخيم لاجئين وسط أرضهم، وكيف تتناوب على المنطقة أجيال لتعيش في منطقة لا تستطيع الانتماء لها بالكامل؟

مشاهدة غزة جيتو لن تغير شيئًا من واقع القصف وضياع الأرواح في غزة أو مخيم جباليا أو الضفة الغربية، لكنها سوف تصنع ذاكرة نأمل ألا تُمحى، ففارق كبير أن يُرى الأفراد كأرقام في نشرة إخبارية كمعلومة تاريخية، وأن يُرى تاريخ البشر كجزء من سردية سينمائية توثيقية. يذهبون لمدارسهم متخوفين من أفراد الجيش، ويعودون سريعًا قبل حظر التجول، يشكون أحوالهم ويتأملون ماضيهم.

يحمل الفيلم ذاكرة أسرة من مخيم جباليا تعود لتستكشف قريتها الأصلية التي أصبحت مستوطنة إسرائيلية، يحفز الجد أحفاده للاحتفاظ بذكرى أشجار التين والبيوت التي كانت ملكهم يومًا، وألا يفقدو الأمل في تملكها من جديد.

لقطة من فيلم Gaza Ghetto 1985/ مؤسسة الفيلم الفلسطيني
لقطة من فيلم Gaza Ghetto 1985/ مؤسسة الفيلم الفلسطيني

يوثق الفيلم الحياة اليومية لعائلة فلسطينية؛ جد يدعى أبو العدل، وأم تسمى اعتدال ذات وجه جميل ضاحك، وأب يعمل طبيبًا في مستشفى الأهلي العربي الذي قصفته الصواريخ الإسرائيلية ضمن أحداث أكتوبر 2023، ومجموعة من الأطفال الذين تتمحور حياتهم حول الذهاب إلى المدرسة والتفكير في المقاومة.

يسجل الفيلم لحظات عادية يمكن لأي فرد في أي مكان في العالم التواصل معها، أم توقظ أولادها للمدرسة، يتكاسلون، تنزعج الفتيات من تمشيط شعورهن بقوة بينما لا تزال أعينهن نصف نائمة.

تحكي اعتدال الأم كأنها تحكي روتين يومها الطبيعي بابتسامة تعلو وجهها، بينما تحضِّر أبناءها للمدرسة أنه عندما يطبق حظر التجوال تٌقطع المياه نهائيًّا، تحذر الأولاد من التعرض للجنود أثناء العودة، وأن يعودوا قبل موعد الحظر، تقف تلك التفاصيل حائلًا أمام اعتبار هذا البورتريه تصويرًا لأسرة طبيعية، بل هي أسرة تحاول العيش بطبيعية داخل الحصار، أو كما تم الاصطلاح على تسمية غزة في الشهر الماضي «سجن مفتوح»،  ذلك التحكم والتضييق ليس وليد لحظة حرب، بل هو أسلوب الحياة اليومي المفروض على اللاجئين الفلسطينيين داخل جباليا وغزة وخارجها.

كل شيء يحدث مرتين

البيت ما ضربهم.
سيدة فلسطينية فقدت منزلها للاحتلال

يتحرك فريق عمل الفيلم من سياق الأسرة ليوسع سرديته إلى منطقة هُدمت بها منازل، وهُجِّر أهلها إلى مخيم جباليا.

تقف امرأة عمرها أقدم من عمر إسرائيل لتقر ببساطة أن المنزل لم يفعل شيئًا لكي يُهدَم والانتقام منه، تستجدي المحاور ألا يقول أبدًا إن إسرائيل على حق، لم تعد تلك السيدة على قيد الحياة، لكن كثيرات في مكانها يختبرن الوضع نفسه.

أصبحت فلسطين بلدًا  يندر فيه كبار السن، شعبًا نصفه من الأطفال والمراهقين، تحمل اللقطات المصورة ذكرى البشر وتجارب من شهدوا التهجير الأول، ذكرى هؤلاء الذين اختبروا فلسطين قبل أن يُطمَس الكثير من معالمها.

يموضع الفيلم نفسه بشكل محايد، لكنه ليس حيادًا حقيقيًّا، بل هو انحياز أخلاقي يظهر كنظرة عامة على الوضع، ينسق الفيلم مونتاجيًّا تركيبًا بين شهادات الفلسطينيين وشهادات المسئولين والجنود الإسرائيليين.

يضع الفيلم تلك المشاهد في حوار بعضها مع بعض دون تعقيب من صناع الفيلم، ويعزز سرديته بإدراج إحصائيات لأعداد القتلى والمهجَّرين وسكان مخيمات اللاجئين. يدرج الفيلم الحقائق المجمعة عن طريق الاستقصاء الصحفي، بجانب المشاهد التوثيقية والتقريرية في مجهود لصناعة رؤية متماسكة عن الوضع في غزة في عام 1984 بعد 40 عامًا من الاحتلال الاستيطاني.

يحث البعض في تلك الأوقات المتأزمة، حيث ليس هناك غير الدمار والقتل وانعدام الأمل، على إظهار الجانب «الإنساني» للفلسطينيين، بينما يتبارى دعاة الإبادة والمستعمرون على من يستعمل لغة أكثر عنصرية وإبادية، تجعل من غير البيض أنصاف بشر، لكن الفلسطينيين أو العرب أو المسلمين أو المسيحيين واليهود الملونين لا يفكرون في أنسنة أنفسهم، هم أناس كاملون دون الحاجة لنظرة خارجية تقر بذلك.

عند مشاهدة أفلام مضى عليها زمن تسجل مشاهد من حيوات حقيقية، يصعب التفكير أن حكومات وأعراقًا وسياسات ترى بشرًا يعيشون كبشر شيئًا آخر، بل إن ما يظهر أمامك لا يستدعي التفكير من الأساس في ماهية أو مدى إنسانية الأفراد.

لقطة من فيلم Gaza Ghetto 1985/ مؤسسة الفيلم الفلسطيني
لقطة من فيلم Gaza Ghetto 1985/ مؤسسة الفيلم الفلسطيني

تثار ضمن أحداث الفيلم جدلية لا تنتهي، وهي قتل الأطفال، وما إذا كان أطفال العالم متساوين، فيجيب المنسق العام لغزة والضفة الغربية بنيامين بن ألعاذر، وهو سياسي إسرائيلي ولد في العراق، أنه لم يُقتل في عهده إلا عدة أطفال «حمدًا لله»، ثم يلحق ذلك بالتشكيك في صحة تسميتهم أطفالًا من الأساس.

يستدعي ذلك مباشرة تصريحات وزير الدفاع الإسرئيلي الحالي بوصف الفلسطينيين بـ «الحيوانات البشرية»، وتصريحات بنيامين نتنياهو بأنه يخوض حربًا ضد «أطفال الظلام».

يعمل «غزة جيتو» مثل عشرات الأفلام التي تنتمي للسينما الثالثة، أو السينما التي تقع في بلدان تعاني من الاستعمار أو تبعاته، كحافظ لتلك الزلات التاريخية التي يفتخر أصحابها بترديدها لأنها تمثل أفكارهم الحقيقية التي لا تدعو للخجل، في إعادة تدوير للأفكار النازية، وكأن الواقع تحت الظلم يعيد إنتاج الظلم نفسه دون ذاكرة أو وعي حقيقي بفعله ذلك.

ينتقل انعدام الاهتمام بحياة أي فرد يسكن الأرض التي وعدت للمصدقين في الصهيونية من القيادات إلى الأفراد والجنود، يتوجه أحد موجهي الأسئلة لبعض الجنود الساهرين على حراسة أحد أبراج مخيم جباليا والحريصين على ألا يخرق أحد حظر التجوال، وألا يقع أي شغب أو فعل خارج عن رغبة الجيش والإدارة الإسرائيلية.

يسأل المحاور ببساطة جنديين نعسين يقفان معظم ساعات اليوم في تربص عما يعرفانه عن تاريخ مخيم جباليا، ليجيب أحدهما وهو شاب بشعر طويل أشعث وشارب كث يبدو كأنه لا يعلم لماذا هو هنا، بل هو مجرد بيدق لتنفيذ الأوامر، بأنه هنا يعيش اللاجئون منذ أربعين عامًا لأنهم يحبون العيش كذلك، في تصور بروباجندي ساذج يبرئ القوة الاستعمارية من كل ذنب، فالضحية هي المذنب في كل الأحوال.

ربما ستتغير صيغة التوثيق في الأعوام القادمة، لن تكون الأفلام مرتكزة على استدعاء الماضي أو الشهادات الشفهية؛ لأن الحاضر موثق بالكامل في لحظة حدوثه، وكل فرد في خضم حرب ذات اتجاه واحد يقوم بدورين، دور مراسل صحفي بجانب محاولات النجاة بحياته وحياة المقربين له.

إنها لحظة معتمة من تاريخ العالم، حيث لم يساهم تطور الوسائط المرئية في منع الكوارث الإنسانية من الحدوث أو في أنسنة المتعرضين لها، لكن تلك المشاهد المصورة تختبر لحظة حدوثها وسوف تظل لسنوات بعدها كشاهد مباشر، وعلى الرغم من عمى القيادات الكبرى في العالم وكل التفوق الأبيض والمصالح المادية، فإن السردية العامة تتغير ببطء لصالح أصحاب الأرض وضد الأفكار الاستعمارية التي تفضح نفسها بثقة في أفلام صنعت في الثمانينيات وعلى الهواء ومواقع التواصل الاجتماعي في اللحظة التي نعيشها الآن.