وقف السياسي الروماني لوكيوس سينيكا يحث أبناء شعبه وجنوده على قمع تمرد قرطاجة، موضحًا لهم ماذا يريد منهم بالضبط. قال: لا تحاربوا المتمردين فقط، لا تقتلوا المتمردين فحسب. بل يجب أن تدمروا كل حجر يحمل أسماءهم. فتتوا كل جدار معبد يحمل ذكراهم. أحرقوا مدينتهم، حوِّلوها لرماد، ثم انثروا الرماد في البحر والجو. كل من يُردد أسماءهم اقطعوا لسانه، كل من يروي قصتهم يجب أن تُفقأ عينه، يجب أن تُمحى قصتهم، ليتعلموا أن من يحارب روما لا يُهزم فحسب، بل يُمحى ذكره من التاريخ للأبد.

هكذا رأى سينيكا الأمر، وهكذا يراه المحتلون من بعده، السلاح مخيف، لكن الذاكرة مرعبة. تراكم ذكريات التمرد وتناقل قصص الفظائع يخلقان رمادًا كثيفًا ما يلبث أن يشتعل مع أول شرارة، ومع أبسط حدث. لهذا حرص كل احتلال على محو ذاكرة من يحتلهم، وعلى رأس كل احتلال توجد إسرائيل، وعلى قمة الجرائم الرامية لمحو الذاكرة الجمعية تجد قتل الصحافيين.

الصحافة التي تحمي الماضي، وتحكي الحاضر، فتصنع المستقبل. يلتف المقهورون حول المراسل الصحفي يلتقطون الصورة من بين نثار كلماته، يدمعون من هول المشهد الذي ينقله، يشعرون بالحنق تجاه الواقع الذي يرويه. فالصحافيون يخلقون ذاكرة جمعية للأمم، تعرِّفهم قضيتهم، تجعلها يقظة في ذهنهم بشكل متكرر.

اقرأ أيضًا: اغتيال الصحفيين: سياسة «إسرائيل» لبناء جدار عزل إعلامي

منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، والأرقام تتصاعد في كل شيء. أرقام الشهداء والجرحى والنازحين وحتى المفقودين، أرقام المباني المقصوفة في قطاع غزة، أعداد المجازر التي باتت تحدث يوميًا، والمقاطع الإخبارية التي تنقل للعالم كل هذه الأرقام. ويبدو أن الاحتلال الإسرائيلي حين رأى الرأي العالمي ينجرف بعيدًا عن تصديق روايته للأحداث، وعن تبريراته لهذه الأرقام المرعبة من الشهداء والجرحى، وجد أن الحل ليس إيقاف إطلاق النار أو استهداف حماس دون المدنيين، بل إن الحل هو اغتيال الرواية المعاكسة له.

جنّد جيش الاحتلال الإسرائيلي الآلاف من أنصاره عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي لتؤكد روايته وتُعلي صوتها. وأسهم في ذلك قنوات إعلامية كبرى، وشبكات تلفزيونية عالمية، لكن مع ذلك ظلت الأصوات التي تصدر من قطاع غزة، على خفوتها، تؤرق الرواية الإسرائيلية وتفنّد كذبها بإخبار الحقيقة التي تشهدها الأرض. لذا قررت إسرائيل، بشكل واضح، أن تجعل الصحفيين الموجودين في غزة، أو المشتغلين بأخبارها، أهدافًا لها.

في أول يوم لطوفان الأقصى اغتالت إسرائيل صحفيين بالرصاص، الذي قيل إنه عشوائي. الأول هو محمد إبراهيم لافي، مصور وكالة عين ميديا. كان محمد موجودًا عن حاجز إيزر الذي يصل بين قطاع غزة وباقي أرض فلسطين التي يسيطر عليها الاحتلال. ومحمد هو ابن قيادي حماس محمد لافي. أما الثاني فهو محمد جرغون، مراسل لشبكة سمارت ميديا.

هذان هما من تأكد استشهادهما، لكن ظل آخرون في عداد المفقودين حتى وقت كتابة التقرير، مثل نضال الوحيدي من قناة النجاح، وهيثم عبدالواحد من وكالة عين ميديا. لكن أنباء استشهادهما تواترت حتى صارت أقرب للحقيقة، خصوصًا في غياب أي أخبار عن اعتقالهما، أو وجودهما في أي مستشفى في قطاع غزة.

وفي اليوم الثاني للعملية اغتالت إسرائيل أسعد عبد الناصر شملخ. أسعد صحفي مستقل، كان ينقل الأوضاع في غزة عبر حساباته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. لكنه كان مُهددًا للاحتلال لدرجة استهداف منزله في حي الشيخ عجلين، واغتياله برفقة عديد من أفراد أسرته.

كذلك كادت إسرائيل تغتال الصحفي إبراهيم قنن، مراسل قناة الغد الفضائية، وزميله حسام الكردي مهندس البث الفضائي بغارة جوية. لكن المأساة أن تلك الغارة حدثت في مستشفى ناصر الحكومي في خان يونس، أثناء استعدادهما للخروج في بث مباشر من داخل المستشفى.

واستهدفت إسرائيل بغارة مباشرة منزل مدير إذاعة زمن المحلية، رامي الشرافي. واستهدفت كذلك منزل المذيع في قناة القدس اليوم، باسل خير الدين. ودمرت منزليهما بالكامل. كما دمرت إسرائيل مقر مؤسسة فضل شناعة الإعلامية. المؤسسة الإعلامية تحمل اسم فضل شناعة مصور وكالة رويترز. وكان فضل قد استشهد هو الآخر بقذيفة إسرائيلية قبل عدة سنوات استهدفت سيارته.

اقرأ أيضًا: إسرائيل قتلت شيرين أبو عاقلة: قصة «اغتيال» علني!

في 10 أكتوبر/ تشيرين الأول بدا أن إسرائيل بدأت في الاستفاقة من هول الصدمة التي تعرضت لها، فقررت استهداف برج حجي، في شارع المؤسسات بقطاع غزة. البرج معروف بوجود غالبية الصحفيين فيه. لكن هذا لم يمنع الاحتلال من قصفه بالكامل، وقتل من فيه.

 هذه الغارة التي تمت دون سابق إنذار أدت لاستشهاد الصحفي سعيد رضوان الطويل، وهو رئيس التحرير في موقع الخامسة نيوز. كما استشهد الصحفي محمد رزق صبح، صحفي مستقل من سكان غزة. أدى القصف لإصابة هشام النواجحة، من مصوري شبكة خبر. على إثر جروحه الخطرة أُدخل للعناية المركزة في مجمع الشفاء الطبي، لكنه فارق الحياة سريعًا.

بعد يومين قررت إسرائيل محاربة الأصوات الإذاعية كما تفعل مع الإعلام المرئي. فاغتالت الصحفي أحمد شهاب. أحمد معدّ برامج في إذاعة صوت الأسرى. استهدفت إسرائيل منزله الكائن في مدينة جباليا بغارة جوية، استشهد على إثرها هو وزوجته وأطفاله الثلاثة.

في اليوم التالي مباشرة صعّدت إسرائيل من سقف استهدافها حين رأت أن ما سبق لم يكن كافيًا، وأنه كذلك مر دون عقاب دولي. فاغتالت الصحفي اللبناني عصام عبدالله الذي يعمل لوكالة رويترز للأنباء. الاستهداف الإسرائيلي أصاب 6 صحفيين آخرين. من بينهم اثنان من وكالة رويترز نفسها هما ماهر نازح، وثائر السوداني.

كما أصابت الصحفية كارمن جوخدار والمصور إيلي براخيا، والاثنان يعملان لصالح قناة الجزيرة القطرية. أما الباقيان فهما المصورة كريستينا عاصي، ومصور الفيديو ديلان كولينز من وكالة الأنباء الفرنسية. الصحفيون جرى استهدافهم في قرية علما الشعب جنوب لبنان، بإطلاق صاروخ من مقاتلة جوية على سيارتهم المدنية.

كما اغتالت في يوم 19 أكتوبر/ تشيرين الأول الصحفي خليل أبو عاذرة. خليل مصور في فضائية الأقصى، واستشهد مع شقيقه في حي النصر شمال رفح جنوب قطاع غزة، جراء غارة مباشرة من طائرات الاحتلال.

بعد يومين عادت إسرائيل لاستهداف الإعلاميين فاغتالت رشدي السراج، وهو مصور معتمد لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، الأونروا. وهو من مؤسسي شبكة عين ميديا التي استهدفت إسرائيل سابقًا عددًا من أفرادها. وجاء استشهاده جراء غارة جوية على منزله في وسط قطاع غزة.

من نافلة القول إن هذه القائمة مرشحة للزيادة بقوة. سواء باغتيال الصحفيين أنفسهم، أو استهداف عائلاتهم كما حدث مع عائلة مراسل قناة الجزيرة وائل الدحدوح، الذي فقد زوجته وابنه وابنته وآخرين من عائلته، جراء قصف إسرائيلي لمنزل قال الاحتلال إن من نزح إليه آمن.

كذلك من البديهي القول إن تلك الجرائم هى جرائم حرب، فالقانون الدولي وكل المواثيق الأممية والدولية تنص على ضرورة وحتمية توفير الحماية للصحفيين، وإن تلك الجرائم تستدعي ردًا قويًا تجاه مرتكبيها. لكن ما بات معروفًا للجميع حاليًا أن إسرائيل معها الضوء الأخضر لمخالفة كافة الأعراف الدولية والمواثيق لأن كل تلك القوانين تأتي في المرتبة الأخيرة بعد القانون الأول وهو أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها.