يحتوي هذا المقال على «حرق» لبعض أحداث الفيلم الفلسطيني «غزة مونامور»… لذا وجب التنبيه.

في أحد أيام شهر أغسطس/ آب الحارة من العام 2013، عثر صياد فلسطيني شاب يُدعى «جودت أبو غراب» قبالة سواحل «دير البلح» بقطاع غزة، على تمثال برونزي يُجسِّد الإله أبولو، أحد آلهة الإغريق القدامى، يُصوِّر التمثال الذي يعود للقرن الخامس قبل الميلاد، والمصنوع من البرونز، شاباً عارياً يقف منتصباً على قاعدة، رافعاً ذراعه اليمنى في مستوى كتفه.

كان الصياد قد عثر على التمثال وهو في طريقه للصيد بقاربه الصغير، عندما لمح جسداً غريباً يرقد تحت الماء على عمق ما يقرب من الأربعة الأمتار، وبمساعدة أحد أفراد أسرته استطاع إخراج التمثال من البحر وإخفائه عن أعين الأمن لفترة من الزمن، قبل أن تتمكن القوات الأمنية التابعة لمنظمة حماس من العثور على التمثال، ليختفي بعدها في ظروف غامضة.

كانت تلك الواقعة هي طرف الخيط الذي نسج منه الأخوان «طرزان وعرب ناصر» لوحة رائعة الجمال في ثاني أفلامهما الروائية الطويلة «غزة مونامور». الفيلم من كتابة وإخراج عرب وطرزان ناصر، وهو إنتاج مشترك بين فلسطين وفرنسا وألمانيا والبرتغال وقطر، وهو الممثل الرسمي لدولة فلسطين في سباق الأوسكار القادم للمنافسة على جائزة أحسن فيلم غير ناطق بالإنجليزية، في الدورة المقرر عقدها في أبريل/نيسان من العام المقبل (2021).

تم عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي في دورته الـ 77، والتي عُقدت في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، كما عُرض الفيلم أيضاً في في الدورة الافتراضية لمهرجان تورنتو السينمائي الدولي هذا العام وفاز بجائزة اتحاد دعم السينما الآسيوية (نيتباك)، كما فاز الفيلم بعدة جوائز أخرى في مهرجانات دولية: كمهرجان بلد الوليد السينمائي الدولي، ومهرجان أنطاليا للأفلام. وكذلك عُرض ضمن المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الـ 42 في ديسمبر/كانون الأول 2020.

تدور أحداث الفيلم في غزة، حيث «عيسى ناصر» الصياد الفلسطيني الذي بلغ الستين (يجسده الممثل الفلسطيني سليم ضو)، ويُخفي حبه لجارته في السوق «سهام» (تجسدها الممثلة هيام عباس) والتي تعمل خيَّاطة في محل لبيع الملابس النسائية. وفي إحدى رحلاته للصيد يعثر على تمثال أثري للإله أبولو ويخفيه في داره، حتى تعثر عليه السلطات وتبدأ بعدها سلسلة من المتاعب، ويقرر عيسى في النهاية طلب الزواج من سهام.

السياسة الحاضرة الغائبة

أردنا كسر الصورة النمطية لمدينة مثل غزة أو بلد كفلسطين، حيث الحديث عن الحصار والتخريب والدمار والاحتلال… في وسط هذه المعمعة، لم يتخيل أحد أن نحكي عن الحب في ظل المعاناة اليومية لسكان غزة، فكانت تلك هي الفكرة، أن الحب حاضر رغم الحصار.

كانت تلك هي رؤية الأخوين ناصر عندما شرعا في كتابة فيلمهما، الحديث عن قصة حب حاضرة رغم كل العقبات والحصار، أرادوا إظهار الجانب الإنساني لقاطني قطاع غزة، ذلك السجن الكبير المُعاقب بحصار خانق من سلطات الاحتلال الإسرائيلية بالخارج، ومن سلطات حماس المتشددة قي الداخل، حتى البحر المُتنفس الوحيد للقطاع، مُحدد أيضاً بثلاثة أميال بحرية فقط للإبحار والصيد. وسط كل تلك المغريات لكتابة فيلم عن السياسة والحصار قرَّر طرزان وعرب عدم الخوض في الحديث عن السياسة إلا بشكل هزلي وغير مباشر، للسخرية من سلطة حماس داخل القطاع.

إذاً السياسة قد لا تبدو ظاهرة للعيان لكنها حاضرة بكل تأكيد، فمن المشهد الأول بدأ الهجاء غير المباشر لحماس؛ ملصقات الأقصى والشعارات الرنانة على الحوائط بينما الجنود يعدون الطعام، أحدهم يقطع الخضراوات والآخر يُنظِّف الحبَّار بينما يشاهدون فيلماً حربياً على شاشة التلفاز. أو في محاولات مسئولي حماس بيع التمثال لمتحف دولي عقب استلامه من الصياد، لكن المتحف يخبرهم أن التمثال ينقصه جزء ما، والجزء المقصود من التمثال هو قضيبه المنتصب الذي كسره عيسى أثناء محاولاته إخفاء التمثال في دولاب ملابسه.

وفي مشهد مُوحٍ عقب تسليم الصياد لرجل الشرطة للجزء المفقود من التمثال، يُظْهرا الأخوان ناصر احتفالات قوات حماس بصاروخ صغير مُعلَّق بـ «ونش» وسط الأغاني الحماسية وتهليل الأنصار. يشاهد عيسى تأرجح الصاروخ في الهواء، ذلك الصاروخ الذي يمكننا اعتباره معادلاً بصرياً لقضيب التمثال.

«الصاحب اللي يضر… إلى الخلف در»

تلك العبارة المنقوشة على السور الأمامي لبيت عيسى بجوار الباب مباشرةً، على رغم بساطة ما تحمله من معنى، إلا أنها قد تحمل بعضاً من صفات عيسى، الصياد العجوز الذي يحيا وحيداً يحلم بــ «سهام» الأرملة التي تعيش رفقة ابنتها المطلقة.

عيسى وكما ظهر في أحداث الفيلم ليس له أصدقاء إلا «سمير» صاحب محل البقالة الذي يُسامره في بعض الليالي، ويحكي له الصياد عن أحلامه صعبة التفسير. سمير يحلم بالهجرة إلى أوروبا تاركاً خلفه جحيم غزة وحماس والجو الخانق، مثله مثل «ليلى» (وتجسدها الممثلة ميساء عبد الهادي) ابنة سهام، والتي طوال أحداث الفيلم تُبدي تذمرها من الحياة في غزة عموماً ومن الحياة مع والدتها تحت سقف واحد. حياة عيسى البوهيمية نوعاً ما جعلته وحيداً ومنبوذاً، فهو دائم العراك مع أخته الوحيدة «منال» (تجسدها الممثلة منال عوض)، والتي تبحث له عن زوجة تُؤنس وحدته، كذلك كان على صدام دائم مع سلطات الأمن في القطاع خاصةً بعد انتشاله لتمثال أبولو من قاع البحر.

باختصار كانت شخصية عيسى التي تبدو في منتهى الفظاظة أمام سخافات الحياة في القطاع المُحاصر، في منتهى العذوبة والرقة في الوقت نفسه عندما يلمح طيف سهام، لكنه بقي خجِلاً ومتردداً من مجرد الحديث معها، وقد استطاع الأخوان ناصر رسم حدود شخصيات الفيلم ببراعة تامة، لدرجة جعلتنا نرى شخصيات السيناريو حية أمام أعيننا، ساعد على ذلك تمكن وإتقان الممثلين لأداء النص المكتوب بحرفية عالية.

سيمفونية في حب غزة

مع لحظات المشاهدة الأولى يُحيلنا الفيلم بافتتاحيته الناعمة، إلى زمن آخر، بدايةً من اسم الفيلم وأسماء طاقم العمل والمكتوبة بخط عربي بديع يشبه أفيشات الأفلام العربية القديمة في فترة الستينيات، وحتى رمزية اسم الفيلم الذي يُذكِّرنا بتحفة المخرج «آلان رينيه» الخالدة «هيروشيما حبي».

وهو الفيلم الذي كان شرارة انطلاق الموجة الفرنسية الجديدة في ستينيات القرن العشرين، بقصته الرائعة عن الحب على وقع الخراب والدمار، كان الفيلم قصيدة حب عذبة لهيروشيما، المدينة التي عانت ويلات الحرب والتدمير، ونحن هنا لسنا ببعيدين عن تلك الفكرة في فيلمنا غزة مونامور.

فقد أراد الأخوان ناصر رسم لوحة بديعة تُخلِّد ذكرى مدينتهم الحبيبة، غزة التي تعاني وتقف صامدة ولا يزال أهلها قادرين على الحياة والحب وسط كم هائل من الدمار والأصولية المتشددة والفساد. الأخوان ناصر قررا صنع نسختهم الخاصة من فيلم خالد الذكر، على أنغام أوبرا لا تقل شهرة عن فيلم رينيه، وهي أوبرا «البوهيمي» للموسيقار الإيطالي «جياكومو بوتشيني».

قد يبدو الشبه بعيداً بين قصة الفيلم وقصة الأوبرا، لكن يظل الحب حاضراً في كلتا القصتين، لذا فلم يجد الأخوان ناصر أفضل من موسيقى بوتشيني كخاتمة للفيلم في مشهد أخَّاذ، يطلب فيه عيسى من سهام الموافقة على الزواج منه، فتختلط موسيقى بوتشيني مع ضحكاتهما مع ضحكات ابنة سهام، ويليه مشهد حميمي بين الصياد وسهام في المركب وسط الورود المتناثرة مع إضاءة حمراء مُغوية والموسيقى حاضرة أيضاً، مع تشويش بسيط من طلقات جيش الاحتلال التي تحذرهما لأنهما قد تجاوزا الحد المسموح به للإبحار، أو الحد المسموح به للحب من سلطة أخرى، لا تقل فساداً أو عنصرية.

رمزية الفيلم وجماليات الصورة

بالحديث عن رمزية الفيلم، بالتأكيد يظل حضور تمثال أبولو في شريط الفيلم هو الحدث صاحب الدلالة الأوضح، بالرغم من أنه لم يكن الخط الدرامي الأهم بالفيلم. هنالك أكثر من تأويل لظهور التمثال بهذا الشكل، نعلم أن واقعة التمثال حقيقية بالفعل، لكن توظيف الأخوين ناصر للقصة في أحداث الفيلم لها بعداً آخر، فقد ظهر التمثال بشكل إيروتيكي واضح وقضيب منتصب، كناية عن تفكير عيسى الدائم في الفحولة وهو على مشارف الـ 60 من عمره، كما يمكننا تأويل ظهور تمثال لأبولو إله الشمس عند الإغريق في قطاع غزة الذي يعاني من مشاكل داخلية، وكأنه النور أو الحلم الذي يداعب أذهان أغلب شخصيات الفيلم، تلك الشخصيات الحالمة والمتورطة في ظرف زماني ومكاني في منتهى الصعوبة، ومجرد التفكير في الهروب منه هو درب من الخيال.

أما عن فنيات الفيلم، فقد جاء السيناريو مُحكماً بشكل كبير إلا من بعض هنَّات بسيطة في الثلث الأخير للفيلم جعلت المشاهد يشعر بشيء من الملل نوعاً ما. أمَّا رسم الشخصيات وتوظيفها درامياً، فقد استطاع الأخوان ناصر أن يخلقا حالة رائعة من التناغم والتجانس بين شخصيات الفيلم، عزَّزت شعور المتلقي بأن تلك الشخصيات منسوجة من الواقع المعيش، وليست مجرد شخصيات مكتوبة على الورق.

ومن ناحية تميز الصورة السينمائية، اعتمد المخرجان كادرات تعكس ألواناً باردة أغلب أوقات الفيلم، باستثناء مشاهد أحلام عيسى الحميمية التي غلب عليها اللون الأحمر برمزياته الإيروتيكية، كذلك كانت إضاءة الفيلم خافتة في أغلب المشاهد الليلية، حتى يعكسا شكل الحياة الحقيقية لسكان القطاع الذي يعاني من انقطاع دائم للتيار الكهربائي، كما تضفي تلك الإضاءة نوعاً من الغموض على أبطال الفيلم. تم تصوير مشاهد الفيلم في مواقع تصوير في البرتغال والأردن، وقام الأخوان ناصر بإعداد ديكور الفيلم بشكل كما لو كان التصوير في غزة.

وكان العنصر الأكثر إشراقاً في الفيلم هو الأداء التمثيلي المميز للأبطال، وبشكل خاص النجم «سليم ضو» الذي تقمَّص شخصية الصياد كأروع ما يكون، وحاز عنه جائزة البرتقالة الذهبية لأحسن ممثل من مهرجان أنطاليا 2020، كذلك دور سهام الذي أدته المخضرمة صاحبة التاريخ التمثيلي الطويل «هيام عباس»، وهو الدور الذي كُتب خصيصى لها كما صرَّح الأخوان ناصر بذلك في المؤتمر الصحفي الافتراضي للفيلم بمهرجان تورنتو السينمائي الدولي والذي نُشر على قناة المهرجان بموقع «يوتيوب».

باقي الأدوار، ورغم صغر مساحتها في العمل، إلا أنها كانت ذات تأثير ملموس، كدور منال أخت عيسى (منال عوض) ودور ليلى ابنة سهام (ميساء عبد الهادي).

العنصر الأخير الذي لا يمكن إغفاله؛ هو الموسيقى التصويرية للفيلم التي بدت في منتهى الرقة والعذوبة، كذلك الاقتباسات الموسيقية التي تم توظيفها جيداً لتتناغم مع الصورة في شكل بديع. استعان المخرجان بموسيقى «شوبان» و«تشايكوفسكي» في بعض مشاهد الفيلم بشكل رقيق يمس القلوب، لكن الظهور الأبرز للموسيقى كان في مشهد النهاية وعلى أنغام «بوتشيني» الرقيقة من تحفته الأشهر «البوهيمي»، تلك الموسيقى العذبة التي تُخبِرنا أن الصياد البوهيمي صاحب الـ 60 ربيعاً قد وجد أخيراً حبه/حلمه المنتظر، ليقطع بعدها الأخوان ناصر المشهد من زاوية علوية من منظور الإله الذي أشرق من جديد في غزة الحبيبة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.