بينما تتوالى رسائل الدبلوماسية الدولية لتهدئة الصراع بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية خوفًا من اتساع رقعة الصراع، يدخل على الخط سياسي مختلف يقول بصوت مرتفع لا حق للفلسطينين في إقامة دولة، وأنه يجب تهجيرهم جميعًا إلى الأردن. ما استدعى ردًا رسميًا من حركة حماس تستنكر فيه تلك التصريحات، ودعوة المجتمع الدولي لإدانة تلك التصريحات.

السياسيّ هو خِيرت فيلدرز، لكن يبدو أن حماس، والعالم أجمع، عليه أن يعتاد تلك التصريحات. فقد جاءت نتائج الانتخابات الهولندية صادمة للعالم باختلاف مستوياته. فقد أسفرت عن فوز كبير لخِيرت فيلدرز، في مفاجأة هي الأكبر في السياسة الهولندية منذ عشرات السنوات. مما أعطى انطباعًا عن تصاعد كبير لشعبية اليمين المتطرف في مختلف أوروبا، وأن موجة صعوده قد تطول باقي دول الاتحاد الأوروبي.

الصدمة لم تكن في أن خِيرت، أو جِيرت، فيلدرز معادٍ للإسلام والمسلمين فحسب، فإنه يتعهد بحظر القرآن والمساجد، بل إن الرجل مناهض للاتحاد الأوروبي ككل. ليكون بذلك امتدادًا للشعبوية العالمية التي كان من أبرز إفرازاتها وصول دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابق، للسلطة. كما أوصلت الشعبوية المتطرفة أحد أطرافها لحكم الأرجنتين، خافيير ميلي. وبالطبع في إيطاليا تقف جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، المنتمية لليمين المتطرف.

خصوصًا أن حزب الحرية الذي يقوده فيلدرز قد حصل على ما يزيد على 37 مقعدًا من أصل 150 مقعدًا في البرلمان، وتلك النسبة تساوي تقريبًا ضعف النسبة التي حصل عليها الحزب منذ عامين ماضيين، في انتخابات عام 2021، ما يعني تضاعف شعبية الرجل وحزبه.

فيلدرز البالغ من العمر 60 عامًا بدأ بالأساس عضوًا في المجموعة الليبرالية لرئيس الوزراء المنتهية ولايته مارك روته. لكن يبدو أن سياساتهم لم تتوافق، فانفصل فيلدرز عنه للعمل بشكل مستقل. ثم أنشأ بعد ذلك حزب الحرية، وهو حزب معروف بمعارضته العامة لكل سياسات الاتحاد الأوروبي أيًا كانت. لدرجة أن برنامجه الانتخابي يتضمن بشكل أساسي أنه سيدعو لإجراء استفتاء شعبي على الخروج من الاتحاد الأوروبي.

بالطبع سيكافح الرجل لضم أحزاب إضافية لائتلافه كي يحصل على أغلبية عامة في البرلمان، لكن ذلك لن يغير من صورة الحزب التي ظهر بها بعد تلك الانتخابات باعتباره أكبر حزب في هولندا. لكن يبدو أن هولندا على وشك الحياة مع حكومة متطرفة بعد أن كانت الحكومات التي حكمت هولندا لأربع ولايات متعاقبة منذ عام 2010 هي حكومات وسطية.

خصوصًا بعد أن بدأت تصريحات الأحزاب الثلاثة الكبرى تقل حدتها. فسابقًا كان زعماء تلك الأحزاب يرفضون بشكل قاطع احتمالية الانضمام لتحالف مع فيلدرز. لكن مثلًا عاد بيتر أومتسجيت، زعيم حزب العقد الاجتماعي الجديد، الفائز بـ20 مقعدًا في الانتخابات، للتأكيد أن التحالف مع حزب الحرية بات أمرًا متاحًا، لكن أردف أن مفاوضات التحالف لن تكون سهلة.

تلك المحادثات الصعبة ستكون ضرورية على فيلدرز وحزبه، لأن الرجل يحتاج إلى 76 مقعدًا كحد أدنى لضمان الأغلبية المطلقة في البرلمان ليضمن بذلك أن يكون هو من يُشكل الحكومة الجديدة. بالتالي يحتاج مع مقاعده الثلاثين، أو قرابة الأربعين في أعلى التقديرات، إلى 30 مقعدًا إضافيًا. وقد كان مارك روته، رئيس الوزراء المنتهية ولايته، أحد الذين يفكر فيلدرز أن يتحالف معهم.

بضم روته يكون فيلدرز قد ضمّ يمين الوسط إلى تحالفه، إضافة إلى يمين الوسط الجديد المتمثل في حزب العقد الاجتماعي الجديد. يُضاف إلى الاثنين حركة المواطنين المزارعين، وبتلك الإضافة ستمتلك تلك الأحزاب مجتمعة قرابة 86 مقعدًا، ما يمنحها القدرة على تشكيل الحكومة، فقط إذا استطاعت أن تلتقي في منطقة وسطى من المصالح المشتركة. وبالطبع أن يقبلوا أن يكون فيلدرز على رأس الائتلاف.

وهم بذلك يقبلون أن يكونوا تحت حكم أشبه بحكم فيكتور أوروبان، حاكم المجر حاليًا واليمينيّ المتطرف الذي يراه فيلدرز قدوته في مناهضته للاتحاد الأوروبي، وفي مختلف سياساته. كما أن فيلدرز يريد الاصطدام مع الولايات المتحدة بشأن إرسال مزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا، قائلًا إن بلاده تريد أسلحتها كي تدافع عن نفسها. وربما أن الحقيقة أن فيلدرز من معجبي الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ويوافقه في كثير من سياساته، ويرى أن غزو أوكرانيا كان ضرورة فُرضت على روسيا.

وأن فيلدرز لو كان مكانه لفعل المثل. أما ما سيفعله فيلدرز فعلًا بوصفه المسئول الأول في هولندا فإنه سينفذ أبرز وعوده لناخبيه، وهى وقف تسونامي اللجوء، على حد تعبيره. وسيتبع في ذلك سياسة سماها صفر طالبي لجوء، وسيغلق الحدود في وجه القادمين لهولندا، لأن بلاده، كما يقول، لا تستطيع تحمل مزيد من اللاجئين. رغم أنه في مواقف أخرى يصرّح بأنه سيحترم دستور بلاده، ولن يمس بحرية التعبير أو حرية اعتناق أي دين. وأنه سيكون رئيس وزراء لكل الهولنديين بكافة طوائفهم.

لكن عمومًا حتى لو بدأ فيلدرز يتخذ موقفًا وسطًا من المواضيع التي كان متشددًا فيها سابقًا، فإنه لا يبدو أن الناخبين قد يسمحون له بذلك. فمجرد وصوله لتلك النقطة يعني أن الناخب الهولندي بات يريد السياسات التي وعدهم بها فيلدرز، مثل تصفير عدد المهاجرين، ومثل عديد من الملفات الفضفاضة الأخرى مثل حماية المجتمع الهولندي من تغلغل المتطرفين فيه.

لكن على الأقل سيكون على فيلدرز أن يختار شخصًا متوافقًا عليه ليُحادث الأطياف المختلفة. وكانت البداية غير مبشرة، كما صرّح هو بنفسه حين أُجبر خوم فان شترين على الاستقالة، وهو الشخص الذي عينه فيلدرز للإشراف على المفاوضات، الرجل استقال بسبب اتهامات بالفساد في عمله السابق. فصرّح فيلدرز بأنها ليست بداية مثالية بالنسبة له. فاضطر إلى تعيين رونالد بالسترك، 66 عامًا، الذي شغل سابقًا منصب وزير الداخلية، وكان محاضرًا في الجامعة.

والملفت أنه من حزب آخر غير حزب فيلدرز، ما يعني أن وجود فيلدرز بصفته الشخصية في واجهة المشهد أمرًا غير مريح لعديدين، حتى لو تحالفوا معه بحكم الأمر الواقع. لكن حتى ذلك قد يستغرق وقتًا أطول مما يتخيل أي أحد، فمثلًا حكومة مارك روته، المنتهية، قد استغرقت قرابة 270 يومًا كي تتشكل ويتم تسمية كافة أطرافها.

وقد تتغير كل المعادلات في وقت قياسي، لكن يبدو مؤكدًا في الأوساط الدولية أن فيلدرز لن يستطيع أن يصبح حاكمًا بنفس سياساته التي انتهجها كمرشح أو عضو معارض في البرلمان. فمثلًا قام بتوزيع منشورات تشبه العلم السعودي لكنه استبدل الشهادتين في منتصفه بعبارات مسيئة للإسلام، لكن حين يتعلق الأمر بالسلطة، فالسعودية حليف مهم على فيلدرز أن يتعاطى مع أهميتها الكبرى للاقتصاد العالمي.