«نابليون بونابرت»… إنه إمبراطور فرنسا، استطاع إذهال العالم بانتصاراته العسكرية المهيبة على جيوش أوروبا، ودخل التاريخ كأحد أعظم القادة العسكريين. ولكن كيف رأى «ليو تولستوي» أحد أعظم الروائيين الروس تلك العبقرية؟

سجل تولستوي رؤيته للحروب النابليونية، وغزو جيش نابليون الجرار لوطنه روسيا، في روايته الرائعة «الحرب والسلام». فعلى مدار أجزائها الضخمة، نجد وصفًا للمجتمع الروسي بشتى طبقاته، ورؤيته لذلك الشيطان الُمسمى نابليون، الذي يدمر عروش أوروبا الملكية، ويكتسح الدول بجيشه، ثم رويدًا رويدًا تقترب الحرب حتى تصل إلى روسيا، وتذهب الحملة الفرنسية في طريقها التاريخي المعروف، حتى تحدث كارثة الانسحاب الفرنسي من موسكو المحترقة.

عند محاولة تتبع المعارك النابليونية عن طريق الوثائقيات، كان أحدها يشرح تلك المعارك على خريطة إلكترونية، يبدو عليها الجيشان المتحاربان، بقواتهم وخيولهم ومدفعياتهم، ومن ورائهم القادة. تمثل الخريطة ميدان المعركة بكل جغرافيته، والقرى الصغيرة التي تتخلل تلك المساحة، والجسور… إلخ. ويتم محاكاة المعركة كما تمت على تلك الخريطة، فترى كيف تتحرك الكتائب المختلفة، وفي أي جهة حدث القتال، وردود فعل القادة على تحركات العدو، ومحاولات الالتفاف، ومحاولات استغلال الثغرات.

عند رؤية المعركة بتلك النظرة العلوية تبدو كرقعة شطرنج مسطحة، عليها لاعبان أو أكثر يمارسان اللعب بطريقة عقلانية. يحركان القطع، والكتائب، والخيّالة، والمدفعية.

منْ يمكنه أن ينكر عبقرية نابليون في معركة مثل «أوسترليتز»؟ عند النظر من الأعلى يمكن استخلاص تلك العبقرية بسهولة، تبدو كل الحركات عقلانية، محسوبة، وتم تقديرها بدقة. لكن هل الحرب كانت تُدار بتلك الطريقة على أرض الواقع؟

كلاوزفيتز والحرب

يقول الجنرال العسكري البروسي «كلاوزفيتز» في كتابه «عن الحرب»، والذي ألّفه بعد الحروب النابليونية:

الحرب مجال الصدفة، وما من فعالية بشرية أخرى تُفسَح لها مجالًا أكبر مما تفسحه لها الحرب؛ وما من فعالية أخرى لها مثل هذا التواصل، والتعامل المنوع مع هذا المتدخل المتطفل. تجعل الصدفة كل شيء محتملاً وغير مؤكد كما أنها تتدخل في المسار الكلي للأحداث.

يُشبِّه كلاوزفيتز الحرب بالمقامرة، فهو يتحدث عن أن الحرب تحدث في سياق عام من الخطر، فلا شيء مضمون «طالما ظلت جميع المعلومات والافتراضات عُرضة للشك». أهم ما في المقامرة، كما أحد أهم الأشياء في الحرب كما يُحددها كلاوزفيتز هو ببساطة «الحظ»، فالحرب مسألة تخمين وصدف في النهاية.

ومع وضعنا في الاعتبار سياق وضعية الجيوش والاتصالات في القرن التاسع عشر، تتضح لنا الرؤية أكثر، فالاتصالات لم تصل لتلك الفاعلية الحديثة واللحظية كما الآن، بل كانت تعتمد -كما يوضح كلاوزفيتز- على التقارير المكتوبة من الجواسيس، وفرق الاستطلاع، والتي كانت تتغير بسرعة فائقة، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها للبطء في التسليم والتسلم.

بعبارة أخرى يتحدث كلاوزفيتز دائمًا على أن الواقع يسبق بخطوة، وإن كانت الحرب تبدو للمُشاهد الفوقي كرقعة شطرنج عقلانية. لنجد كيف أن الحرب مساحة لا متجانسة، وغير مستوية، يتخللها كثير من الطيات، والثقوب، واللا عقلانية.

حاول تولستوي تصوير الحرب في روايته بعيون شخصياته المختلفة، كالأمير «أندريه» و«نيقولاي»، وكذلك الجنرالات الروس والفرنسيون والألمان، والضباط والجنود، وغيرهم. كيف رأى هؤلاء الأشخاص الحرب بعيونهم؟ هل رأوا مواضع عبقرية حقًا، أم أن الأمر برمته تجمع لكثير من الصدف؟

يناقش تولستوي ذلك في سياق مختلف عن كلاوزفيتز، فالجنرال البروسي المشبع بالروح الألمانية يتحدث في كتابه «عن الحرب» وحسب جملته المشهورة أنها «استمرار للسياسة بوسائل أخرى». فهو رغم اعترافه بوجود جانب لا عقلاني من الحرب، ولكن في كتابه يتحدث عن فضائل يجب أن يتمتع بها القائد، ويُحلِّل الحرب في سياق سياسي واجتماعي أوسع.

تولستوي والتاريخ

أمّا تولستوي، الأرثوذوكسي الصوفي، فهو يناقش نظرية مختلفة، عن طريق روايته وأشخاصها وأحداثها.

فهو يُطبِّق جميع ما ذكره كلاوزفيتز عن الحرب على مدار الرواية في ذكره للمعارك، فالمعلومات، والاستخبارات، رديئة. وهي تؤدي إلى قرارات عبثية ومتضاربة. والجيوش المتحاربة تحكمها الصدفة، فهي نادرًا ما تستطيع معرفة وتحديد مواقع العدو من الأساس، كل شيء يتم في معارك تولستوي كأنما يسيل بقانونه الخاص، تُحركه إرادة الجنود، والظروف اللحظية. فالواقع يسبق كل الخطط والتوقعات والعبقريات المزعومة، فوضوي، مليء بالثقوب، ويُشكِّله تضارب كثير من الصدف والحظ.

ففي أرض المعركة الحقيقية التي يقودها الأفراد، المليئة بالرصاص والغبار والقذائف وجثث القتلى من البشر وجيف الخيول، في تلك اللوحة، نبتعد تمامًا عن رقعة الشطرنج.

يُصوِّر تولستوي ذلك بروعة في الجزء الثاني من روايته، حيث معركة «بوردينو» تلك المذبحة الرهيبة التي قُتل فيها أكثر من 70 ألف جندي من الجيشين الروسي والفرنسي.

تولستوي يُذهله كيف فسّر البعض عبور أكبر جيش عرفته أوروبا في حينها، 650 ألف جندي من مختلف الجنسيات، من غرب أوروبا لشرقها، لغرض واحد وهو القتل والتدمير والخراب، وذلك فقط تنفيذًا لإرادة الإمبراطور!

فهو يهاجم المؤرخين الذين تجاهلوا الشعوب التي يُحرِّك أقدراها الملوك أصحاب السلطة والحق الإلهيين، وركّزوا على الأفراد الأبطال المميزين العباقرة كنابليون. هذا ما ينفيه تولستوي، ليس عن نابليون فقط، بل عن القيصر ألكسندر أيضًا، وعن مترنيخ، وتاليران، وعن أي شخص.

فهذه النظريات بتنويعاتها، والتي يُطلقها المؤرخون، وتتحدث عن نقل إرادات الشعوب إلى شخص بعينه، لا تُفسِّر شيئًا من التاريخ لتولستوي، فكل تلك المذابح والثورات، لا يمكن تفسيرها بفاعلية لويس الرابع عشر، أو روسو، أو فولتير. فكتابة تاريخ هؤلاء، تظل كتابة تواريخهم الذاتية فقط. أمّا دوافع الشعوب في التحرك فهي مجهولة.

فكما يقول تولستوي: «إن حياة الشعوب لا تحتوي عليها حياة بعض الرجال». ويضيف أيضًا:

كلما وقع حدث، ظهر رجل أو رجال كأنما بإرادتهم تم الحدث. إن نابليون الثالث يأمر، فيسير الفرنسيون إلى المكسيك. ويأمر ملك بروسيا وبسمارك، فتزحف جيوشهما إلى بوهيميا. ويأمر نابليون الأول، فيزحف جيشه إلى روسيا. إن التجربة تدلنا على أن الحدث، أيًا كان ذلك الحدث، مرتبط دائمًا بإرادة شخص ما أو أشخاص يأمرون به. ويزعم المؤرخون، جريًا على عادة قديمة تدفعهم للاعتقاد بالتدخل الإلهي في شئون الإنسانية، أنهم يرون سبب الحدث في التعبير عن إرادة شخصية تقلّدت السلطة، لكن هذا التصور لا تؤكده المحاكمة ولا التجربة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.