لا تنزعجوا فلست وحدي مهندس التفجيرات، فهناك عدد كبير قد أصبح كذلك، وسيقضّون مضاجع اليهود وأعوانهم بعون الله.

عكست هذه المقولة المنهج الذي اتبعه المهندس الشهيد يحيى عياش على مدار سنوات عمله في المقاومة الفلسطينية، والتي كانت حافلة بالإنجازات والأعمال العظيمة، وقضّت بحقٍّ – وكما وعد – مضاجع المحتل؛ فلم يسعَ عياش لتوسيع عمليات المقاومة من الناحية الكمية فقط، بل عمل على تطويرها كيفًا، فابتكر أساليب جديدة تُضاف إلى تكتيكات المقاومة الفلسطينية، وعمل على تربية جيل جديد من مهندسي التفجيرات والعمليات الاستشهادية.

وكان الأسير «حسن سلامة» باكورة هذا الجيل، فهو من قاد عمليات (الثأر المقدّس) بعد اغتيال المهندس يحيى عياش؛ وهي العمليات التي كبّدت الاحتلال حوالي 46 قتيلاً، ونحو 63 جريحاً.


منشأ العبقرية

وُلد يحيى عبد اللطيف عياش المعروف بـ (يحيى عياش) في 6 مارس عام 1966، في قرية رافات جنوب غرب مدينة نابلس في الضفة الغربية. عاش طفولة هادئة، ورافقهُ التفوق في جميع مراحله الدراسية. حفظ القرآن الكريم في السادسة من عمره، وتخرج من مرحلة الثانوية العامة بتقدير 93% تقريباً، ثم التحق بجامعة بيرزيت، وتخرّج من كلية الهندسة قسم الهندسة الكهربائية في مارس 1993، وهذا يعني أنه قضى ثمان سنواتٍ في الدراسة الجامعية؛ وذلك بسبب الاضطرابات والإغلاقات المستمرة للجامعة، التي تعتبرها سلطات الاحتلال جامعة تخريج الكوادر القيادية لمختلف الفصائل الفلسطينية. والجدير بالذكر أنه لم يحضر مراسم حفل تخرجه؛ لأنه كان وقتها مطلوباً لجهاز الشاباك.

التحق عياش بالمقاومة الفلسطينية، ونشط في صفوف كتائب الشهيد عز الدين القسام إبّان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وقد بدأ نشاطه مع عامي 1990 و1991.


الأكثر براعة

لم يكن يحيى عياش مهندس عمليات المقاومة الوحيد الذي نجحت عملياته في ضرب الاحتلال الإسرائيلي بقوة خلال العقود الثلاثة الماضية، ولكنه – بلا شك – كان الأكثر براعةً ونبوغاً بينهم؛ بحيث أصبح يُؤرِّخ لمحطة فارقة في تاريخ مقاومة الشعب الفلسطيني. وبالبحث عن عوامل تميز ونبوغ عياش، فسنجد أن سيرته تطرح أربعة تكتيكات أساسية أضافها لتاريخ المقاومة الفلسطينية، يمكن تناولها على النحو التالي:

1.تطوير صناعة المتفجرات

كان الحصول على السلاح أحد أهم المشاكل التي واجهت المقاومة الفلسطينية، وهو ما ينطبق على المتفجرات؛ ولكن عياش تمكّن من التصدي لأزمة شُح الإمكانات المتوفرة وندرة المواد المتفجرة؛ ليُطوّر أسلوباً جديداً في مجال تركيب العبوات الناسفة من موادٍ أولية متوفرة في صيدليات الأراضي الفلسطينية، حيث نجح عياش في صنع أول عبوة متفجرة محلية عام 1992، وكانت عبارة عن أسطوانة غاز صغيرة؛ مُستفيداً من بحثٍ علميّ في مجال البارود والمتفجرات كان قد ترجمه كاملاً أثناء دراسته في جامعة بيرزيت، وهذه النوعية من المتفجرات كان من العسير على قوات الاحتلال تتبع مصادر صنعها، بالإضافة إلى ابتكار عياش لنموذج (الحقائب المتفجرة)، وهي مشكلة كانت أكثر تعقيداً من السيارات المفخخة بالنسبة للاحتلال.

2. الولوج إلى عمق الأراضي المُحتلة

أدخل عياش تطوراً نوعياً هاماً على العمليات التي كانت تقوم بها الكتائب، فإلى جانب النقلة التكنولوجية في المتفجرات المُستخدمة؛ بدأت عمليات المقاومة في اختراق ومهاجمة أهداف عسكرية في قلب الأراضي المُحتلّة لأول مرة، مثلما حدث في عملية (ميحولا)، حيث تم استهداف مستوطنة تضم مصانع حربية إسرائيلية.

3.ابتكار العمليات المزدوجة

ابتكر عياش نموذج (العمليات الاستشهادية المزدوجة) لأول مرة في تاريخ المقاومة، حيث يُعهد إلى استشهادييْن بتنفيذ العملية، فيقوم الاستشهادي الأول بتفجير نفسه بينما يختبئ الثاني حتى انتهاء التفجير الأول، فيخرج ويختبئ ضمن القتلى على الأرض حتى قدوم دوريات الجيش والشرطة لمعاينة موقع العملية الاستشهادية وتفتيشها؛ فيقوم الاستشهادي الثاني بتفجير نفسه بالطواقم المساندة التي أتت بعد التفجير الأول فتكون عمليتيْن بواحدة. وكانت بيت ليد أول عملية تُنفذ وفقاً لهذا النموذج.

إرهاق أجهزة الأمن الإسرائيلية: لم تُبدِ القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية اهتماماً بمقاتلٍ أو شخص، يفوق الاهتمام الذي أبدته تجاه المهندس يحيى عياش؛ فقد جُنّد الآلافُ من العسكريين لملاحقته، وجعله رئيس الشاباك هدفه الأول منذ تعيينه في منصبه، وأضحى الهاجس الأساسي لإسحاق رابين الذي كان يسأل عنه في كل اجتماع لمجلس الوزراء، وفي كل مرة يلتقي هيئة الأركان وقادة الشاباك. وكان عياش بارعًا في التخفي والمراوغة والإفلات من الكمائن التي كانت تُنصب له من قبل عدة آلاف من جنود الوحدات المختارة من الجيش الإسرائيلي وقوات حرس الحدود والشرطة، بالإضافة إلى عدة مئات من أفراد جهاز الشاباك؛ وهو ما جعل ملاحقيه يُطلقون عليه ألقابًا عديدة، مثل: العبقري، وكارلوس الثعلب، والرجل ذو الألف وجه، وينسبون إليه صفات الرجل المقدس، والإنسان الذي يمتلك سبعَ أرواح، ومن يَرى ولا يُرى، وفي ضوء فشل جهاز الشاباك في القبض على عياش لأكثر من ثلاث سنوات؛ اضطُر رابين إلى إعفاء الجنرال يعقوب بيري من رئاسة الجهاز، ليحل محله الجنرال كارمي غيلون.


أبرز عملياته الناجحة

طوّر عياش أسلوب الهجمات الاستشهادية في كتائب عز الدين القسام، كما أنه كان مسئولاً عن سلسلة العمليات التي تمت رداً على مذبحة الحرم الإبراهيمي في فبراير1994، حيث شكّل مجموعةً استشهادية تحت مسمى (وحدة الشهيد عبد الرحمن حمدان)، وضمّت في عضويتها ثمانية استشهاديين، وقد تمكنت هذه الوحدة من تنفيذ عددٍ من العمليات المتتالية في عمق أراضي 48، اعتماداً على اختيار الأهداف والتوقيت بشكلٍ دقيق، إلى جانب الإعداد الجيد لها. كما تبنّى عياش فكرة الخداع الاستراتيجي التي قامت على تسريب أخبار خاطئة لعملاء الشاباك حول الأماكن التي ينوي عياش استهدافها.

وقد نجح عياش، وعلى مدار ثلاث سنوات فقط، في تكبيد الاحتلال الإسرائيلي خسائر بشرية فادحة، حيث قُتل جراء العمليات التي خطط لها حوالي 76 إسرائيلياً، بالإضافة إلى إصابة ما يزيد عن 400 شخص.

وفيما يلي استعراض لأبرز العمليات الناجحة التي خطط لها المهندس يحيى عياش حتى استشهاده:

1. عملية ميحولا (16 أبريل/نيسان 1993)

هي أولى العمليات الاستشهادية التي تمت تحت إشراف المهندس يحيى عياش، وهي كذلك أولى العمليات الاستشهادية التي قامت بها كتائب عزالدين القسام، فبعد عدة عمليات استطلاع؛ اختار المهندس هدفاً عسكرياً وهو مقهى فيلج إن الذي يعج عادة بالجنود الإسرائيليين، ويقع في مستوطنة (ميحولا) القريبة من منطقة (عين البيضاء) على بعد 15 كيلو متر من نهر الأردن. وبعد أن ركَّب المهندس عياش العبوات الناسفة التي رُبطت بثلاث اسطوانات غاز في سيارة جيب كانت تحمل لوحة ترخيص إسرائيلية، انطلق الشهيد (ساهر التمام) بسيارته المفخخة ليُفجّرها في ساحة المقهى بين حافلتين عسكريتين؛ ليُسفر الانفجار عن مقتل وإصابة العشرات؛ ولكن إسرائيل لم تعترف سوى بمقتل اثنين فقط وإصابة ثمانية.

2. عملية العفولة (6 أبريل/نيسان 1994)

قام الشهيد (رائد زكارنة) بتفجير سيارة مفخخة داخل محطة الأتوبيسات في مدينة العفولة؛ مما أدى إلى مقتل ثمانية إسرائيليين، وجرح ما لا يقل عن ثلاثين. أما السيارة المفخخة فكانت قد سُرقت قبل أسبوعين من رامات غان، وحملت عبوةً ناسفة تزن مائة كيلو جرام وعلب مسامير وقطع حديد، وكانت تلك العملية هي الأولى ضمن سلسلة عمليات ثأر؛ رداً على مذبحة المسجد الإبراهيمي.

3. عملية الخضيرة (13 أبريل/نيسان 1994)

قام الشهيد (عمار عمارنة)، من قرية يعبد بمدينة جنين، بتفجير حزامه الناسف داخل حافلة إسرائيلية تابعة لشركة إيجد، تعمل على خط رقم 80 في بلدة الخضيرة داخل الأراضي المحتلة؛ مما أدى إلى مقتل 5 إسرائيليين، وإصابة حوالي 32 آخرين. وكانت تلك العملية هي العملية الثانية ضمن سلسلة عمليات الثأر.

3. عملية شارع الديزنكوف (19 أكتوبر/تشرين الأول 1994)

قام الشهيد (صالح نزال)، وكان مقاتلاً في كتائب الشهيد عز الدين القسام، بتفجير نفسه داخل حافلة ركاب إسرائيلية في شارع ديزنكوف في مدينة تل أبيب؛ مما أدى إلى مقتل 22 إسرائيليّا، وإصابة ما لا يقل عن 47 آخرين.

4. عملية سلاح الطيران (25 ديسمبر/كانون الأول 1994)

قام الشهيد (أسامة راضي)، وهو شرطي فلسطيني وعضو سري في مجموعات القسام، بتفجير نفسه قرب حافلة كانت تقلّ جنوداً في سلاح الجو الإسرائيلي في القدس؛ مما أدى إلى إصابة 13 منهم.

5. عملية بيت ليد (22 يناير/كانون الأول 1995)

قام مقاتلان فلسطينيان بتفجير نفسيهما في محطة للعسكريين الإسرائيليين في منطقة بيت ليد قرب نتانيا؛ مما أدى إلى مقتل 23 جندياً، وإصابة أربعين آخرين في هجوم وُصف أنه الأقوى من نوعه في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وذلك لاستخدام تكتيك العمليات المزدوجة لأول مرة.

6. عملية رامات غان (24 يوليو/تموز 1995)

قام مقاتل استشهادي، من مجموعات تلاميذ المهندس يحيى عياش التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام، بتفجير شحنة ناسفة ثبّتها على جسمه داخل حافلة ركاب إسرائيلية في رامات غان بالقرب من تل أبيب؛ مما أدى إلى مصرع 6 إسرائيليين، وإصابة 33 آخرين.

7. عملية رامات أشكول (21 أغسطس/آب 1995)

قام مقاتل استشهادي، من مجموعات تلاميذ المهندس يحيى عياش التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام، بتفجير نفسه داخل حافلة ركاب إسرائيلية في حي رامات أشكول في مدينة القدس المحتلة؛ مما أسفر عن مقتل 5 إسرائيليين، وإصابة أكثر من 100 آخرين بجروح.

وبعد ست سنوات من العمليات التفجيرية والاستشهادية التي خطط لها عياش، والتي أرهقت الاحتلال، وبعد مطاردة طويلة من جهاز الشاباك الإسرائيلي، تمكّن الأخير من وضع مادة متفجرة وصلت إلى 50 جم في هاتف خلويّ استخدمه يحيى عياش في مهاتفة والده، وحين تأكد جهاز الشاباك من صوت عياش قام بتفجير الهاتف؛ واستُشهِد المهندس يحيى عياش في 5 يناير/كانون الأول 1996.

المراجع
  1. غسان دوعر، "المهندس الشهيد يحي عياش: رمز الجهاد وقائد المقاومة في فلسطين"، المركز الفلسطيني للإعلام.
  2. "حنيني يكشف تفاصيل أولى عمليات المقاومة الفلسطينية ج2"، موقع الجزيرة نت، 18 يناير 2015.
  3. "يحيى عياش"، موقع موسوعة الجزيرة، 23 أكتوبر 2014.
  4. "يحيى عياش"، موقع قصة الإسلام"، 26 يوليو 2008.
  5. محمود علي، "يحيى عياش.. مهندس عمليات الدفاع عن الأقصى"، موقع البديل، 23 سبتمبر 2015.
  6. عمرو العوضي، "ذكرى استشهاد يحيى عياش.. البطل الذي زلزل أمن إسرائيل"، موقع شبكة الإعلام العربي (محيط)، 5 يناير 2015.
  7. إبراهيم المدهون، "قبسات من السيرة الجهادية للمهندس يحيى عياش"، موقع كتائب الشهيد عز الدين القسام، 5 يناير 2012.
  8. ممدوح المنير، "يحيى عياش.. رجل المستحيل"، موقع كتائب الشهيد عز الدين القسام، 6 يناير 2010.
  9. "المركز الفلسطيني للإعلام يحاور زوجة الشهيد يحيى عياش"، موقع المركز الفلسطيني للإعلام، 9 يناير 2014.
  10. ابتسام صايمة، "قصتي مع يحيى عياش"، موقع نساء من أجل فلسطين، 5 يناير 2014.
  11. "بعد 20 عاماً على وقوعها: بالصور.. مجزرة الحرم الإبراهيمي بين الإجرام ورد القسام"، موقع أجناد نيوز، 25 فبراير 2014.