لعل النظرة الأحادية للنزاعات الدولية مسئولة بقدر كبير عن عدم فهم ملابسات هذه النزاعات، ويبدو لي أن فهم النزاعات الدولية بحاجة لوعي مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: أن التناقضات في بينة المجتمعات كلها هي سمة مشتركة. والتناقض يتجلى في تناقض المصالح والأفكار والأذواق. لم يكن ماركس مخطئًا في ربطه تناقض البنية التحتية بتناقض البنية الفوقية، وعليه لا يمكن فهم أي نزاع بمعزل عن هذا المستوى الأول من التناقضات.

المسألة الثانية: النزاعات الدولية هي «جيولوجيا» البنية المجتمعية. فكل مجتمع مكون من أنساق متباينة يعلو بعضها بعضًا (دينية وقومية وطبقية ومذهبية …إلخ). فما إن يتمكن المجتمع من تجاوز الطبقة الأولى حتى يصطدم بصخور الطبقة الثانية التي قد تكون أقسى أو ألْيَن من سابقتها، وما إن تنتهي من الطبقة الثانية حتى تُطل عليك الثالثة، وهكذا.

ويكفي أن أعطي نموذجًا تاريخيًا حديثًا على ذلك في الهند، حيث مر الصراع في القارة الهندية بهذه «الطبقات الجيولوجية الاجتماعية» على النحو التالي:

1. الطبقة الأولى: الصراع بين المجتمع الهندي (بكل فئاته تقريبًا) والاستعمار البريطاني في نهاية الأربعينات من القرن الماضي؛ أي كانت الطبقة الأولى طبقة استعمار.

2. تم استقلال الهند وخرج الاستعمار البريطاني، وظن الهنود أن المشكلة انتهت. فإذا بالطبقة الثانية تبرز على شكل صراع بين المسلمين والهندوس، وأصبح الصراع دينيًا.

3. تم فصل الهندوس عن المسلمين، لكل منهما دولته؛ باكستان والهند، وظن الطرفان أن المشكلة انتهت. فإذا بالطبقة الثالثة تظهر في صراع بين القومية البنجابية «باكستان الغربية» والقومية البنغالية «بنغلاديش». فأصبح الصراع قوميًا، وانفصلت بنغلاديش وظن الباكستانيون أن المشكلة قد انتهت.

4. ما إن توقف النزاع القومي بانفصال بنغلاديش حتى برزت الطبقة الرابعة في باكستان بين السنة والشيعة، وبدأوا بتفجير مساجد بعضهم بعضًا. فإذا انتهى هذا الصراع بطريقة ما، فإن نمطًا جديدًا من الصراع سيبرز لنا طبقة خامسة.

وهكذا تنقل الصراع بين طبقة الاستعمار وطبقة الدين وطبقة القومية وطبقة المذهبية خلال أقل من 70 عامًا. وهو ما يعني أن قبور البنيات المجتمعية لا تلبث ضمن ظرف معين من أن «تقوم قيامتها».

هذا يعني أن بعض النزاعات والتناقضات تكون في حالة كمون في مرحلة معينة، لكن إزاحة تناقضات أخرى يتيح لها البروز، وهو ما يعني أن النزاعات تشبه جيولوجيا الطبيعة، لكل طبقة جيولوجية سماتها لا تظهر للعيان إلا بعد الزلزال (في الطبيعة) أو الانفجار الاجتماعي (في المجتمعات).

المسالة الثالثة: وهي الخلط بين المستوى الفردي (شخصية صانع القرار وهو ما يستدعي توفر إمكانية التحليل النفسي للقائد)، والمستوى المجتمعي (بنية المجتمع اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا وهو ما يستدعي دُربة متينة في مجال تحليل النظم وتعقيداتها)، والمستوى السياسي (القوى السياسية وتوازناتها وطبيعة النظام المحلي والإقليمي والدولي والمعولم، وهو ما يستدعي فهم ميكانيزمات الحياة الدولية، وتداخل النظم الدولية والإقليمية والمحلية وتأثيرها المتبادل على بعضها). تتفاعل هذه المتغيرات في دورق الصراع، ما يزيد من تعقيد الظاهرة وصعوبة تفكيكها.

هنا نعود للنظرة الأحادية التي تختصر النزاعات في بعد واحد أو بعدين، إما لأنها لا تملك المعلومات عن الأبعاد الأخرى، أو أنها تميل لتبسيط الأمور لتبدو واضحة ومفهومة (وهي ليست كذلك)، أو أنها مؤدلجة لا ترى الكون إلا من ثُقب أيديولوجيتها أو منظورها الحزبي.

وثمة مشكلة أكثر تعقيدًا، وهي التي تظهر عند محاولة تسوية النزاعات. هنا لا بد من تحديد المتغير المركزي (أو الموتور) الذي يحرك النزاع لجعله نقطة الارتكاز لمشروعات تسوية النزاع، ويتمثل هذا الموتور في تحديد جوهر النزاع، وكيف يتفاعل مع المستويات الثلاث السابقة.

وأخيرًا قياس موازين القوى بين المتصارعين، ويشترط لفهمها إدراك أنها مجموع الإمكانيات المادية والمعنوية للمتصارعين وأهمها «فن توظيف هذه الإمكانات لتحقيق الهدف». ورغم كل ذلك يبقى الفهم الخاطئ للنزاع واردًا، ويزداد التعقيد مع محاولة تحديد مساره المستقبلي، وهنا تتضح الفوارق بين قراءات «الكمبيوتر» وبين قراءة الفنجان.