سحبت السعودية والبحرين والكويت – والقائمة مفتوحة – سفراءها من لبنان؛ احتجاجًا على تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرادحي في برنامج «برلمان شعب» الذي تنتجه شبكة الجزيرة منذ 2020، وصف فيها الحرب على اليمن بـ«العبثية» مبررًا إطلاق الحوثيين للطائرات المسيرة على مناطق سعودية بأنهم يتعرضون لعدوان خارجي يستهدف أرضهم وأفراحهم وجنازاتهم.

جورج قرداحي مطالب بالاستقالة. رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي ناشده «اتخاذ القرار المناسب لحماية مصلحة البلد وإصلاح العلاقة مع الجيران العرب». كذلك تدخلت جامعة الدول العربية ومنظمات إقليمية أخرى دفاعًا عن حق السعودية في اتخاذ ما تراه مناسبًا.

الإعلامي المصري عمرو أديب انضم للحملة في حلقة الجمعة، 29 أكتوبر 2021، من برنامج الحكاية الذي تبثه شبكة إم بي سي السعودية، واصفًا جورج قرادحي بـ«المنافق» و«النصاب» لأنه عمل في نفس الشبكة السعودية لسنوات عبر تقديم برنامج «من سيربح المليون» الذي صنع شهرة الإعلامي اللبناني.

برلمان شعب

برنامج برلمان شعب «برلمان شعيب سابقًا» يقدمه الإعلامي والناشط الكويتي شعيب راشد وتنتجه شبكة الجزيرة منذ 2020 وتبثه عبر يوتيوب ومنصات السوشال ميديا التابعة لها.

فكرة برلمان شعب أن يضم 12 عضوًا يمثلون دولًا عربية مختلفة لمناقشة قضايا الشباب، واستضافة شخصيات عربية مشهورة لمساءلتها فيما يشبه جلسات سحب الثقة.

اختار البرنامج جورج قرداحي ليكون ضيف الجلسة الرابعة من النسخة الثانية. وانطلقت الحلقة من تصريحاته في 2018 التي اعتبر فيها بشار الأسد شخصية العام العربية، ودفاعه لاحقًا عن موقف الإمارات في التطبيع مع إسرائيل.

ماذا قال قرداحي في الحلقة؟

سُجلت الحلقة في 5 أغسطس/ آب 2021. لكنها أذيعت منتصف أكتوبر/ تشرين الأول. وتضمنت العديد من التصريحات المهمة التي لم يُسلط عليها الضوء، بعدما اقتنصت السعودية التركيز بأسره.

فيما يخصُّ الشأن الفلسطيني، قال جورج قرداحي إنه يؤيد أي اقتراح يوافق عليه الشعب الفلسطيني طالما يضمن إعلان دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس، وهو ما توقع أنه «أصبح قريبًا جدًّا».

كما اعتبر أنه لا يؤيد أو يرفض تطبيع الدول العربية مع «الكيان الإسرائيلي» باعتبار أن كل دولة أدرى بمصالحها من جهة، وأن الشعب الفلسطيني نفسه اعترف بوجود إسرائيل عبر منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية من جهة أخرى.

وفيما يخصُّ سوريا استمر قرداحي على دعمه للأسد، بقوله إن النظام في سوريا سقط، لكن الدولة بقيت وانتصرت وحمت البلاد من «مؤامرة كونية»، معتبرًا أن بشار الأسد انتصر على «المخططات المستوردة لتقسيم سوريا».

أما عن لبنان فأعرب جورج قرداحي عن أمله في حدوث انقلاب عسكري في لبنان يتولى السلطة مؤقتًا لخمس سنوات أو ست فيعدل الأوضاع، ثم يعيد السلطة للمدنيين.

ودافع قرداحي عن حزب الله باعتباره «تنظيم مقاومة لبناني ليس مستوردًا، وضحى وقاتل وحمى لبنان»، ولا يمكن مقارنته بالمنظمات المسلحة الأخرى. لكنه طالب بتفاهم يضع سلاح حزب الله تحت سلطة الدولة، ضمن الاستراتيجية الدفاعية.

أما عن مصر، فاعتبر جورج قرداحي أن التغيير الذي حدث في السلطة في مصر في 30 يونيو 2013 كان نتاج ثورة حقيقية شارك فيها 30 مليون مصري، قبل أن يصل الرئيس عبد الفتاح السيسي للسلطة، فيسابق الزمن ويحقق قفزات كبيرة في فترة قصيرة «صارت تضاهي الدول المتقدمة»، حتى لو كان الشعب المصري «شادد الحزام» حاليًّا فسيرى النتائج في المستقبل.

وفي رده على سؤال حول فض اعتصام رابعة في 14 أغسطس/ آب 2013، قال جورج قرداحي إنها «ليست موضوعه» ولا يملك معلومات كافية عنها.  لكنه أكد أن «التاريخ لا يتوقف عند هذه الأحداث بل عند النتائج»، بالتالي دافع عن «الإنجاز الذي حققه السيسي» بعد فترة حكم محمد مرسي التي «أكلت فيها الأمراض الناس».

دافع كذلك عن زيادة ديون مصر الخارجية حاليًّا، باعتبار أن «مصر قادرة» وأن الديون الخارجية التي زادت لا تمثل شيئًا بالنسبة لحجم الدولة المصرية، واصفًا العاصمة الإدارية الجديدة بأنها «أهم إنجاز في العالم العربي كله».

وفي ختام الحلقة أتى الدور على التصريحات التي أثارت الجدل بعدما وصف جورج قرداحي الحوثيين بـ «يمنيين يدافعون عن أرضهم وعن أنفسهم بلا اعتداء على أحد، بينما يواجهون هم حربًا عبثية وعدوانًا خارجيًّا يجب أن يتوقف».

أعضاء «برلمان شعب» طرحوا اسمي السعودية والإمارات كمتورطين في هذا العدوان. حاول قرداحي تجاوز تسمية البلدين. لكنه أجاب عن سؤال حول الطائرات المسيرة التي يضرب بها الحوثيون السعودية بأنها «لا تقارن بما يعانونه في أرضهم وفي بيوتهم وفي جنازاتهم وأفراحهم التي تقصف بالطائرات». 

وانتهت جلسة «برلمان شعب» بسحب الثقة من جورج قرداحي بأغلبية 10 من أصل 12 عضوًا، وامتناع عضوين عن التصويت.

وزير سليمان فرنجية: حاضر غائب

بين تاريخي تسجيل حلقة برلمان شعب وبثها، كان جورج قرداحي قد أصبح وزير الإعلام اللبناني في حكومة نجيب ميقاتي، بترشيح من رئيس تيار المردة سليمان فرنجية.

أهمية اسم سليمان فرنجية هنا أنه حليف قوي للرئيس السوري بشار الأسد وحزب الله.

بدأ نشاطه السياسي في 1987 بتأسيس كتيبة مسلحة شاركت في الحرب الأهلية. قبل أن يوافق على اتفاق الطائف في 1989 ويسلم سلاح تيار المردة إلى الدولة.

بث الحلقة ثم حملة إلكترونية

بثت شبكة الجزيرة حلقة جورج قرداحي في 25 أكتوبر 2021. ومعها انطلقت حملة إلكترونية من السعودية عبر تويتر، بمشاركة أمراء من العائلة المالكة، بينهم الأمير عبد الرحمن بن مساعد، طالبت بموقف رسمي صارم ضد الوزير اللبناني، مع مطالبات بإقالة الوزير اللبناني.

السفير السعودي لدى لبنان وليد البخاري أعاد نشر الجزء المتعلق بالسعودية في حلقة جورج قرداحي. ثم نشر تغريدة غامضة كتب فيها: «تعتبر النقطة (.) على السطر الرمز الأعظم في النص».

رد جورج قرداحي

كتب جورج قرادحي صباح اليوم التالي أن المقابلة أجريت قبل شهر من توليه منصبه، وأنه لم يقصد الإساءة للسعودية أو الإمارات، معتبرًا أن وصفه لحرب اليمن بالعبثية محبة للبلدين وحماية لمصالحهما، متهمًا جهات لم يسمها بإشعال الحملة.

تصعيد رسمي

استدعت وزارة الخارجية السعودية السفير اللبناني في الرياض وسلمته مذكرة احتجاج رسمية على تصريحات جورج قرداحي.

بينما سلمت الحكومة اليمنية – حكومة عبد ربه منصور هادي – الخارجية اللبنانية رسالة استنكار.

وقال مجلس التعاون الخليجي إن تصريحات قرداحي «تعكس فهمًا قاصرًا وقراءة سطحية»، وطالب الدولة اللبنانية بتوضيح موقفها.

لبنان: قرداحي لا يمثلنا

الخارجية اللبنانية وصفت تصريحات وزير إعلامها بـ «الشخصية»، وقالت إنها خرجت قبل تعيينه وزيرًا، ولا تمثل موقف الحكومة.

وقال مكتب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إن تصريحات قرداحي «مرفوضة»، وتخالف موقف الحكومة الحريصة على أفضل علاقات مع السعودية، حتى الرئيس ميشال عون قال إن التصريحات لا تعبر عن موقف لبنان.

 لم يكن كافيًا للسعودية

موقف لبنان الرسمي لم يعد مرضيًا للسعودية التي واصلت التصعيد إلكترونيًّا، ثم تبعته بتصعيد دبلوماسي باستدعاء سفيرها لدى لبنان للتشاور، وإمهال السفير اللبناني 48 ساعة لمغادرة السعودية، ووقف جميع الواردات اللبنانية إلى المملكة.

الكويت بدورها استدعت القائم بالأعمال اللبناني وسلمته مذكرة احتجاج رسمية، قبل أن تستدعي سفيرها لدى لبنان للتشاور، وتطالب القائم بأعمال السفارة اللبنانية بمغادرة البلاد خلال 48 ساعة، وهو نفس الموقف الذي كررته البحرين.

الإمارات من جانبها لم تتخذ أي خطوات تصعيد، مكتفية بتغريدة نائب رئيس شرطة دبي ضاحي خلفان الذي وصف جورج قرداحي بـ «إعلامي ناجح فشل من أول تصريح سياسي».

أما في مصر، فبخلاف «حكاية عمرو أديب»، اكتفت القاهرة رسميًّا وإعلاميًّا بالصمت.

البحث عن القرار المناسب

مع استمرار التصعيد، هاتف رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي وزير إعلامه جورج قرداحي وطالبه بـ «اتخاذ القرار المناسب» لمصلحة لبنان ومنع تدهور الأوضاع مع السعودية ودول الخليج.

لكن جورج قرداحي قال إنه «لا يجوز أن يكون هناك من يملي علينا ما يجب القيام به من بقاء وزير في الحكومة أو عدمه»،  وإن «لبنان لا يجوز أن يكون عرضة للابتزاز لا من دول ولا سفراء ولا أفراد» رافضًا الاعتذار باعتباره لم يخطئ.

حلفاء جورج قرداحي

بعدما تخلى عنه رئيس الدولة ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لم يبقَ جورج قرداحي وحيدًا.

حزب الله أشاد بتصريحاته «الجريئة والشريفة» ورفض المطالبة باستقالته.

لكن الحليف الأهم كان سليمان فرنجية الذي رشحه للوزارة بالأساس.

فرنجية قال إن وزيره لم يرتكب أي خطأ، مؤكدًا أن قرداحي عرض عليه الاستقالة فعلًا، لكنه رفض، معتبرًا أن «لبنان لن يتعاطى بدونية مع أي بلد كان».

وأضاف سليمان فرنجية أنه لم يتبنَّ أي موقف ضد دول الخليج خصوصًا السعودية منذ 15 عامًا «انطلاقًا من القناعات وليس التزلف الذي يمارسه البعض». لكنه رفض تقديم جورج قرداحي «فدية» باعتبار أن حديثه محسوب على تيار المردة.

أكبر من جورج قرداحي

الأزمة أصبحت إذن أكبر من جورج قرداحي من ناحيتين:

1. مأزق الحكومة اللبنانية:

سليمان فرنجية أكد أنه لن يسمي بديلًا حال إبعاد جورج قرداحي. محذرًا من استقالة الحكومة بالكامل؛ لأن لبنان سيفشل في تشكيل أي حكومة جديدة.

2. أزمة السعودية الأكبر:

بيانات السعودية الرسمية حول التصعيد تجاوزت تصريحات جورج قرداحي نفسه، فذكرت تحديدًا سيطرة حزب الله على المنافذ الحدودية وتهريب الكبتاجون. إذ ترى الرياض أنها تقدم مساعدات للبنان – بينها التحويلات النقدية التي يحولها الرعايا اللبنانيون العاملون في السعودية إلى بلادهم – بينما يصدر لبنان إليها المخدرات ضمن نشاط حزب الله. وهي النقطة التي أشار سليمان فرنجية إليها حين قال إن «الرعايا اللبنانيين يعطون الدول أكثر مما يأخذون، وهم يعملون بعرق جبينهم وليسوا لاجئين».

شربل وهبة مجددًا؟

أزمة جورج قرداحي تكرار شبه حرفي لأزمة وزير خارجية لبنان السابق شربل وهبة التي أدت كذلك لسحب سفراء وانتهت بالاستقالة، بعدما وصف إيران وتركيا في تصريحات تليفزيونية بـ«الصديقتين»، ودافع عن سلاح حزب الله، بينما وصف دول الخليج بـ «أهل البدو» الذين لمح لاتهامهم بـ «زراعة داعش في المنطقة وبينها لبنان».

 لكن مشكلة جورج قرداحي قد تكون أكبر؛ باعتبار أن وهبة كان وزيرًا في حكومة تصريف أعمال، بينما قرداحي وزير فيما كان يفترض أن تكون «حكومة إنقاذ» تستمر حتى تنظيم الانتخابات الجديدة، التي تثير أزمة هي الأخرى بين الرئيس عون ومجلس النواب حول موعدها وإدارة تنظيمها، بما يمكن معه أن تتأخر إلى أجل غير مسمى.