محتوى مترجم
المصدر
Georgetown Journal
التاريخ
2016/06/28
الكاتب
سارة روي

يعتبر الشعب الفلسطيني في غزة منسيًا إلى حد كبير. إنهم شعب خفي يعيش في عالمٍ دون حقوق أو إمكانيات. طوال قرابة 50 عامًا من الاحتلال الإسرائيلي، تراجعت غزة والضفة الغربية من اقتصاد ذي دخل أقل من المتوسط إلى اقتصادٍ مختل يعتمد بشكل غير متناسب على المساعدات الخارجية. تقع غزة تحت ضغط هائلٍ من الحصار المستمر، الذي يُكمل حاليًا عامه العاشر. أدت القيود المصرية المفروضة على انتقال الأفراد عبر معبر رفح، الذي ظل مغلقًا في الأغلب، منذ أكتوبر 2014، وفي وجه المساعدات الإنسانية أيضًا، إلى زيادة الخلافات الداخلية، وإعاقة المصالحة بين الفلسطينيين.مستويات البطالة والفقر مرتفعة بشكل مذهل. فوفق بيانات البنك الدولي، تصل معدلات البطالة حاليًا إلى 43%، وترتفع بين الشباب لتصل إلى 60%. ورغم التوثيق الجيد للاحتضار الاقتصادي في غزة، عادة ما يتم تجاهل الأثر المجتمعي للحصار. فقد خلق الحصار سلسلة من الحالات المزمنة طويلة الأمد في المجتمع الفلسطيني؛ حيث تدمير المساحة المدنية، والتغيير في البناء الاجتماعي والحالة الصحية، إضافة إلى حالة الصدمة واسعة النطاق، والتغير الكبير في المواقف الشعبية، وأخيرًا، اتساع الفجوة بين الأجيال.

أدى تدمير مصر شبه الكامل لأنفاق غزة التجارية إلى تسديد ضربة إضافية قاتلة للأوضاع الاقتصادية هناك.

مثلما يشير المتحدث باسم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغل الفلسطينيين في الشرق الأدني (الأونروا) «كريس جانيس»: «لم يكن اليأس والقنوط من إمكانية تحول المجتمع الغزاوي إلى مجتمع طبيعي، متجاورين بهذه الدرجة من الوضوح أبدًا». وفق بيانات البنك الدولي، خفض الحصار الإسرائيلي وحده – الذي قطع جميع صلات القطاع بالعالم الخارجي تقريبًا، فأنهى بشكل شبه كامل تجارة الاستيراد التي يحتاجها القطاع بشكل ماسٍ – إجمالي الناتج المحلي لغزة بنسبة 50% على الأقل منذ عام 2007. كما سدد تدميرُ مصر شبه الكامل لتجارة الأنفاق بغزة – التي كانت تمثل شريان حياة اقتصادي حيوي مع كونه تحت الأرض – ضربة إضافية قاتلة بشدة. وفوق كل هذا، فاقم «صراع عام 2014» بين إسرائيل وغزة، أو عملية الجرف الصامد، وضعًا كئيبًا بالفعل، عبر خفض اقتصاد غزة بقيمة 460 مليون دولار.يدشن ذلك ما أطلق عليه أحد المحللين المحليين «ديناميكية التفكك»، التي أنتجت مجموعة من التغييرات غير المسبوقة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. مصحوبة بالتأثير المدمر للحصار. حيث أسفرت عملية الجرف الصامد عن لحاق الدمار والأضرار واسعة النطاق بالمنازل، والمدارس، والمؤسسات الصحية، والمصانع، والشركات، والبنية التحتية لمعالجة مياه الصرف والشرب، والزراعة، مما أدى إلى تدمير المساحة المدنية.فوجد 100 ألف شخص على الأقل أنفسهم مشردين، ما نتج عنه نزوح ما يقدر بـ 75 ألف شخص، ناهيك عن إصابة 11,200 شخص، ألف منهم على الأقل بعاهات مستديمة، وتيتّم حوالي 1500 طفل.تعرّض مجتمع غزة للهدم بشكل جذري، ولا سيما مع التدمير الفعلي لطبقته المتوسطة وظهور طبقة جديدة غير مسبوقة من الفقراء. ربما ما يمثل رمزًا للأضرار التي لحقت بالمجتمع، خصوصًا منذ فرض الحصار، هو ارتفاع معدل وفيات الرُضّع. فمعدل وفيات الرضع لا يقيس فقط الحالة الصحية للأطفال، بل أيضًا للشعب ككل. لأول مرة منذ أكثر من 50 عامًا، ازداد معدل وفيات الرضع من 20,2 لكل 1000 مولود عام 2008، إلى 22,4 في عام 2013.ارتفع معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة (وهو عدد الأطفال الذين يموتون خلال أربعة أسابيع من الولادة)، بمعدلات كبيرة من 12 عامًا 2008، إلى 20,3 عام 2013، وهو ارتفاع بنسبة حوالي 70%.

تعرّض مجتمع غزة للهدم بشكل جذري، ولا سيما مع التدمير الفعلي لطبقته المتوسطة وظهور طبقة جديدة غير مسبوقة من الفقراء.

كما ارتفعت معدلات العنف المنزلي وعمالة الأطفال، بالإضافة إلى الأدلة الكثيرة المروية عن الزيادة في الدعارة. وبالتأكيد، فإن الحصار، مصحوبًا بالحروب الثلاث الأخيرة في غزة، من العوامل المساهمة في ذلك.وفق مسئولي الصحة المحليين، يعاني 80% من البالغين في غزة من بعض أشكال اضطراب ما بعد الصدمة. أثناء عملية الجرف الصامد، تعرضت جميع أجزاء القطاع إلى الهجوم، أو كانت تحت تهديد التعرض له. ووفق الأستاذ بجامعة يال «براين باربر»: «كانت عملية الجرف الصامد مُعيقة بشكل فريد لأن المخاطر طالت الجميع، ولم يكن هناك مأمن للالتجاء إليه. كان الأمر، بشكل ما، مروعًا على نحو شامل ودون مفر».كل طفل يزيد عمره عن 6 سنوات شهد ثلاث حروب، ويحتاج 400 ألف طفل على الأقل إلى تدخل نفسي فوري، وفق بيانات الأمم المتحدة. نتيجة لذلك، خلّفت عملية الجرف الصامد شعورًا عميقًا بالفزع الجماعي واليأس، والذي لا يتعلق بالحرب بقدر ما يتعلق بالأوضاع غير الإنسانية التي بقيت على حالها منذ الحرب. حيث شعر سكان القطاع بأنهم أقل أمانًا وأمنًا، وأكثر تجردًا من الأمل.حمل شعب غزة في السابق وجهات نظر أكثر تنوعًا بالنسبة لإسرائيل، لكنهم الآن يرون احتمالية ضئيلة لتحقيق السلام. يبدو أن هناك انقسام جيلي كبير بين جيل أوسلو «الأكبر» والأجيال السابقة، الذين كان لديهم بعض الدراية بداخل إسرائيل والعالم الخارجي، وهؤلاء الذين ولدوا منذ أوسلو، والذين يتمتعون بالقليل من هذه الدراية، إن وجدت من الأساس.شعب غزة شاب جدًا، حيث يبلغ حوالي نصف الشعب 14 عامًا أو أقل. يُعد هذا الأمر خطر للغاية، خصوصًا في غياب القيادة الفعالة وفي بيئة تقدم القليل جدًا لسكانها. علاوة على ذلك، يبدو أن الانقسام الجيلي يُحدث تحولًا. حيث يتحمل الصغار مسئولياتٍ مخصصةٍ لأفراد أكبر كثيرًا. فيُجبر الأطفال على ترك الدراسة للعمل وللمساعدة في دعم عائلاتهم؛ في بعض الحالات، يترأس هؤلاء الأطفال أسرهم. حتى قبل عملية الجرف الصامد، حوالي 30% من جميع الشباب المتراوح عمرهم بين 16-17 خرجوا من المدرسة في غزة والضفة الغربية. يدرك شعب غزة، خصوصًا الشباب، ما يُحرمون منه. فإلى متى يُتوقع منهم تقبل حرمانهم؟تعد عملية إعادة الإعمار بطيئة جدًا بشكل مؤلم لدرجة أن لا أحد في غزة، باستثناء المنظمات الدولية، لا يزال يتحدث عنها. بحلول شهر نوفمبر 2015، أعيد بناء 170 منزلًا فقط من أصل 18 – 19 ألف منزل تعرضوا للتدمير أو لأضرار بالغة. وبحلول إبريل 2016، وفق بيانات الأمم المتحدة، تمت إعادة بناء حوالي 3 آلاف منزل أو جُعلوا صالحين للمعيشة.ومما لا يعد مفاجأة أنه «يُقدر وجود 1.3 مليون شخص في حاجة إلى مساعدات إنسانية في قطاع غزة عام 2016 (يبلغ كامل تعداد السكان 1.8 مليون شخص)».يتمتع هؤلاء الأشخاص بمهارات متنوعة، لكنهم يحرمون عمدًا من حق العمل من قبل إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فيجدون أنفسهم بدلًا من ذلك مجبرين على الاعتماد بشكل منهك على المساعدات الخارجية. يكاد المتبرعون الأجانب يكونون غائبين بالكامل في سياق إعادة الإعمار، لأن أغلبية الأموال الموعود بتقديمها – حوالي 65% – لم تُقدم بعد. كما تعرقل القيود الإسرائيلية طويلة الأمد استيراد مواد البناء الضرورية، رغم تخفيف بعض القيود المحددة في الأشهر الأخيرة.بسبب المخاوف الأمنية، تحظر إسرائيل دخول مجموعة من المواد إلى غزة، بما في ذلك اللوحات الخشبية التي يزيد سمكها عن 1 سم. وبالتالي، يتعين على الكثير من سكان غزة استخلاص مواد البناء، وهو ما يمثل نموذجًا آخر على التطبيع مع العنف وغياب القانون، الذي يستمر المجتمع الدولي في قبوله.

صدرت تعليمات مؤخرًا للفلسطينيين العاملين في منصات إعلامية كبرى بعدم تغطية شئون غزة بعمق، باستثناء الأحداث الكبرى.

وصف مسئول بمنظمة حقوقية إسرائيلية، «جيشا» (المركز القانوني لحرية التنقل)، الوضع في غزة قائلًا: «في بقية العالم، نحاول رفع مستويات معيشة البشر إلى المستوى الإنساني. لكن غزة هي المكان الوحيد الذي نحاول فيه إبقائهم في الأسفل – لإبقائهم عند أقل المؤشرات المحتملة». ليس الهدف من المساعدات المقدمة من المانحين الدوليين إنتشال السكان من الفقر، بل الحفاظ على قدرتهم على الصمود في الفقر. ليس الهدف منها تعديل هياكل البطالة والتبعية، بل استدامتها وتعزيزها. ليس الهدف منها تخفيف أسباب المعاناة، بل ببساطة، إدارتها.ماذا سوف يحدث عندما يُعرِّف اليأس الهوية الفلسطينية؟ هل سوف تستجيب إسرائيل، مثلما فعلت دائمًا، عبر بناء المزيد من الحواجز وإلحاق المزيد من البؤس؟ هل يستجيب المجتمع الدولي عبر تقديم المزيد من أجولة الدقيق وأكياس الأرز؟ صدرت تعليمات مؤخرًا للفلسطينيين العاملين في منصات إعلامية كبرى من المكاتب الرئيسية بعدم تغطية شئون غزة بعمق، «باستثناء الأحداث الكبيرة»، حسبما قيل لهم.لن يكون هناك «قصص إنسانية، ولا تغطية يومية، ولا تركيز على المعاناة». وذلك، حسبما قيل لهم، من أجل تقليل أي صلة بالضفة الغربية وأي فهم لغزة وما حدث لها. غزة منسية «في وسط المجهول». وطالما استمر الاحتلال والاستعمار، لن يكون هناك حل أو خاتمة. ما تحتاجه غزة، وما يحتاجه جميع الفلسطينيين والإسرائيليين، هو أن ينتهي الاحتلال وأن يبدأ التحرير.