في لمح البصر، غرق الجميع في بركة ماء، بعد ما ظنها الكثيرون محض سراب خادع. سياسيون يسخرون، وآخرون مسّهم التخبط بعدما بدؤوا يستشعرون خطرًا اعتبروه في البداية يقبع بعيدًا في مدينة ووهان وسط الصين، وعلى حين غرة انتقل كوفيد-19سريعًا عبر مطارات العالم، ليستقر في القارة العجوز، وتصبح أوروبا مركز الوباء.

خرج رئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون» في لهجة باردة ليخبر البريطانيين، أن عليهم الاستعداد لفقدان أحبائهم قريبًا، أمَّا رئيس وزراء إيطاليا «جوزيبي كونتي»، فكان أميل إلى الطمأنة في بداية الأمر، إلى أن انهار كل شيء من حوله، وتدهور الأمر سريعًا، وفي يوم وليلة تخطت إيطاليا أرقام الصين، وعلى هذا المنهاج انفرط العقد، ولحقت إسبانيا وفرنسا بإيطاليا، بينما تتخبط بريطانيا وتعاني، وحدها ألمانيا التي بدت متماسكة.

في نفس التوقيت وبينما حالة الهلع تجتاح أوروبا، خرجت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لتتحدث بهدوء وثقة لتعلن أن الأمر جد خطير، وأن من 60% إلى 70% قد يصابون بالفيروس، إذا ما بقي الأمر كما هو عليه، هذه الجدية المشفوعة بالحذر كانت سببًا فيما تشهده ألمانيا اليوم من تماسك، وسيطرة على الوضع.

وحتى 8 أبريل/نيسان، وصل عدد المصابين بكورونا حول العالم إلى نحو 1.5 مليون حالة، وتجاوز عدد الوفيات 87 ألفاً، وهو ما يعادل 5.8% من إجمالي عدد المصابين، الولايات المتحدة الأمريكية جاءت في مقدمة دول العالم بإجمالي إصابات تجاوز 400 ألف حالة، أمَّا ألمانيا، فقد سجلت قرابة 110 آلاف حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد، و2292 حالة وفاة، مما يعني أن نسبة الوفيات وصلت إلى نحو 2.2% من إجمالي عدد الإصابات، بعد ارتفاعها تدريجيًا في بداية الأزمة من 0.48% إلى 0.72% ثم إلى 1.5% حتى وصلت إلى النسبة الحالية، وهي في كل الأحوال نسبة منخفضة إذا ما نظرنا إلى الجارة إيطاليا، التي وصل معدل الوفيات فيها إلى 10.6% من إجمالي عدد المصابين، فما السبب وراء المؤشرات الألمانية المطمئنة حتى الآن؟

الحالة صفر

بدأ ناقوس الخطر يُقرع في ألمانيا عندما أعُلن عن تسجيل أول إصابة بفيروس كوفيد-19 في 28 يناير/كانون الثاني، لموظف يعمل في شركة قطع غيار سيارات، في منطقة شتارنبرغ في بافاريا جنوب غربي ميونيخ، وتملك الشركة مصنعين في ووهان بالصين، منذ تلك اللحظة بدأت الحكومة الألمانية في اتخاذ إجراءات حازمة وسريعة، وفي غضون 48 ساعة توصلت السلطات إلى الحالة صفر سبب العدوى، وتعقبت مخالطيه، ووضعتهم تحت الحجر الصحي.

أوقفت الشركة السفر إلى الصين وأغلقت مصنعها في بافاريا، وتم بالفعل حينها احتواء حالة التفشي بعد ما جاءت نتيجة اختبار العديد من الموظفين إيجابية، وأتبعت نفس الخطوات بصرامة لاحقًا في جميع أنحاء البلاد التي بدأت تظهر فيها حالات جديدة.

مع زيادة عدد المصابين بدأت الحكومة في حظر التجمعات، وفرض قيود من شأنها التقليل من حدة انتشار الفيروس، وكان من أهم هذه الإجراءات عزل المسنين بشكل موسع، وهو الأمر الذي تترجمه الأرقام، فقد وصلت الإصابة بين الفئات العمرية أكبر من 80 عاماً إلى 6% فقط، وسجل الأشخاص من 60 عامًا إلى 79 عامًا نحو 18%، بينما وصلت نسبة الإصابة في الأشخاص تحت 60 عاماً إلى 76%، وهي الفئة القادرة على مقاومة المرض.

فحوصات موّسعة

من ضمن الإجراءات الحاسمة في مكافحة كوفيد-19، انتهاج الحكومة سياسة الفحوصات الموسعة، حتى وصلت إلى 80 ألف فحص في اليوم الواحد، ما يعادل قرابة نصف مليون تحليل في الأسبوع الواحد، وهو الإجراء الذي لم تنتهجه دول أوروبية كثيرة اكتفت بفحص من تظهر عليه أعراض المرض كاملة.

وطورت جامعة «شاريتيه» ببرلين اختباراً لكورونا، يمكن الحصول على نتائجه من المختبرات خلال يوم واحد فقط، على عكس بريطانيا على سبيل المثال؛ حيث تظهر المختبرات النتائج خلال 4 أيام.

أمَّا بخصوص الجاهزية والاستعدادات لمواجهة سيناريوهات أكثر تقدمًا من تفشي فيروس كورونا، فقد استعدت المستشفيات الألمانية برفع سعة أسرة العناية المركزة لديها من نحو 28 ألف سرير إلى 40 ألف سرير، ومن المخطط أن يصل عدد أسرة العناية المركزة في ألمانيا إلى 56 ألف سرير، كجزء من استراتيجية مواجهة فيروس كوفيد-19.

سلاسل العدوى

في خطوة أخرى متقدمة تجري الحكومة الألمانية أبحاثًا لاستخدام تطبيق يتتبع سلاسل العدوى، ويعكف معهد «روبرت كوخ» الألماني للأبحاث والتحاليل، على التوصل إلى التطبيق الذي يعقد عليه الجميع آمالًا واسعة في تشديد إجراءات تعقب المخالطين، الأمر الذي من شأنه حصار الوباء والسيطرة عليه.

وتعتزم الحكومة أن يكون هذا التطبيق على أساس طوعي، من دون إجبار المواطنين على استخدامه، خاصة أنه يدخل تحت بند انتهاك الخصوصية، وفي خطوة وُصفت بالمُشجِعة، قالت ميركل، إنها ستستخدم هذا التطبيق بنفسها إذا أسفرت الاختبارات الحالية عن نتائج واعدة بتحقيق نجاح.

أقدم نظام رعاية صحية

هذه المنظومة الفاعلة لم تأت من فراغ، فألمانيا لديها واحد من أقدم نظم الرعاية الصحية في العالم، ويعود أصل هذا النظام إلى قانون أوتو فون بسمارك الاجتماعي، وهو موحد الولايات الألمانية ومؤسس الرايخ الثاني، فبعد قيام الإمبراطورية الألمانية عام 1871، أصبح أول مستشار لها، وتضمن قانون بسمارك مشروع قانون التأمين الصحي عام 1883، ومشروع قانون التأمين ضد الحوادث عام 1884، إضافة إلى مشروع قانون تأمين العجز والشيخوخة عام 1889، باعتباره تأميناً صحياً إلزامياً، وبالتدرج بدأ تطبيق هذه القوانين، فعلى سبيل المثال في عام 1901 أصبح عمال النقل والمكاتب مشمولين بالتأمين الصحي العام، جاء بعدهم في عام 1911 عمال الزراعة والحراجة وخدم المنازل، وفي عام 1914 موظفون مدنيون، واستمر التطور، حتى أصبح يغطي التأمين الصحي العام 86% من السكان.

مع استمرار الحكومة الألمانية في الاهتمام بنظام الرعاية الصحية العريق، وصل حجم الإنفاق على الرعاية الصحية في عام 2018 فقط نحو 387 مليار يورو، بنسبة 11.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وربما يفسر لنا الإنفاق الضخم على نظام الرعاية الصحية، واتساع مظلته، النتائج المبشرة التي وصل إليها الألمان حتى الآن في التصدي لجائحة كوفيد-19.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.