عام 2015 اكتشفت وكالة حماية البيئة الأمريكية أمرًا غير منطقي في سيارات فولكس فاجن الألمانية. من المفترض أن السيارات الحديثة مزودة ببرمجيات تحدد مقدار الانبعاثات الضارة من المحرك، وحين تتجاوز تلك الانبعاثات قدرًا معينًا توجه البرمجيات المُحرك للعمل بصورة أخرى كي تقل الانبعاثات. وأحيانًا تُسحب السيارة لتعديل محرك الديزل بها. لكن تفاجأ المجتمع الألماني والعالمي، أن 11 مليون سيارة أنتجتها فولكس فاجن، كانت مصممة لتفعيل تلك البرمجيات أثناء الفحص الرسمي فقط، فتصدر انبعاثات أقل أثناء وجود السيارة في ظروف الفحص والكشف. لكن في ظروف الحقيقية كانت الانبعاثات أعلى بكثر.

بعد تلك الفضيحة اضطرت الشركة لدفع تعويضات للحكومة الأمريكية وللمستخدمين بقيمة 30 مليار يورو، كما حُكم على اثنين من قياداتها في الولايات المتحدة بالسجن. وفي نهاية عام 2021 خضع قرابة 90 مشتبهًا من الشركة للمحاكمة داخل ألمانيا، من بينهم الرئيس التنفيذي للشركة، و4 من المديرين السابقين لها. التصقت تلك الفضيحة بالماركة الألمانية الشهيرة، وصارت عارًا على سمعة الماكينات الألمانية. لكن لكلمة الماكينات الألمانية دلالة أخرى، فبينما تشير الكلمة إلى الصناعة الألمانية، فإنه تشير إلى كيان بشري آخر، لكن يبدو أن الاختلاف في الدلالة فحسب، أما التلاعب فقاسم مشترك.

الماكينات الألمانية هو الاسم الذي يُشار به للمنتخب الألماني، دلالة على قوة لاعبيه ونظامهم الدقيق في اللعب، وكذلك تاريخ المنتخب القوي في كرة القدم. لكن في خارج المستطيل الأخضر تاريخٌ حافل للمنتخب الألماني كذلك، لكنه لا يُعتبر التاريخ الأفضل وسط باقي منتخبات العالم. فدائمًا ما أثار الألمان الجدل في كأس العالم، ووصل الأمر إلى حدّ الفضائح أحيانًا كثيرة، بعضها التصق بالماكينات البشرية مثلما التصق بماكينات فولكس فاجن.

7 ملايين يورو من أجل كأس العالم 2006

أبرز تلك الفضائح كان الدفع لشراء حق تنظيم كأس العالم. في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2015 استيقظ الألمان على رائحة الرشوة. فقد كشفت وثائق مسربة حصلت عليها الصحف الألمانية أن ألمانيا دفعت قرابة 7 ملايين يورو لشراء أصوات أربعة ممثلين للقارة الآسيوية. الفضيحة طالت أسطورة الكرة الألمانية، ومدرب المنتخب السابق، فرانتس بكنباور، إضافة للرئيس الاتحاد الألماني لكرة القدم آنذاك. الرقم دفعته شركة أديداس بإيعاز من الرجلين السابقين للحصول على الأصوات الأربعة في عملية التصويت الأخيرة والحاسمة لتقرير من يُنظم كأس العالم.

بكنباور، المعروف وسط مشجعيه بالقيصر، عرف هو ورئيس الاتحاد بشأن الصندوق قبل عام كامل من تنظيم البطولة في ألمانيا. تتوقع الصحف أنهم كانوا على علم سابق بالأمر، لكن الوثائق تثبت على الأقل معرفتهم بالأمر عام 2005. الرجلان رفضا في بادئ الأمر الاعتراف بتلك الرشوة أو بوجود صندوق سري غير شرعي اختفت فيه 7 ملايين يورو.

استضافة كأس العالم ليس حدثًا عابرًا في تاريخ الدول عمومًا، وفي تاريخ ألمانيا خصوصًا. فقد أصبح كأس العالم عام 2006 أضخم وأعظم الأحداث التي عرفتها ألمانيا منذ سقوط جدار برلين. وكان فرصة ألمانيا لتقديم نفسها للعالم كدولة قادرة على استضافة ملايين المشجعين.  لهذا كانت صدمة الشعب الألماني، التي نقلتها الصحافة الألمانية، ضخمة. لأن شراء التنظيم سيصبح عارًا يطارد الكرة الألمانية للأبد.

هو ماحدث حين ثبتت الفضيحة، واعترف رئيس الاتحاد الألماني وقت تقديم الرشوة بأن الدفع لشراء الأصوات قد تم. وبدأت تصريحات القيصر وغيره في التراجع. في البداية اعترفوا أن الدفع قد تم بالفعل، لكنه لدعم البرنامج الثقافي للفيفا، دون أن يكون لتلك الأموال أي علاقة بالإسناد المباشر لكأس العالم لألمانيا.

لكن غياب ممثل نيوزيلندا عن التصويت أكد أن الدفع تم لشراء الأصوات. تشارلز ديمبسي، ممثل نيوزيلندا غادر عملية التصويت وآثر العودة لبلاده، معلنًا أنه شعر أن شيئًا مريبًا يحدث. لكن للأسف تُوفي الرجل عام 2008 قبل أن تنكشف تلك الوثائق. كذلك أوقفت لجنة الأخلاقيات في الفيفا لاحقًا الكوري الجنوبي تشونج مون لمدة ستة أعوام. كان تشونج من ضمن الأصوات الأربعة التي قالت الصحف إنها تلقت رشوة للتصويت لألمانيا. وهو ما يدعم رواية أنه شخص يمكن رشوته بسهولة.

المؤامرة ضد الجزائر 1982

ربما تتربع فضيحة الدفع لشراء تنظيم كأس العالم على رأس قائمة أي فضائح لأي دولة في الجانب الرياضي. وهي كذلك بالنسبة لألمانيا، لكن لا ينفي ذلك وجود قائمة من الفضائح. الفضيحة الثانية في القائمة هي ما فعله المنتخب الألماني مع نظيره النمساوي في مونديال عام 1982، المقام في إسبانيا، الذي تُوجت به إيطاليا في النهاية.

 في تلك المباراة انتهت المبارة بهدف دون رد. للمصادفة فإن تلك النتيجة الوحيدة التي كانت تضمن مرور المنتخبين للدور الثاني. وتم إقصاء منتخب الجزائر من الدور الأول رغم أنه فاز على الألمان بهدفين لهدف. مصادفة حدوثها وارد نظريًا، لكن متابعة المباراة في ملعب خيخون يخبرك عكس ذلك. فقد كان الأمر متعمدًا ومرتبًا مسبقًا بين ألمانيا والنمسا. فقد أحرزت ألمانيا هدفها الأول في أول 10 دقائق في المباراة. لكنهم ظلوا بقية المباراة يتبادلون الكرة بصورة سلبية.

الجماهير الإسبانية التي كانت تشاهد المباراة ظلت تهتف طوال 80 دقيقة قائلًا إلى الخارج إلى الخارج، توبخ الفريقين. كما قام مشجع ألماني غاضب حرق علم بلاده، ألمانيا الغربية آنذاك، بسبب الأداء المفضوح لمنتخب بلاده. كان محاربو الصحراء بحاجة لفوز ألمانيا على النمسا بفارق أكثر من هدف للتأهل.

 وحين بدا من طريقة الأداء أثناء المباراة أن الأمر مُرتب مسبقًا قدمت الجزائر اعتراضًا رسميًا لدى الفيفا. لكن رفض الفيفا هذا الاعتراض وأقرّ نتيجة المباراة. لكن لاحقًا بدر من الفيفا ما بدا اعترافًا ضمنيًا بتلك المؤامرة فغيّر قواعده وأصدر قرارًا بأن تُلعب المباراتان الأخيرتان في كل مجموعة في كأس العالم في التوقيت نفسه تجنبًا لهذه المؤامرات مرة أخرى. بعد بضع سنوات جاء الاعتراف الرسمي من بريجل، مدافع منتخب ألمانيا في تلك المباراة، أن بلاده تواطأت مع النمسا.

خطوة للخلف نكتشف أن حصول إسبانيا من الأصل على حق استضافة تلك النسخة من كأس العالم كان باتفاق مسبق مع الألمان. فتدعم إسبانيا الألمان بالحصول على حق تنظيم مونديال 1974، وتدعم ألمانيا ملف إسبانيا في بطولة عام 1982. وتعتبر تلك البطولة هي النسخة الوحيدة التي استضافتها إسبانيا في تاريخها حتى الآن. لكن منحت ألمانيا تلك النسخة علامة مميزة لن ينساها بها العالم، ففي التصنيفات العالمية تحتل مؤامرة ألمانيا والنمسا ضد الجزائر مرتبة متقدمة في فضائح كأس العالم.

الاعتراض على جنوب أفريقيا

الفضيحة السابقة أعادها البرتغالي كارلوس كيروش، مدرب إيران في نسخة قطر 2022، للواجهة أثناء ردّه على يورجن كلينسمان. الهداف الألماني السابق انتقد إيران وسلوك لاعبيها في مباراتهم مع ويلز، المنتهية بفوز إيران بهدفين. كلينسمان قال إن الجهاز الفني لإيران تعمد إرباك الحكام، وإنهاك خصمه في الملعب وجعل فريق ويلز يفقد تركيزه. المهم في تصريحات الرجل أنه أردف في تغريدة خاصة أن ما فعله المنتخب الإيراني ليس غريبًا بل هو جزء من ثقافة الإيرانيين ككل، وأنهم يجعلون العالم يفقد تركيزه.

كيروش رد بعبارات متعددة ما يهمنا منها هو قوله إن الحُكم الذي أصدره الألماني ينم عن نظرة نمطية متحاملة، وتنظر بفوقية للجميع. وأن الألماني لا يعرف كيروش ولا ثقافة إيران، مع ذلك أصدر حكمًا عامًا على الدولة بكاملها. ربما تلك النظرة الفوقية ليست خاصة بكلينسمان وحده. فمثلًا خلال مباراة ألمانيا وإسبانيا في قطر 2022 سخر المعلق الألماني، ولاعب كرة القدم السابق، ساندور فاجنر من الثوب التلقيدي القطري، ووصفه برداء الحمام.

اضطر فاجنر للاعتذار بعد الانتقادات الواسعة التي طالته بعد التعليق. واعتذرت قناته كذلك، لكنها لم تتخذ إجراءً ضده. وقالت إن تصريحاته أتت خلال مرحلة عاطفية من المباراة، كان الرجل فيها متأثرًا. كان فاجنر متأثرًا بالفعل، لكنه متأثر بالصورة المتراكمة داخل العقل الألماني أن كل ما خارج ألمانيا، وأوروبا على أقصى تقدير، هو مكان عشوائي لا يرتقي لشرف وجود الألمان فيه.

وهو ما نلحظه في تصريحات عام 2010 لمدرب المنتخب الألماني يواخيم لوف. الرجل صرح قبل انطلاق البطولة بأنه قلق بشأن مكان إقامة منتخب بلاده. وقال إن المكان المقرر للفريق لا يناسب توقعاته، ولا يساعد الفريق على تحقيق أداء جيد في البطولة. وبناء على تلك التصريحات قامت جنوب أفريقيا بتنظيم مكان آخر لتدريب المنتخب الألماني يبعد 7 دقائق عن الفندق الذي يقيمون فيه.

أكبر فضيحة فساد داخلي

العنصرية في الكرة الألمانية أمر منتشر ومعتاد. مثلًا تصريح سون هيونج، لاعب المنتخب الكوري الجنوبي، الذي لعب في الدوري الألماني لمدة 7 سنوات، أن دائمًا ما تعرض للعنصرية أثناء وجوده في ألمانيا، لهذا احتفل بتسببه في إخراج ألمانيا من دور المجموعات في روسيا 2018.

 ويستهدف كذلك الجماهير الألمان اللاعبين سود البشرة أثناء المباريات بإلقاء أشياء عليهم أثناء اللعب.  الأمر الذي جعل ألمانيا تحقق سابقة في التاريخ بإيقاف الحكم للمباراة، ثم إلغائها، بعد تعرض أحد اللاعبين للعنصرية والهجوم من الجماهير في مباراة دويسبرج ضد أوسنابروك في 19 ديسمبر/ كانون الثاني 2021. ومن المشهور ما حدث مع اللاعب الألماني مسعود أوزيل، الذي اضطر للاعتزال دوليًا، بعد انتقادات عنيفة وُجهت له، ولخصّها هو قائلًا إنه ألماني حين الفوز، وتركي مهاجر حين الهزيمة.

كذلك من الفضائح البارزة في الدوري الألماني ما حدث عام 2005 حين ثبت تورط الحكم الألماني روبرت هويستر في حصوله على رشوة مقابل احتساب ركلتي جزاء وطرد لاعب لمصلحة فريق على آخر. وانتهت المباراة بفوز بادبورن على هامبورج بأربعة أهداف لهدفين. وبعد أن تأكدت المحكمة من وجود تلاعب في النتيجة حُكم على روبرت بالمنع من التحكيم مدى الحياة.

تلك الفضيحة من أبرز ما يتذكره الألمان لأنها جاءت قبل شهور قليلة من تنظيم كأس العالم. ما جعل العديد متحفزًا ضد التحكيم الألماني. لهذا بادرت ألمانيا لتعويض هامبورج بمبلغ مالي ضخم، ووعدته باستضافة إحدى مبارايات كأس العالم. لكن التحقيقات التي فُتحت على عجل لم تنته إلا وقد كشفت عن قيام نفس الحكم بالتلاعب في نتائج 13 مباراة في 2004 وحدها. وأدين معه 20 شخصًا، و14 لاعبًا رسميًا، و3 حكام. فكشفت تلك المباراة العابرة عن أكبر فضيحة داخلية للكرة الألمانية.

روسيا في عيون الألمان

أما في مونديال روسيا 2018 فلم يتحدث الألمان عن القمع أو حقوق الإنسان أو الظروف المناخية إلا بعد الخروج من دور المجموعات. فقبل استضافة روسيا للمونديال بخمس سنوات كانت قد أقرت قانونًا يُجرم للممارسات الجنسية غير التقليدية. ورافق المونديال أخبار عن اعتداءات على المثليين. بل أعلنت روسيا تعقبّها للمثليين الذين سيظهرون في كأس العالم فآثر عديد منهم عدم حضور البطولة. وتعرض مواطن فرنسي ورفيقه للضرب في سان بطرسبرغ الروسية اعتراضًا على إبرازهم لميولهم الجنسية.

لكن كل ذلك لم يدفع أي منتخب للاعتراض أو التضامن. على النقيض، صرّح الألمان في البداية بأن صورة روسيا التي شهدوها صورة حضارية تغيّر كثيرًا من نظرتهم عن المجتمع الروسي والوضع السياسي هناك. لكن بعد الخروج قالوا إن صورة روسيا ليست حقيقية، فسوف يعود الروس للقمع بعد مغادرة كاميرات الإعلاميين. بينما كانت تصريحاتهم الرسمية قبل البطولة تؤكد أن المقاطعة السياسية أو الرياضية لروسيا لن تغير شيئًا، وأن المشاركة الرياضية من شأنها تعزيز أواصر السلام والمحبة.

كما صرّحوا بأن المونديال فرصة لبوتين لتلميع صورته بعد حرب روسيا في سوريا، ثم ضمه لشبه جزيرة القرم. اللافت أن الحدثين كانا قائمين بالفعل قبل وأثناء البطولة. لكن لم يعترض المنتخب الألماني، ولا القيادة السياسة، على المشاركة. كما لم تقم ألمانيا بأي إشارات تحمل دلالات اعتراضية ضد النظام الروسي، أو تضامنية مع ضحاياه داخليًا وخارجيًا. بل تزامن مونديال روسيا مع فضيحة تسميم روسيا لسيرجي سكيربال، جاسوس سابق، وابنته يوليا، 33 عامًا، بغاز الأعصاب في بريطانيا. لكن أعاد رئيس الاتحاد الألماني مشاركة بلاده في البطولة حتى لو ثبت ضلوع روسيا في الأمر.

كما انتقدوا إنفاق روسيا الضخم على تنظيم الحدث. وهو أيضًا كان معلومًا قبل المشاركة. وللمفارقة فلم يستخدم الألمان هذه الجزئية في انتقاد مونديال قطر عام 2022. واختاروا الحديث عن المثلية الجنسية، دون أيضًا التطرق للحديث عن حقوق العمال والاتهامات الموجهة لقطر حول ظروف العمالة التي أنشأت تلك الاستادات. رغم أن تلك الاتهامات كان ربما تلقى صدى واسعًا وتعاطفًا عالميًا وتسبب إحراجًا أكبر لقطر، بدلًا من الاعتراض على شيء تُجرمه، مثل المثلية الجنسية، وتوجد عديد من دول العالم تجرمه حتى الآن.

لكن ربما تكشف لنا تلك الانتقائية في الانتقاد عن جانب آخر، صرّح به كيروش أعلاه، هو النظرة الفوقية التي ينظر بها الألماني الأبيض للشرقي المتخلف. وأن مشكلة الألماني ليست مع الانتهاكات في ذاتها، بل هي ليست إلا حصان طروادة يدخل به الألماني للمجتمع محل النقد كي يُعلمه الحضارة ويفرض رؤيته للعالم على هذا المُنتقد. لكن حتى لو كان كذلك، فمنتخب ألمانيا والاتحاد الألماني لكرة القدم ليس من أبرز من المؤهلين لتقديم محاضرات أخلاقية للدول الأخرى.