لطالما ارتبط اسم «غانا» في أذهاننا بكرة القدم، التي دومًا ما اشتهرت غانا بالتفوق فيها، وحصول منتخباتها الوطنية على البطولات الأفريقية والعالمية، لكن ما قد لا يعلمه كثيرون أن البلد الصغير الواقع على الساحل الغربي لأفريقيا،بات رائدًا للديمقراطية في القارة السمراء، بعد أن أدى زعيم المعارضة «نانا اكوفو أدو» اليمين الدستورية كرئيس جديد للبلاد مطلع الشهر الجاري، يناير/كانون الثاني، ليكون الرئيس الخامس للجمهورية مذ بدأت عملية التحول الديمقراطي، قبل ربع قرن من الزمن، في ديسمبر/كانون الأول 1992. شهدت هذه السنوات 7 انتخابات رئاسية، انتقلت فيها السلطة بلا اقتتال أو عنف بين خمسة رؤساء، وتبادل فيها الحزبان الكبيران في البلاد «الحزب الوطني الجديد» و«المؤتمر الوطني الديمقراطي» مقاليد السلطة ثلاث مرات.


غانا: ماذا تعرف عن البلد الصغير؟

الخريطة الأفريقية، الجزء المظلل بالأحمر يمثل دولة غانا

تقع غانا على الساحل الشمالي لخليج غينيا، في غرب أفريقيا، تحدها بوركينا فاسو من الشمال، وتوجو من الشرق، وساحل العاج من الغرب، لغتها الرسمية هي الإنجليزية، وعملتها هي «السيدي». كان اسمها السابق ساحل الذهب، جاء اسمها الحالي على غرار اسم الدولة التاريخية المعروفة بإمبراطورية غانا، بالرغم من عدم وقوعها ضمن حدود تلك الدولة. ويبلغ عدد سكان غانا 25 مليون نسمة، يسكنون مساحة تقترب من 238 كم2، وتدين الغالبية من السكان بالمسيحية، بينما يدين 20% منهم بالإسلام.


ما قبل التحول الديمقراطي

http://gty.im/521335207

خضع ساحل الذهب –الاسم القديم لغانا– للاستعمار البريطاني منذ العام 1896، نالت استقلاها في العام 1957 بعد استعمار دام لأكثر من 60 عامًا، لتكون بذلك المستعمرات التي نالت استقلالها في غرب أفريقيا. وكان استقلال غانا تتويجًا لمسيرة النضال التي قادها الزعيم الراحل كوامي نكروما مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتشار موجة التحرر الوطني بين الشعوب المحتلة في آسيا وأفريقيا بعد أفول شمس الإمبراطورية البريطانية.

نكروما الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة الأمريكية، عاد إلى بلاده في العام 1947، ليبدأ مسيرة الكفاح الوطني ضد الاستعمار البريطاني، فقام بتأسيس حزب المؤتمر الشعبي لتحقيق الحكم الذاتي للبلاد، فتم اعتقاله أوائل عام 1950، لكن حزبه فاز بالانتخابات البلدية والعامة التي أجريت في العام التالي، وفاز وهو في السجن بدائرة «أكرا» بأكثرية كاسحة، فأطلق سراحه وتولى رئاسة الوزراء في مارس/آذار 1952، ليبدأ مشوارًا طويلًا من النضال السياسي ضد الحكومة البريطانية، فتُوجت مساعيه بالنجاح عام 1957، ثم ترشح نكروما بعد عمل دستور جديد للبلاد لمنصب رئيس الجمهورية لينجح في ذلك، ويكون أول رئيس لجمهورية غانا.

ولكن سرعان ما انقلب نكروما على المبادئ التي أتى بها، فتحول حكمه إلى حكم ديكتاتوري قمعي، وقام بتعزيز سلطاته الشخصية لقمع تحركات المعارضة التي تكونت من زعماء القبائل وكبار التجار الذين فقدوا الكثير من امتيازاتهم بسبب سياسته الاشتراكية، وفي العام 1964 مرر تعديلًا دستوريًا يسمح بانتخابه رئيسًا مدى الحياة، ويجعل من حزبه الحزب الوحيد في غانا بنسبة موافقة 99.9%.

هيأت سياسات نكروما القمعية والديكتاتورية الفرصة لإنهاء تجربته في الحكم عبر انقلاب عسكري في مارس/آذار 1966 بقيادة الجنرال «جوزيف أنكرا»، الذي استغل قيام نكروما بزيارة إلى فيتنام، وقام بالإطاحة بالحكومة واعتقال قادة حزب المؤتمر الشعبي، وكان هذا الانقلاب موضع ترحيب من قوى المعارضة ومن القوى الغربية؛ ما ساعده على تثبيت أركانه، لتدخل غانا في فترة قاتمة من تاريخها السياسي، في الفترة ما بين عام 1966 وعام 1982.

شهدت تلك السنوات العديد من الانقلابات العسكرية وتبادل السلطة بين عسكريين ومدنيين، حتى جاء عام 1982 لتنتهي فترة عدم الاستقرار السياسي على يد الملازم «جوى جيرى رولينجز»، الذي قام بانقلاب عسكري، استطاع من بعده الإمساك بزمام السلطة والسيطرة عليها لمدة 10 سنوات كاملة، قبل أن يخلع بزته العسكرية عام 1992، ويؤسس دستورًا جديدًا للبلاد، سامحًا بالحرية السياسية وتعدد الأحزاب، وواضعًا غانا على أولى خطوات الطريق نحو التحول الديمقراطي.


من هو جيري رولينجز؟

http://gty.im/179172567

رولينجز؛ ضابط بالقوات الجوية الغانية، ولد في عام 1947، لأب إنجليزي وأم غانية، تخرج من الكلية العسكرية في 1969، وعمل ملازمًا جويًا في القوات المسلحة الغانية. تأثر رولينجز بالأوضاع السياسية المتدهورة حينها، فقام مع ستة من زملائه بمحاولة انقلاب عسكري في مايو/آيار 1979 ضد الجنرال فريد أكوفو، لكنه فشل، وتم اعتقاله والحكم عليه بالإعدام في جلسة محاكمة علنية، تحدث فيها رولينجز عن الظلم والفساد وتدهور الأحوال المعيشية، وكان لهذا الحديث مفعول السحر في إنقاذه من الإعدام، فتحرك جنود متأثرون برولينجز للإطاحة بأكوفو وإخراج رولينجز من السجن. خرج رولينجز من السجن ليشكل المجلس العسكري لقيادة الثورة، وقاد حملات للقبض على الفاسدين والمرتشين وإعادة تلك الأموال لخزائن الحكومة، ثم نظّم هذا المجلس انتخابات حرة في العام 1980، فاز فيها المدني «هيلا ليمان».

لم يمر إلا عام واحد حتى انقلب رولينجز على الرئيس المنتخب وأزاحه في 31 ديسمبر/كانون الأول 1981، بحجة تدهور الأوضاع المعيشية في البلاد، حيث كانت الأوضاع في 1981 فعلًا مأساوية، إذ ارتفعت الأسعار بشدة، وتدهورت الأحوال المعيشية بدرجة كبيرة، فلاقى انقلاب رولينجز ترحيبًا كبيرًا من الشعب ومن المجتمع الدولي.

استطاع رولينجز تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية في غانا، والسيطرة على مقاليد السلطة في غانا عبر تشكيله لما سمي حينها، مجلس الدفاع الوطني المؤقت (PNDC)، المكون من عسكريين ومدنيين، وهو المجلس الذي يتحكم في البلاد من خلاله، ثم شكل رولينجز المفوضية الوطنية للديمقراطية (NCD)، وكانت نظرته للديمقراطية هي وجود مجلس تمثيلي للمحليات، كصورة من صور الديمقراطية الشعبية، التي تؤسس بعد ذلك لعملية الإصلاح السياسي والتعددية الحزبية.


الطريق إلى الديمقراطية

في نهاية الثمانينيات، وبعد إجراء انتخابات المجالس المحلية، بدأت المفوضية الوطنية للديمقراطية في إجراء جلسات استماع في أنحاء غانا، تحدث فيها المواطنون عن رغبتهم في عودة الحياة السياسية الحزبية وتأسيس مجلس تشريعي، وكان ذلك في الوقت الذي شهد انخفاضًا لمعدلات النمو الاقتصادي وبدء مفاوضات رولينجز مع صندوق النقد الدولي، لتنفيذ برنامج إصلاح سياسي واقتصادي.

دفعت ضغوط المفوضية الوطنية للديمقراطية وضغوط الولايات المتحدة وصندوق النقد إلى قبول رولينجز بتنفيذ عملية الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، خاصة بعد طمأنة الحكومة رولينجز علي شعبيته، وضمانه لمنصب الرئاسة في حال عقد انتخابات حرة، وبدأت أولى خطوات عملية الإصلاح في 1992 بعقد استفتاء شعبي على توصيات المفوضية الوطنية للديمقراطية، وتضمنت التوصيات أيضًا جدولا زمنيا للانتخابات الرئاسية والتشريعية، تمت الموافقة على التوصيات بنسبة 92%.

خلع رولينجز بدلته العسكرية ثم قام بتأسيس حزب المؤتمر الوطني الديمقراطي (NDC)، وقام ألبرت بواهن بتأسيس الحزب الوطني الجديد (NPP)، وقام هيلا ليمان بتأسيس حزب مؤتمر الشعب الوطني (PNC) ، ثم تنافس زعماء الأحزاب الثلاثة على أول انتخابات رئاسية بعد إقرار التوصيات في ديسمبر/ كانون الأول 1992 وفاز رولينجز بنسبة 58%، وهو ما اعترضت عليه أحزاب المعارضة التي شككت في نزاهة تلك النتائج، لكن المراقبين الغربيين والمحليين أقروا بصحة الانتخابات وفوز رولينجز، ثم أقيمت الانتخابات البرلمانية بعد ذلك بشهر وسط مقاطعة أحزاب المعارضة ففاز حزب رولينجز ب 189 من أصل 200 مقعد.

في عام 1996 أجريت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية للمرة الثانية وسط تأكيدات وتعهدات من رولينجز باحترامه للدستور ومغادرته للسلطة بعد 4 سنوات في حال فوزه، فشاركت أحزاب المعارضة في تلك الانتخابات ونافس جون كوفور ممثل الحزب الوطني الجديد رولينجز في انتخابات الرئاسة التي فاز بها رولينجز في النهاية بنسبة 57% وفاز حزبه بالانتخابات البرلمانية وحصل على 133 مقعدا مقابل 60 مقعدا للحزب الوطني الجديد.


غانا: نجمة الديمقراطية في أفريقيا

1084px-Ghana_in_Africa_(-mini_map_-rivers).svg
1084px-Ghana_in_Africa_(-mini_map_-rivers).svg

كانت بداية الألفية الثالثة هي الموعد الذي توجت فيه مسيرة النضال من أجل الديمقراطية بعد عقود من التدهور السياسي وسيطرة العسكريين على الحكم، حيث قام رولينجز بالوفاء بعهوده وغادر السلطة في الموعد المقرر واتجه ليعمل مفوضًا سياسيًا بالاتحاد الأفريقي.

أقيمت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الثالثة، حيث ترشح «جون أتا ميلز»، نائب رولينجز في منصب الرئاسة، لمنصب الرئيس ونافسه على المنصب المرشح الخاسر في انتخابات 1996 عن الحزب الوطني الجديد جون كوفور، استطاع كوفور الفوز بالانتخابات من الجولة الثانية بنسبة 57%، وفاز الحزب الوطني الجديد ب 99 مقعدًا في البرلمان مقابل 93 مقعدًا لحزب المؤتمر الوطني الديمقراطي، لتشهد غانا أول عملية انتقال سلمي للسلطة في تاريخها عبر انتخابات حرة ونزيهة.

في 2004، وللمرة الثانية يتنافس جون كوفور وجون ميلز على منصب الرئاسة، ويستطيع كوفور الفوز مرة أخرى وإعادة انتخابه رئيسًا للبلاد، ولكن هذه المرة بنسبة 52% فقط، ويفوز حزب كوفور ب 128 مقعدًا في البرلمان مقابل 94 مقعدًا لحزب المؤتمر الوطني الديمقراطي وذلك بعد زيادة عدد مقاعد البرلمان لـ230 مقعدًا.

في عام 2008 تقام الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الخامسة منذ تأسيس الجمهورية الرابعة، وتشهد تلك الانتخابات انتقال السلطة للمرة الثانية بعد عام 2000 بين الحزبين الكبيرين في غانا، واستطاع جون ميلز أخيرًا الفوز بمنصب الرئيس بعد منافسة شرسة مع ممثل الحزب الوطني الجديد نانا اكوفو أدو، إذ حصد ميلز 4,521,032 صوتًا بنسبة 50.2 % مقابل 4,480,446 بنسبة 49.8 %، وهو الحال الذي كانت عليه أيضًا الانتخابات البرلمانية، حيث عاد حزب المؤتمر الوطني الديمقراطي لتصدر الأغلبية البرلمانية بـ 114 مقعدًا مقابل 107 مقعدًا برلمانيًا للحزب الوطني الجديد.

في يونيو/حزيران 2012، توفي جون ميلز ويحل نائبه جون درماني ماهاما في منصبه حتى موعد عقد الانتخابات في نهاية العام، واستطاع ماهاما الفوز بها بنسبة 50.7 متفوقًا على نانا اكوفو أدو الذي حصد 47.5 من الأصوات ليخسر الانتخابات للمرة الثانية بفارق ضئيل للغاية ويتفوق أيضًا حزب المؤتمر الوطني الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية.

في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أقيمت الانتخابات للمرة السابعة منذ 1992، وسط مشاركة شعبية كبيرة تقترب من الـ70%، ويستطيع المحامي نانا اكوفو أدو الفوز بالانتخابات أخيرًا بنسبة 54%، بعد حملة انتخابية ناجحة بدأها قبل سنتين من عقد الانتخابات، مقابل 44% حصل عليها ماهاما ليفشل في الحصول على ولاية ثانية، وبـ171 مقعدًا حصل عليها الحزب الوطني الجديد مقابل 104 مقعد حصل عليها الحزب الوطني الديمقراطي، تكون السلطة قد انتقلت للمرة الثالثة بين الحزبين دون اقتتال أو عنف، لتتوج غانا بذلك مسيرتها الطويلة والناجحة نحو الإصلاح السياسي.

لقد باتت عملية التحول الديمقراطي في غانا رائدة لجيرانها من دول أفريقيا، التي لا تزال تحت الحكم السلطوي القمعي، وتلك الدول التي ما زالت تتحسس أولى خطواتها نحو الديمقراطية، وذلك عبر تشجيع التعددية الحزبية وتعزيز الانتخابات التنافسية والانتقال السلس للسلطة ونمو المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وهو الأمر الذى هيأ الفرصة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في غانا، حيث انتشرت برامج الرعاية الصحية الأولية وبرامج التأمين الصحي، وبات التعليم إلزاميًا في غانا، وبات اقتصاد غانا واحدًا من الاقتصاديات القوية والمستقرة في أفريقيا.

المراجع
  1. Ghana's Durable Democracy /foreign affairs
  2. Ghana: Keeping one of Africa's stars of democracy shining / CNN
  3. انتخابات غانا 2016 . حملات المرشحين والنتائج الرسمية / قراءات أفريقية