في ظلال رواية «ما تبقى لكم»

«ما تبقى لكم» هي المحاولة الروائية الثانية للكاتب الفلسطيني «غسان كنفاني». الرواية ليست من فصيلة الروايات الكبيرة، بل هي بالأحرى تنتمي لفئة القصص الطويلة «Novella»، فعدد صفحاتها لا يصل للمئة صفحة. أحداث الرواية سريعة متداخلة، لا فواصل بين حوار وآخر، قد تجد جملة على لسان أحد أبطال الرواية ومباشرة تجد الجملة التي تليها على لسان بطل آخر. رتم الرواية بطيء للغاية ولا يوجد الكثير من الأحداث.

الحدث المحوري في الرواية هو قصة حمل «مريم» بدون زواج، وتبدأ الرواية بيوم الزواج المشؤوم من «زكريا» «النتن» كما كان يسميه «حامد» أخو «مريم». شخصية حامد من أكثر الشخصيات تعقيدًا؛ فتارة يبدو شجاعًا وتارة أخرى يبدو ضعيفًا. لا توجد تفاصيل كثيرة عن حياة حامد ومريم قبل حادثة الزواج، هما أخ وأخت يعيشان معًا كلٌ في عالمه بعد غياب أمهما غيابًا لم تفصح الرواية عن أسبابه. طيف هذه الأم الغائبة ظل يراود حامد طوال الوقت وجملته الحاضرة لأخته دومًا إثر كل أزمة تقابلهما: «آه لو كانت أمك هنا». حياتهما بها من المعاناة ما يجسد حياة كل فلسطيني يعيش في قطاع غزة، ولكن الرواية لم تتطرق كثيرًا لهذا الجانب سوى فيما يخص عمليات الاحتجاز التي تشنها القوات الإسرائيلية على الفلسطينيين.

زكريا طرف أساسي في الصراع داخل الرواية لكنه طرف خفي لا يتم ذكره إلا في موضعين: أول موضع يجمعه بحامد في أحد المعتقلات، وهو ذاك الموضع الذي أطلق عليه حامد فيه لقب «النتن»؛ لأنه أفصح دون بقية زملائه عن سالم والذي كانت القوات الإسرائيلية تبحث عنه وسط الصفوف، وبينما هم كذلك تقدم زكريا راكعًا على قدميه، وقبل أن يعلن عن مكان سالم خرج سالم من بين الصفوف مرفوع الرأس وكأنما يقول: «بيدي لا بيد عمرو». الموضع الثاني الذي ذكرت فيه شخصية زكريا هو موضع حمل مريم بالتأكيد، والذي يتكرر سرد تفاصيل منه ومن تبعاته ومقدماته على طول الرواية، ورغم ذلك تبقى شخصية زكريا شخصية ثانوية حتى وإن كانت صاحبة الحدث الأبرز في الرواية.

الحدث الثاني في الرواية هو فرار حامد إلى الصحراء التي تربط بين فلسطين والأردن لاهثًا في ثرى المجهول، وباحثًا عن الأم الضائعة، وفرارًا من العار الذي صار يلاحقه كظله.


ما تبقى لهم

على طول الرواية وعلى لسان معظم أبطالها تتكرر عبارة «ما تبقى لي»، ويسرد بعدها كل بطل من الأبطال ما يلخص معاناته ويمثل آخر آماله. من خلال هذه العبارة جسّد غسان كنفاني معاناة كل أبطاله؛ فوردت هذه العبارة أول مرة على لسان حامد مخاطبًا الصحراء:

استدار ومرر شفتيه فوق التراب الدافئ: ليس بمقدوري أن أكرهك، ولكن هل سأحبك؟ أنتِ تبتلعين عشرة رجال من أمثالي في ليلة واحدة، إنني أختار حبك، إنني مجبر على اختيار حبك، ليس ثمة من تبقى لي غيرك..

ومرة أخرى ترد تلك العبارة على لسان مريم بعد رحيل حامد، وبعدما لم يبق لها سوى دقات الساعة التي تخنقها، وزكريا.

منذ ذلك اليوم وهي معلقة هناك، تدق خطواتها الباردة كصوت عكاز مفرد بلا توقف. تدق، تدق، تدق. يا زكريا، تدق، والآن ليس لي غيرك وغيرها، وقد تركناه يغادرنا كلنا دون كلمة واحدة، وحين كنت أسمع صوت خطواته تخفق مترددة فوق السلم حسبت أنه سيعود وكنت ممزقة بينه -هو الماضي كلهوبينك أنت – ما تبقي لي من المستقبل
لكنني لم أتحرك وأنت لم تتحرك.

ومرة أخرى تتكرر ذات العبارة على لسان والدة سالم مخاطبة حامد:


ما تبقى لكم

حتى وإن نفد كل شيء يظل هناك شيء يستحق البقاء، ما يبقى بعد رحيل الراحلين، أملهم في العودة وحنينهم للديار. ما يبقى بعد عار الأسر، صراخ متقطع يُنسي الآسرين نصرهم، ومخالب صغيرة تُحدث ولو حتى خدوشًا طفيفة؛ فتصير هذه الخدوش يومًا جراحًا غائرة. ما يبقى من شهداء الحق شواهد قبورهم؛ تُنبئ بأنهم مروا من هنا ذات يوم، أنهم عاشوا وماتوا على هذه الأرض، وهذا أقصى حلم الحالمين أن يجدوا مكانًا لرفاتهم في ثرى أوطانهم.. ما تبقى لكم كثير، بل لم يضع منكم شيء ما دمتم على الحق ظاهرين.


ما تبقى لنا

ذهبت في الليل ولكنني لم أجده، لقد دفنوه خلسة. ألا تعرف أين دفنوه؟ ولدي، كبدي، حشاشتي، ما تبقى لي.

غسان كنفاني هو أحد أبرز المناضلين الفلسطينيين، فإذا ما ذكر النضال وجاءت سيرة شهداء الحق ذُكِر، رغم أنه لم يحمل درعًا، ولم يُشهِر سيفًا، كل ما فعله هو أنه استغل موهبته في التعبير عن قضيته وتوصيل أناته للعالم أجمع. ظل غسان كنفاني يحمل قضيته في مقلتيه يذرفها دموعًا في كل أعماله الأدبية ومقالاته السياسية، وبقي يحلم بالعودة حتى وفاته، واستقرت صورة مخيمات اللجوء في ذاكرته؛ وهكذا كانت كتاباته تعبر عن معاناة كل فلسطيني.

مقتل غسان كنفاني عقابًا له على ما كتب، هو أكبر دليل على أن الكلمة حتى وإن كانت مكتوبة غير منطوقة تفعل الكثير.

كم مرة يئسنا وهجرنا أقلامنا وظننا أن كلماتنا تستقر في قعر ثقب أسود سحيق، وأننا نصرخ في فلاة لا أحد فيها ليجيب. إن عز السيف فلن يبخل القلم بفعل ما ضن به النزال، إن خلت ساحات المعارك فساحات الإبداع رحبة فسيحة تسع كل صاحب رسالة وقضية. أنات أقلامنا لا تذهب سُدى أبدًا، فكم غيرت الكلمة من واقع لا مفر منه، وحتى وإن لم تفعل تظل كلمة الحق تزلزل قلوب الخائفين، فصاحب الباطل دومًا خائف وأقل إشارة ترعبه. وتبقى سهام الأقلام أكثر نفاذًا من سهام القتال، فإن أصاب السهم الهدف فبها ونعم، وإن لم يُصب وارتد في صدر صاحبه كما حدث مع غسان كنفاني؛ فذلك أكبر مجد يهفو وراءه فرسان القلم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.