شبه جزيرة صخرية لا تتخطى مساحتها 7 كيلومترات مربعة، لكنها تتمتع بموقع إستراتيجي مميز وتثير مؤخرًا أزمة دبلوماسية كبيرة بين إنجلترا وإسبانيا. إنها منطقة جبل طارق، التي هي امتداد صخري طبيعي لشبه الجزيرة الإيبييرية، يُطلق عليها في اللغة الإنجليزية (جبرلتار) وهو تحريف لاسمها الأصلي (جبل طارق)، كانت المنطقة مستعمرة بريطانية حتى العام 1981 عندما تهاوت سيطرة الإمبراطورية البريطانية على مستعمراتها، لتعلنها مناطق حكم ذاتي، وكان منها شبه جزيرة جبل طارق.


تاريخ الجزيرة

http://gty.im/476949733

كانت المنطقة مأهولة بالسكان منذ قديم الأزل، ومع قدوم الفتح الإسلامي وفي عهد السلطان عبد المؤمن أحد سلاطين الدولة الموحدية، تم إنشاء المدينة على شكلها الحالي، وجرى تحصينها وما تزال آثار المدينة والسور واضحين في القصر المغاربي الموجود في المدينة. لاحقًا جرى ضم جبل طارق إلى مملكة غرناطة حتى عام 1309م حين قامت القوات الإسبانية بغزو المدينة.فقد الإسبان المدينة ثم استعادوها مرة أخرى ليفقدوها لاحقًا كنتيجة لتوقيع اتفاقية أوترشت. كانت الاتفاقية أحد نتائج الحرب بين إنجلترا وهولندا والنمسا من جهة وبين إسبانيا وفرنسا من جهة ثانية. وحدت الدول الثلاث أساطيلها وتمكنت من إسقاط المدينة، وفشلت لاحقًا جميع المحاولات الإسبانية لاستعادتها ووقعت في عام 1714 معاهدة أوترشت التي تخلت بموجبها إسبانيا عن جبرلتار لصالح إنجلترا بشكل مؤبد ودائم، وأعلنت السيادة البريطانية على شبه الجزيرة.حاولت إسبانيا مرات عديدة استعادة شبه الجزيرة -وخاصة في عهد فرانكو- تارةً بالحرب وتارة بالوسائل الدبلوماسية، ولكنها فشلت في ذلك نتيجة تزايد أهمية الجزيرة بالنسبة للتاج البريطاني، وخاصة بعد حفر قناة السويس، حيث أنشأت بريطانيا ميناء مهماً في شبه الجزيرة لتصبح نقطة وصل بين المستعمرات البريطانية في الهند وأستراليا عبر قناة السويس، وتعد الجزيرة التي تقع على مشارف أفريقيا قاعدة إستراتيجية مجهزة بمنشآت عسكرية واستخباراتية أساسية بالنسبة للبريطانيين.شهدت المدينة عدة استفتاءات لتحديد المصير بين البقاء تحت التاج البريطاني أو الانضمام لإسبانيا، كان أول هذه الاستفتاءات عام 1967 والتي اختار فيها السكان بأغلبية ساحقة البقاء تحت السيادة البريطانية، وكان آخر هذه الاستفتاءات عام 2002 والتي رفض فيها الناخبون اقتراح السيادة المشتركة بين إسبانيا وبريطانيا لتبقى الجزيرة جزءًا من التاج البريطاني وإلى الآن.تتولى بريطانيا تسيير أمور السياسة الخارجية وشئون الدفاع، أما الأمور الداخلية فتسيرها الحكومة التي تنتخب ديمقراطيًا كل أربع سنوات، ويشارك الرياضيون في المدينة باسم بريطانيا في المحافل الدولية.


ما بعد البريكست

يبلغ عدد سكان شبه الجزيرة الصغيرة حوالي 33 ألف نسمة، ويعتمد اقتصادها بشكل رئيسي على صناعة المقامرة الإلكترونية، إضافة إلى قطاع أوفشور مالي يتعامل مع كل أوروبا، وعقب ظهور نتيجة الاستفتاء البريطاني وما تبعه من بدء إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، برزت إلى السطح مرة أخرى قضية السيادة على شبه جزيرة «جبل طارق»، وعادة ما كانت تتسم قضية جبل طارق خاصة في السنوات الأخيرة بالهدوء، حيث لم يكن لها أصداء واسعة في أروقة صانعي القرار الإسباني أو البريطاني كونها تدخل في الإطار الأوروبي سابقًا، لكن الوضع تغير في الوقت الراهن لاسيما بعد تصريحات وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل غارثيا مارجايو، حيث صرح بعد البريكست قائلا: «إن قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي سيغير من هذه المسألة كثيرًا، مؤكدًا أن إسبانيا تسعى لسيادة مشتركة على جبل طارق»، قائلًا: «إنه بموجب نتائج الاستفتاء، اقترب رفع العلم الإسباني على الصخرة»، في إشارة إلى جبل طارق، وأكمل الوزير بأن مدريد ستضغط باتجاه إجراء محادثات ثنائية مع لندن، أملا بسيادة مشتركة، وصولًا لسيطرة كاملة على شبه الجزيرة بنهاية المطاف.تعاملت بريطانيا مع المطالبات الإسبانية بردود فعل شديدة العدوانية، بدأت بالمقالة التي كتبها وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون في صحيفة الصنداي تليغراف قائلًا إن «جبل طارق ليس للبيع، ولا يمكن مقايضته. ولن تتم المساومة عليه». وأكمل بأن سياسة الحكومة تبقى ثابتة وحازمة. سيادة جبل طارق لا يمكن تغييرها بدون موافقة بريطانيا وسكان جبل طارق.وأضاف: «وضعية جبل طارق لم تتغير منذ عام 1713. ولم يحدث أي فرق عندما انضمت بريطانيا إلى السوق المشتركة عام 1973، وإسبانيا وقتها لم تكن عضوًا، وينبغي ألا يحدث الأمر فرقًا اليوم». وأكدت تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية أنها لن تسمح «أبدًا» بأن يخرج جبل طارق عن السيادة البريطانية بدون موافقة سكان تلك المنطقة الواقعة جنوب إسبانيا. وقالت ماي في اتصال هاتفي مع رئيس وزراء جبل طارق فابيان بيكاردو: «لن نبرم أبدًا اتفاقًا ينقل سكان جبل طارق إلى سيادة أخرى بعكس رغباتهم التي يعبرون عنها بحرية وديمقراطية».تكمن المشكلة هنا أن مدريد باستطاعتها استخدام حق الفيتو في التصويت على أي مشروع تجاري بين أوروبا وبريطانيا، والتي تتضمن بالتالي جبل طارق، الأمر الذي يمكنه أن يجعل الحياة في الجزيرة لا تطاق إذا ما منع سكانها حق الولوج إلى إسبانيا أو التعامل التجاري مع الاتحاد الأوروبي، وإلى الآن أعلنت إسبانيا أنها لن تغلق الحدود مع جبل طارق.تفاقمت اللهجة العدوانية من ناحية الساسة البريطانيين، حيث صرح مايكل هاورد بأن على تيريزا ماي أن تستعد لخوض الحرب للدفاع عن شبه جزيرة جبل طارق كما فعلت مارجرت تاتشر في أزمة جزيرة الفوكلاند مع الأرجنتين.الجدير بالذكر هنا كذلك أن سكان الجزيرة صوتوا بنسبة 98% من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي، وكانت لهذه النسبة دورها في تشجيع الحكومة الإسبانية على المطالبة بالإقليم، خاصة أن عدد العاملين الإسبان في المدينة يصل إلى عشرة آلاف عامل وفق السلطات الإسبانية، فهل تنجح إسبانيا في فرض سيطرتها على الإقليم هذه المرة؟