في ربيع عام 1957، وبين أحضان مدينة فاريزي الواقعة في إقليم لومبارديا شمال إيطاليا، تلك المدينة التي تعد الملجأ الرئيسي لفناني ورسامي العالم، لما تتميز به من طبيعة خلابة، حيث تحيط بها الجبال من جهة والبحيرات والأنهار من جهة أخرى، وبين شِقَّي الجمال الطبيعي الأساسيين تنتشر الحدائق والخضرة لترسم لوحة فائقة الجمال. وسط هذه الأجواء ولد جوزيبي ماروتا.

بعد ذلك بحوالي 21 عامًا، شهدت المدينة انطلاقة مشواره في الإدارة الرياضية، ولكن لم يعلم أحد بين جدران نادي المدينة الصغير أن هذا الشاب سيصبح واحدًا من أهم رجال الإدارة الرياضية في البلاد عبر تاريخها.


حنين إلى لومبارديا

أخيرًا وبعد فترة ترقب،أعلن نادي إنتر ميلانو الإيطالي تعاقده مع جوزيبي ماروتا، الرئيس التنفيذي السابق لنادي يوفنتوس، ليشغل الرجل ابن الـ61 عامًا منصب الرئيس التنفيذي المكلف بالأنشطة الرياضية للنادي اللومباردي.

صفقة شغلت الصحافة الرياضية على مدار الشهرين الأخيرين، منذ أن أعلن يوفنتوس انفصاله الودي مع الرجل بعد رحلة امتدت لثماني سنوات، نجحت خلالها سيدة إيطاليا العجوز في استعادة شبابها الذي جارت عليه رياح فضيحة كالتشيوبولي الشهيرة في عام 2006.

اهتمام الصحافة الإيطالية بالصفقة جاء لدوافع عديدة، ليس من بينها موهبة الرجل في إحراز الأهداف بالطبع، ولكن يأتي في مقدمتها عبقريته النادرة في فن الإدارة الرياضية وهو ما وثَّقته السنوات الماضية في ملاعب إيطاليا، مما يؤهله لأن يكون البلسم الشافي لمرض مدينة ميلانو العضال، والذي يحلم الجميع مع بداية كل موسم أن تزول أعراضه.


ملامح الدهاء تظهر مبكرًا

في عام 1995، عانى فريق فينيزيا الأمرّين في منافسات دوري الدرجة الثانية الإيطالي، واختتم موسمه في المركز السابع وبفارق 21 نقطة عن المتصدر بياتشنزا. رجل الأعمال الإيطالي الشهير ماوريتسيو زامباريني كان هو مالك النادي آنذاك،اتخذ قرارًا مهمًا بالحصول على خدمات موهبة جديدة برزت على ساحة الإدارة الرياضية، مؤخرًا، شاب لم يتجاوز الثامنة والثلاثين من عمره، ذاع صيته رغم أنه كان يعمل في نادي رافينا الصغير، اسمه جوزيبي ماروتا. وبعد موسمين عجاف، حقق الفريق الهدف المنشود بتأهله التاريخي إلى الدرجة الأولى بعد صراع ملحمي مع أندية كالياري وبيروجيا وتورينو، وحل في المركز الثاني على سلم الترتيب خلف المتصدر ساليرنيتانا.

خلال حقبة ماروتا، نجح فينيزيا في ضم مجموعة من المواهب التي صارت فيما بعد من نجوم الصف الأول، ويأتي على رأسهم النجم الإيطالي كريستيان فييري، وصانع الألعاب الأوروغواياني ألفارو ريكوبا.


رحلة بيرغامو

مع بداية الألفية الثالثة، خاض ماروتا مغامرة قصيرة في مدينة بيرغامو رفقة نادي أتالانتا. الفريق عاد لتوه إلى منافسات الدرجة الأولى بعد أن أنهى موسمه في المركز الثاني في جدول ترتيب سيري بي، ليأتي خلف المتصدر فينيزيا بعد أن حصد 62 نقطة بالتساوي مع بيريشيا ونابولي. في حين فشل الغريمان سامبدوريا وجنوى في التأهل هذا الموسم.

ويدين أتالانتا بالفضل في عودته إلى الأضواء إلى مدربه جيوفاني فافاسوري، الرجل الذي كان يتولى تدريب فريق الشباب وتم تصعيده لقيادة الفريق الأول، لينجح في حسم معركة التأهل إلى سيري آه. وفي موسمه الأول بالدرجة الأولى احتل أتالانتا المركز السابع في جدول الترتيب بعد أن تألق في صفوفه مجموعة من اللاعبين الشباب كان على رأسهم نيكولا فينتولا الذي استعاره أتالانتا من فريق إنتر ميلانو، وتمكن اللاعب من تسجيل 10 أهداف خلال هذا الموسم.

أما في الموسم الثاني، فاستمرت مسيرة التألق واحتل أتالانتا المركز التاسع في جدول ترتيب الدوري، كما سجل مهاجمه كريستيانو دوني 16 هدفًا خلال هذا الموسم. تشكيلة الفريق ضمت أيضًا ماسيمو تايبي، الحارس المفضل لدى ماروتا، والذي رافقه في فينيزيا من قبل.


مهمة إنقاذ السامب

في موسم 2001-2002، حقق سامبدوريا أسوأ نتائجه على الإطلاق منذ تأسيسه عام 1946، حيث حل في المركز العاشر ضمن ترتيب دوري الدرجة الثانية. ليلجأ الفريق إلى خدمات صانع المعجزات الإدارية بيبي ماروتا.

بعد عام واحد من قدوم ماروتا، نجح الفريق في التأهل إلى دوري الأضواء تحت قيادة المدرب والتر نوفيلينو، رفيق ماروتا السابق في رحلة صعود فينيزيا إلى دوري الأضواء. واحتل السامب المركز الثاني في جدول الترتيب، كما كان هذا الموسم كارثيًا على جاره وغريمه جنوى الذي جاء في المركز الثامن عشر.

وفي تكرار لسيناريو أتالانتا، حقق سامبدوريا إنجازًا كبيرًا في موسم العودة للدرجة الأولى باحتلاله المرتبة الثامنة في جدول الترتيب. وفي الموسم التالي تواصلت مسيرة التألق وتمكن الفريق من التقدم للمركز الخامس وبفارق نقطة وحيدة عن أودينيزي صاحب المركز الربع، والذي كان يقوده لوتشيانو سباليتي مدرب إنتر الحالي.

وخلال هذا الموسم، كان اللقاء والتعاون الأول بين ماروتا وفابيو باراتيتشي، وهو التعاون الذي أثمر عن طفرة حقيقية على صعيد الإدارة الرياضية في كرة القدم الإيطالية لاحقًا.

امتدت رحلة الثنائي رفقة سامبدوريا حتى عام 2010، وخلال تلك الفترة نجحا في إبرام صفقات كانت حديث سوق الانتقالات حينذاك، مثل استعارة النجم الإيطالي أنطونيو كاسانو من صفوف ريال مدريد الإسباني، ومن ثم ضمه نهائيًا في وقت لاحق. إضافة إلى الهداف الموهوب جيامباولو باتزيني الذي انتقل إلى صفوف السامب قادمًا من فيورنتينا. وقضى الثنائي الهجومي أوقاتًا رائعة بألوان الفريق ونجحا في قيادته إلى التأهل إلى دوري أبطال أوروبا في عام 2010.

بعد هذا النجاح اللافت، انتشرت شائعات تفيد باستعداد سيدة إيطاليا العجوز للانقضاض على ماروتا، لعلها تجد لديه الوصفة السحرية للعودة إلى واجهة الكرة الإيطالية مرة أخرى.


تاريخ تورينو يفتح أبوابه

في شهر مايو/ آيار من عام 2010، أعلن نادي يوفنتوس عن ضم ماروتا إلى كتيبته الإدارية ليكون أحد أهم أعمدة حقبة أندريا أنييلي الجديدة. وكما جرت العادة في تكوين الرسم الهيكلي لعائلات المافيا، عادة ما يستعين الدون «كبير العائلة» بشخص ينوب عنه ويمثله في حال غيابه، يطلق عليه مسمى «Sotto Capo»، لذلك قرر ماروتا أن يصطحب معه مستشاره ونائبه باراتيتشي في رحلته إلى تورينو.

في تاريخ كرة القدم الإيطالية الحديث، لا توجد قصة نجاح تضاهي رحلة يوفنتوس في العودة من القاع إلى القمة، رواية كان من شخصياتها الرئيسية الثنائي «ماروتا – باراتيتشي». فالفريق بعد أن تم تهبيطه إلى الدرجة الثانية في أعقاب قضية كالتشيوبولي عانى من غيبوبة فنية ومالية كادت تعصف بتاريخه الطويل، ولكن بعد قدوم ماروتا وبداية حقبة أنييلي بثمانية أعوام، أصبح النادي هو الوجهة الرئيسية لنجوم الصف الأول في أوروبا، كما نجح في تحويل الدوري الإيطالي إلى مسابقة أحادية القطب.

صفقات يوفنتوس في عهد ماروتا تحتاج إلى مجلدات لكتابتها وتدريسها في معاهد الإدارة الرياضية، ومع بداية مشواره في تورينيو انتهج الرجل طريقته المفضلة في جلب النجوم الذين لا يحصلون على فرصة كافية مع أنديتهم رغم جودتهم الفنية، وبالطبع كان ذلك بأقل التكاليف، إضافة إلى نجوم واعدين نجح راداره في التقاطهم قبل أن تتكأكأ عليهم الأندية.

برع ماروتا وذراعه التنفيذية باراتيتشي في هذا المضمار، ونجحا في ضم قائمة لا تنتهي من اللاعبين الذين صنعوا أمجاد يوفنتوس، مثل ثنائي الدفاع أندريا برزالي من فولفسبورغ وليوناردو بونوتشي من صفوف باري. كما نجح الرجل في بناء خط وسط تاريخي بعد أن ضم الثلاثي أندريا بيرلو مايسترو إيطاليا طريد ميلانو، وأرتورو فيدال متوسط ميدان باير ليفركوزن الألماني، والشاب الفرنسي بول بوغبا الذي أعلن مانشستر يونايتد الإنجليزي عن عدم حاجته إلى خدماته، ولك أن تتخيل أن ثلاثي الوسط هذا قد تم جلبه في صفقتين بالمجان، وصفقة مدفوعة وحيدة بلغت 10 ملايين يورو. هذا إلى جانب تعزيز الهجوم بالنجم الأرجنتيني كارلوس تيفيز والثنائي الإسباني فيرناندو يورينتي وألفارو موراتا.

ومع تقدم الفريق بخطوات فنية ثابتة ودوران عجلة الأرباح، بدأت الإدارة في طرق باب سوق الانتقالات بصفقات تخطت حواجز الماضي، كان أبرزها ضم الأرجنتيني غونزالو هيغواين هداف نابولي، وجاء ختامها بصفقة النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو الصيف الماضي.

يوفنتوس في عهد موراتا نجح في التتويج بلقب سكوديتو في 7 مواسم متتالية، جاوره لقب الكأس خلال 4 مواسم منها، كما نجح في التأهل إلى نهائي دوري أبطال أوروبا في مناسبتين، وهي البطولة التي لم يقترب الفريق من مربعها الذهبي منذ عام 2003.


أسطورة إنتر قادم

منذ انتهاء حقبة مورينيو وعودة يوفنتوس إلى منصات التتويج، جرت العادة في بداية كل موسم بالحديث عن «عودة إنتر»، تلك العودة التي لم يحن أوانها وتم إجهاضها على مدار سنوات رغم تعاقب المدربين واللاعبين والهياكل الإدارية.

ولكن مع تولي ماروتا مقاليد الأمور في قلعة النيراتزوري، قد يُفتح باب الأمل بشأن تلك العودة، خاصة وأن الرجل عادة ما يفي بوعوده أينما حل. وتكرار قصص نجاحه في فينيزيا وأتالانتا وسامبدوريا ويوفنتوس ليس بالأمر البعيد.

الأب الروحي في تلك المرة فشل في اصطحاب نائبه وذراعه التنفيذية باراتيتشي، والذي حل محله في هيكل يوفنتوس الإداري. ولكن تبقى له فرصة تكرار ما فعله سابقًا بالاعتماد على أهل ثقته عندما استدعى رفيق رحلة فينيزيا والتر نوفيلينو ليخوض معه تجربة سامبدوريا، وهو ما قد يتكرر مع المدرب الإيطالي أنطونيو كونتي. الرجل نجح منذ موسمه الأول مع يوفنتوس في زيارة منصات التتويج، وكان إحدى أهم صفقات ماروتا على الإطلاق، وهو ما قد يضعه على قائمة أولوياته من أجل إعادة بناء الكيان النيراتزوري، خاصة وأنه ما زال يبحث عن تحدٍ جديد ويعيش حالة فراغ بعد نهاية تجربته في الدوري الإنجليزي الممتاز رفقة البلوز تشيلسي.

قد تتطلب مهمة إعادة إنتر المزيد من الوقت والكثير من الجهد، وفيما يتعلق بنتائج كرة القدم لا شيء يمكن ضمانه والرهان عليه، لكن الأمر المؤكد أن حلول ماروتا على مدينة ميلانو سيشعل سوق الانتقالات الإيطالي وسيرفع سقف طموحات جماهير النيراتزوري حد السماء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.