إن هذا الكون فيه من الغرائب والعجائب والميتافيزيقا، ما يجعلني أؤمن أن هناك ستارًا، لا تُدركه عقولنا البسيطة والغبية. ونحن والكون أمام الستار مثل عرائس الماريونيت، وخلف الستار هناك شيء ما، كائن ما، لا يشبه تركيبتنا، يتحكم في الذرات، يتدخل في المسرح، ويُحركنا جميعًا حسب إرادته (ليس طول الوقت)، لا حسب قانون تعلمه عقولنا وتعمل به.

هذا الستار يحجب قوانينه عن قوانين كوننا، لهذا لا تخضع أفعاله لعقل بشري أو تنبؤ مُحتمل، وكلما أحدث أمرًا لا يخضع لقانون أو عقل، هرول البشر ناحية العلم ولم يجدوا شيئًا، إن هذا الكون وما وراء الستار للغز أكبر من عقولنا التي نعلم أنها مُخادعة، وبسيطة بالنسبة لهذا الكم من الغموض والتعقيد في الكون.

سأظل أؤمن أن خلف الستار إلهًا يُحرك الذرات الصغيرة جدًّا، لا أعرف كيف، لكنه يفعلها، يرصها فتكوِّن إنسانًا، سماءً، حجرًا، كوكبًا، مجرةً، قَدرًا، نصيبًا، يأمرها فتفعل ما يشاء. إننا نُشاهد ونفهم حركة الأشياء الكبيرة بينما هو يهتم ويرصد ويُلم التفاصيل الدقيقة والصغيرة جدًّا وغير المرئية لنا، وهذا هو السر.

ومَنْ يقدر على الذرات والتفاصيل الدقيقة، يحكم الكون.

لا تٌخبرنا الأديان السماوية عن ماهية الإله الذي يحكم الكون، ليس كمثله شيء، إنه فقط هُناك، يفعل كل شيء، يقول له كنْ فيكون، وقال الله ليكن نورًا فكان نور. في الأديان الإله مفهوم ومعنى أكثر منه كائنًا له ملامح، معروف بأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا مزيد.

وذات يوم سُئل الإمام مالك عن كيفية استواء الله على العرش، فأجاب: «الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».

الروح والمادة

كلنا مكونون من جسد مادي أرضي يخضع لقوانين الزمان والمكان وروح محبوسة بداخله. الروح، وما أوتينا من العلم إلا قليلًا؛ شيء غامض لأنها من عند الله، الذي لا يخضع لقانون. سنعلم كل شيء حينما تتحرر الروح من الجسد، تنفك من قيود الزمان والمكان، وتُرفرف في كون آخر، وحينها يُمكن أن نعرف ما هو الإله؟

أعتقد أن الستار الذي يفصلنا عنه، هو قوانين الزمن والمكان التي تحكم عالمنا وتحده، فالزمن بالنسبة إليه يساوى صفر، إنه يفعل كل الأشياء في وقتٍ واحد، لا يحتاج إلى الزمن. وعنده، الماضي يحدث مع الحاضر والمستقبل، مثل شريط فيديو، الحياة محبوسة بداخله، ولكنها تخرج للعرض تدريجيًّا، لذا يقدر على تغيير الماضي ويعرف المُستقبل، لا يتنبأ به، إنه يقين بالنسبة إليه، فهو يقع أمامه الآن وفى كل وقت.

هل هُناك علاقة بينه وبين الثقوب السوداء التي لا زمن داخلها؟

لا يحتاج أن يُسافر كي يعرف ماذا يجرى، فهو كأثير يملأ كل الأماكن في كل لحظة، متوغل في عالمنا وفى نفس الوقت مُنفصل عن قوانينه حتى لا تُقيِّده أو تُعيق عمله. يقول أينشتاين: «طوال حياتي كنتُ أحاول أن أقابل الله أثناء عمله».

من أي شيء يتكون العالم؟

الذرة هي الجُسيمات الصغيرة التي تكوِّن العالم والمادة، الكون، الجدران، المقاعد، الملابس، كل شيء حولك وحتى أنت؛ الإنسان. وحينما تُغادر أرواحنا الكون، تتفرق ذراتنا وتنتقل للعثور على استخدامات جديدة في مكان آخر، كجزء من ورقة أو كائن بشري آخر أو قطرة ندى، والذرات نفسها –على أي حال- تستمر عمليًّا إلى الأبد، ولا أحد يعرف بالفعل كم يمكن أن تحيا الذرة، وبحسب «مارتن ريس»، عالم الكونيات والفيزياء الفلكية البريطاني، تحيا على الأرجح 10^35 أعوام، وهو رقم كبير جدًّا. [1]

ما دامت الذرات لا تفنى، لا يحتاج الإله إلى صنع كل هذا الكم من الذرات، قديمًا، صنع ملايين الذرات، هو الآن يُعيد استخدامها مرةً أخرى.

لكن ماذا لو كان الكون كله عبارة عن ذرة واحدة تتحرك في الزمن والمكان؟

يُجيب العبقري «جون ويلر»، عالم الفيزياء الأمريكي، في مُكالمة هاتفية مع تلميذه فايمان: «كل الإلكترونات تظهر في الكون بنفس الشحنة وبنفس الكتلة لأنها في الحقيقة إلكترون واحد يتحرك إلى الأمام وإلى الخلف في الزمن».

وفى تجربة الشق المزدوج، يستطيع الإلكترون الواحد أن يخرج من الشقين في ذات الوقت، أي يستطيع التواجد في أكثر من مكان في آنٍ واحد.

تُصبح المسألة سهلة أكثر، الكون ذرة واحدة، يُشكل الإله بها كل شيء في لا زمن، وسبق أن اتفقنا أن الإله لا يخضع لقوانين الزمن، لأنه مَنْ صنع الزمن.

مَنْ يتعجبون: «كيف يُحرك الإله هذا الكم الهائل من الأشياء في الكون في وقتٍ واحد؟» يبدو الأمر أكثر بساطة، إنها ذرة واحدة تكوِّن كل شيء، كل شيء حقًّا.

لكن هل هذه الذرة شيء مادي في الأصل؟ بمعنى آخر، هل هذا الكون مادي، أم أننا جميعًا نعيش داخل حلم هائل، وبالتالي تكون الحياة والمادة عبارة عن أفكار تدور في عقولنا فقط، وبالتالي لا يحتاج الإله إلى صنع كل شيء في الكون على هيئة مادة، إنه فقط يتلاعب بعقولنا، وهكذا يحكم الكون؟

ذاتَ ليلة، استيقظ عالِم الحيوان الفرنسي «إيف ديلاج» على طَرَقَات الباب، كان الطارق هو حارس البيت يُخبِره أن يستيقظ لأن صديقًا له باغَتَه المرض، قام ديلاج من فراشه وارتدى ملابسه وتوجَّه مسرعًا إلى دورة المياه ليَغسِل وجهَه بإسفنجة مبلَّلة. أيقظَه إحساس الماء البارد على وجهه؛ كان في الحقيقة لا يَزَال مُستَلْقِيًا في الفراش بملابس النوم، ولم يكن ثمة أحد يطرق الباب، كانت التجربة كلها حلمًا.

بعد دقائق، سمع طَرَقَات أخرى على الباب، قال الحارس: «سيدي، ألن تأتي؟» رَدَّ :«يا إلهي! إذن فهذا حقيقي بالفعل اعتقدتُ أني أحلم».

ردَّ الحارس: «إطلاقًا، أرجوك أن تُسرِع، فالجميع ينتظرك».

استيقظ ديلاج وارتدى ملابسه، وأسرع إلى دورة المياه ليغسل وجهه. عندما لامَسَتِ الإسفنجة وجهه، استيقظ، ووجد نفسه بملابس النوم في الفراش. بعد برهة قصيرة، سمع طَرَقَات أخرى على الباب، ومرة أخرى كان الحارس يقول: «سيدي …».

مرَّ ديلاج بظاهرة «الاستيقاظ الزائف»؛ إذ استيقظ فيما اعتقد أنه العالَم الواقعي، ليكتشف أن هذا أيضًا كان حلمًا. وعندما استيقظ ثانية، اكتشف أنه لا يزال في حلم لم يستيقظ منه بعد.

إذن كيف نَعرِف أن تجربة اليقظة، التي مررنا بها هذا الصباح قبل أن ننهض من الفراش كانت يقظة حقيقية؟ كيف تَعرِف أنك لم تستيقظ في حلم آخر، حلم يضم كل التجارب التي تمر بها الآن، وأنك بعد برهة قصيرة ستستيقظ مرة أخرى في عالم اليقظة، أو ربما في حلم آخَر؟ [2]

إننا نحلم؟

ماذا لو كنَّا نعيش حلمًا زائفًا؟ ماذا لو كانت الحياة حلمًا زائفًا؟ في هذه الحالة لا يحتاج الإله إلى صنع كل شيء، فقط يضع الوقائع والأحداث أفكارًا في عقولنا، وفى هذه الحالة لا يكون هو أيضًا شيئًا ماديًّا، لأنه ببساطة لا شيء ماديًّا على الإطلاق.

يسأل الله إبليس: «ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي؟».

إذن هُناك إنسان مادي، خلقه الله؟! لكن تمهل، الإنسان خلق أيضًا برامج الكمبيوتر، رغم أنها شيء غير مادي، لكنها بيننا وتفعل أشياء كثيرة في حياتنا، رغم أننا لا نستطيع لمسها.

سأظل أؤمن أن خلف الستار إلهًا، وسأظل أؤمن أنه محجوبٌ بقوانين الزمان والمكان، يتحكم بالذرات، ومن يقدر على الذرة يحكم الكون.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. بيل برايسون، “موجز تاريخ كل شيء تقريباً”، ترجمة: أسامة محمد إسبر، الرياض، مكتبة العبيكان، 2007. ص 168.
  2. يان فيسترهوف، “الحقيقة: مقدمة قصيرة جدٍّا”، ترجمة: هبة عبد العزيز غانم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى 2016، ص ص 9-10.