كان – رحمه الله- كلما سئل بهذا السؤال التقليدي: لماذا تكتب؟ أجاب بحماسه المعتاد، أن الكتابة هي متنفسه الحقيقي ووسيلته للعلاج والراحة النفسية. مات العراب في الثاني من أبريل/ نيسان الماضي، وعلى قدر بغضي للكذب على قدر ما تمنيت أن يكون خبر وفاته مجرد كذبة سخيفة من كذبات أبريل سيرد عليها العراب بنفسه برائعة من مقالاته الساخرة كما عودنا. الموت حق علينا جميعًا، ولكن تبقى الحقيقة صادمة وموجعة. مات الأب الحقيقي لجيل الثمانينيات والتسعينيات ثم الألفينيات، مات صديقهم الصدوق الذي كان يصاحبهم يوميًا بمقالاته وآرائه القيمة في جميع الأحداث بلغته السلسة القيمة وتحليلاته القوية رغم كلاكيع الحياة. جعلهم يقرؤون ويكتبون، والآن يكتبون عنه ليرثوه، لعل في ذلك عزاء وراحة لهم.

لم أكن من خاصته، ولم أحظ بلقائه، ظلت علاقتنا وطيدة فقط على الورق بين كاتب صادق وقارئ مخلص. رحل عنا بينما كنت أعد نفسي لهذا اليوم الذي سأقابله وأعرّفه بنفسي كقارئ نهم لمختلف أعماله، ثم أخبره أننا زملاء على طريقة هنيدي في فيلم «وش إجرام»: «حضرتك نحن زملاء؛ لي مقال منشور في موقع إضاءات». تأكد خبر وفاته وزلزلني مشهد جنازته كما زلزل كل من عرفوه وأدهش من جهلوه. حالة من عدم الاتزان اجتاحتني جعلتني أدرك أن علاقتنا تخطت الأوراق والأحبار، تخطت المسافات وأصبحت بعمق تلك المشاعر التي مررنا بها خلال السنين الماضية بحلوها ومرها. أدركت أخيرًا لماذا بكى أبي الأستاذ عبدالوهاب مطاوع عند وفاته، وجعلني أنا وإخوتي نصلي خلفه صلاة الغائب على روح الفقيد. كانت محبة صادقة ورفقة عمر وإن لم تتصافح الأوجه والأيادي، ولعل السطور المقبلة تكشف لنا سر تلك المشاعر، فقد كانت حقيقية ومفاجئة.. مثل الموت.


أحمد خالد توفيق: القارئ قبل الكاتب

قرأ كثيرًا حتى وصل لدرجة «الغليان» على حد قوله، وكان لابد أن تخرج تلك الطاقة المضطربة، بدأت رحلته مع الكتابة خاصة لأدب الرعب متزامنًا مع انتهائه من أغلب قصص الرعب فكان متعطشًا للمزيد، أراد أن يكتب لنفسه قبل الجميع وكان هو قارئه الأول، فانطلق خياله ليصبح قارئوه بالملايين، ويصبح في مقدمة كُتّاب أدب الرعب في الوطن العربي، ومع ذلك ظل حديثه عن الكتب والقراءة بشهية مفتوحة ولمعة عينيه التي لم تأفل حتى آخر لقاءاته التلفزيونية مع الكاتب والصحفي عمر طاهر، لمع نجمه وذاع صيته، ولكن ظلت سعادته واحتفاؤه بكتاب رائع تفوق سعادته بنجاح أعماله.

كان يقرأ في شتى المجالات ويقول رأيه بوضوح، حاضر في أغلب الأحداث، يحللها ببساطة رغم تعقيداتها وينقد الأوضاع الصعبة بسخرية لاذعة ولغة سلسة بليغة، وقد تستشعر تلك المرارة في ثنايا كتاباته خاصة مع السنوات الأخيرة، وكأنها مرارة المعرفة التي أحرقت قلب وعقل محمود السمنودي بطل روايته «مثل إيكاروس»، وهي من وجهة نظره أفضل أعماله من حيث إحكام السرد.


كان صادقًا مع نفسه قبل الجميع

عاش منطلقًا بآرائه الحرة الصادقة في كل نواحي الحياة، يفضل الصمت على أن يقول ما لا يؤمن به، يثني على أقلامٍ شابة في مهد طريقها، وفي المقابل ينتقد كتبًا هي الأعلى مبيعًا ولكنها فقيرة أدبيًا، ولا يثني على أي عملٍ قد يصيبه بالملل أيًا كانت شهرة صاحبه.

كان شاعرًا حالمًا، وكان واقعيًا يعلم بالضبط على أي أرض يقف، فهو الناقد الأول لكتاباته كخط فاصل بين آراء مريديه ومثبطيه، يخشى أن يٌمَّل ويعرف جيدًا من هم قارئوه، هم الشباب الذين تربوا على كتاباته وكبروا معها، لتتطور كتاباته من روايات شبابية للجيب إلى روايات أدبية مهمة تحقق نجاحًا واسعًا كسابق أعماله، وبشكلٍ جديد يرضيه ويرضي متابعيه.

احترم مبادئه وقارئيه وجعل من نفسه رقيبًا على أعماله، عاش متصالحًا مع نفسه معترفًا بأخطائه ، أعلن ندمه على التدخين لأكثر من مرة، ومنع السجائر عن رفعت إسماعيل عندما خشي أن تؤثر سلبًا على قارئيه من الشباب، بينما أخفقت محاولاته للإقلاع. وفي ندوته بمكتبة الإسكندرية، تعاتبه فتاة لموقفه من المرأة في روايته «في ممر الفئران» فيتقبل رأيها بصدرٍ رحب معترفًا بتناقض موقفه من المرأة وعالمها الغامض، وشاب يسأله حلًا للانطوائية فيجيب: «كيف أنصحك وأنا انطوائي! »، كذلك يعتذر في ذات الندوة عن تشاؤمه في أعماله مؤكدًا بصراحة وخفة دم: «أعمل إيه؟ أنا فعلًا متشائم، وفاقد الشيء لا يعطيه». لينفجر الحضور ضاحكين.


عاش بسيطًا وبعمق

دكتور أحمد خالد توفيق، ابن طنطا البار وأستاذ طب المناطق الحارة بجامعتها، لم يغادرها حتى وإن امتلك عقارًا بالقاهرة، مكث بها بعيدًا عن العاصمة وصخبها، وظل كما هو بضحكته، بقميصه وبنطاله الكحليين، وأصدقائه منذ الصبا. ابتعد عن الأضواء وكان الأكثر تأثيرًا في حياة الشباب، الأكثر حضورًا رغم قلة ظهوره في البرامج الحوارية، ابتعد عن السوشيال ميديا، ولكنه كان الأكثر سطوة على منشورات الفيسبوك، كان غائبًا حاضرًا، متابعاً لما يحدث في السوشيال ميديا، عاش مطّلعًا متجددًا، ناقش مئات القضايا في مقالاته، المعقدة ببساطة، والبسيطة بعمق، فلا تتفاجأ حين تراه يكتب مقالًا في مجلة الشباب بعنوان «إسلام حسام»، ليحكي كيف أضحكه ذلك الشاب خفيف الظل الذي استطاع في دقائق قليلة أن يناقش ببراعة مواقف وحالات كوميدية نعيشها ونراها حولنا في المجتمع في فيديوهاته التي شاهدها مع ابنه محمد بالصدفة البحتة. كم أرعبه لقب «العرّاب»؛ فلم يتخيل نفسه متربعًا على كرسي وثير مثل الأب الروحي والناس يقبلون خاتمه، كان يشعر بالمسئولية ثم جاء هذا اللقب ليضاعف همومه.


شبابه هزم كهولته

كان يؤمن بشدة بجيل الشباب وطاقته وحساسيته الشديدة، فهم الجيل الأنقى قبل أن تسحقه الدنيا برماديتها فيداهن ويتراخى. جرى العمر وظل كما هو شابًا بروحه وعقله لا يشيخ. فإن شاهدت لقاءه التلفزيوني مع الإعلامي إبراهيم عيسى في برنامجه «هنا القاهرة» والذي استضاف معه دكتور نبيل فاروق (القطب الثاني للكتابة الشبابية ومؤلف سلسلة «الرجل المستحيل») ستدرك جيدًا لماذا ظلت علاقته بالشباب بهذه القوة دون أي شائبة، الرجل كان ميالًا لجيل الشباب بحق دون أبناء جيله، كان يؤمن عمليًا بطاقتهم ودورهم الذي لم يأخذوه بعد وهم الأحق به، لم يمارس ذلك الدور التقليدي كأستاذ يلقن تلاميذه بعض مواعظه، كتب للشباب وقرأ للشباب، حدّث الشباب واستمع للشباب، فجاءوه (كشباب «انسايدر طنطا» أو «مويك») لينهلوا من عذوبة حديثه وفيض خبرته فكانت نصيحته واحدة، شديدة العمق على قدر بساطتها: «كوّن نفسك كويس، وربي أولادك كويس، حافظ على مبادئك وتذكرها دائمًا».


كان إنسانًا حقيقيًا رغم سعة خياله

عاش ومات منحازًا للإنسانية وبقاعدة ثابتة لا تتبدل: «كل الدم المصري حرام»؛ لذلك كان ألم فراقه شديدًا وحقيقيًا.

أحمد خالد توفيق.. الإنسان الخجول والكاتب الجريء، الرجل الخمسيني الذي ظل شابًا، الثوري الذي عاش في هدوء ورحل في هدوء ليعصف بنا الحزن على فراقه. على روحك الشابة السلام. لم نعد صغارًا برحيلك، ومهما كتبنا لنرثيك في النهاية كما قلت من قبل: «تظل الكلمات عاجزة»، وتبقى كلماتك خالدة في أذهاننا وسلوى لنا آملين أن نعيش متمسكين بمبادئنا رغم هذا الجرح الغائر العميق بعمق ذاك الوصال بينك وبيننا، فلم تكن علاقتنا كاتب بقارئيه، بل علاقة وطيدة بدأت كصديق ثم أخ كبير ثم أستاذ، وأخيرًا أب روحي ومثل أعلى ظل مخلصًا لأفكاره ومبادئـه، لم يخذل أبناءه حتى الموت. أن تعيش وتموت على نفس مواقفك قد تبدو فكرة بسيطة، ولكنها في هذه الأيام تبدو ضربًا من الخيال.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.