تحكي إحدى الأساطير اليونانية القديمة حكاية عن «ميداس»، الذي يستطيع تحويل كل ما يلمسه إلى ذهب، حين أسندت إليه مهمة تحكيم مباراة موسيقية ما بين «أبولو» و«مارسياس»، لكنّه فضّل «مارسياس»، ليعاقبه «أبولو» بأن جعل له أذني حمار.

بعد أيام اكتشف حلّاقه هذا السر، ولم يستطع إخفاءه، فحفر حفرة في الأرض وهمس فيها قائلًا: «ميداس له أذنا حمار»، لكن القصب نما في الحفرة، ونشر السر في كل مكان.

أذن «فرانس فوتبول»

حقيقة، لم نتأكد من سبب تفضيل «ميداس» لـ«مارسياس»، وتجاهله لـ«أبولو»، لكن لدينا مجموعة من التفسيرات المنطقية؛ ربما لأن هذا الحكم عادل طبقًا لموهبة كليهما، أو بسبب أي من أنواع الانحيازات العاطفية التي وجهته نحو أحدهما، أو ربما لأن «ميداس» لم يكن يصلح لدور الحكم في مباراة موسيقية من الأساس، وهذا ما استدعى معاقبته.

حين ندلُف لعالم كرة القدم، بنهاية كل عام، يوضع جميع المحسوبين على اللعبة تحت ضغط اختيار الفائز بجائزة الكرة الذهبية، التي تقدمها مجلة «فرانس فوتبول» الفرنسية، لأفضل لاعب في العالم بالعام المنصرم، ليبدأ كل منهم في الإدلاء بدلوه بهذه القضية الشائكة دون أن يخاف من مصير ميداس: أذن الحمار!

في الواقع، نملك حقيقة واحدة؛ عبارة عن اعتراف ضمني من مجلة «فرانس فوتبول»، بأنه لا توجد معايير مُحددة لتفضيل أي من الأسماء المرشحة لحصد الجائزة على غيره، بل أن الأمر برمته يخضع لتصويت زمرة من الصحفيين التابعين للمجلة الفرنسية حول العالم.

وهنا تجدر الإشارة إلى استحالة الوصول لتقييم منطقي لموسم اللاعبين، إما لانحياز المصوّت عاطفيًا تجاه لاعب بعينه، أو لعدم درايته بما حدث خلال الموسم، نظرًا لانشغاله بعمله الصحفي. وربما هذا ما عانى منه «حفيظ ماريكار»، مندوب «فرانس فوتبول» في سريلانكا، والذي قدّم طواعية مجموعة من أكثر الاختيارات اللا منطقية في تاريخ هذه الجائزة، خلال الفترة ما بين عامي 2017 و2019.

فعلى سبيل المثال، في عام 2017 اختار ليوناردو بونوتشي كأفضل لاعب في العالم، وهو الذي جاء في المركز 21 في القائمة النهائية المعلنة من فرانس فوتبول، أما في عام 2019 فقد اختار الحارس الإسباني كيبا أريزابالاغا كأفضل حارس في العالم!

الكرة الذهبية: التلاعب بأصل الحكاية

أعتقد أن العلم الحديث يدور حول الأفراد، أنا ضد الكرة الذهبية، لأنها جعلت اللاعبين مهووسين بالجوائز الفردية، يجب أن تأتي مصلحة الفريق في المقام الأول.
الفرنسي آرسين فينجر، المدير الفني الأسبق لآرسنال الإنجليزي.

بغض النظر عن سذاجة جائزة الكرة الذهبية، وضربها عرض الحائط بالجماعية كسمة مميزة للعبة مثل كرة القدم، إلا أن السبب الحقيقي لتقديم مثل هذه الجوائز لم يكن لتحديد الأفضل بل لنشر اللعبة.

في الخمسينيات والستينيات، لم تكن هنالك كرة قدم مذاعة، بالتالي لم يستطع القاطن بباريس التعرُّف على ماهية كرة القدم التي تُلعب في إيطاليا أو إنجلترا، ومن هنا ولدت الرغبة في نشر الوعي عبر تقديم جائزة للاعب أوروبي حظي بموسم جيد، وتقديمه للجماهير تحت مسمى أفضل لاعب بالعالم.

ربما كانت محاولة بريئة لتثقيف جموع الجماهير، لكن مع الوقت تحولّت هذه النعمة إلى نقمة، وانحرف الجميع عن الإطار الحقيقي، ومن ضمنهم الجماهير، التي أصبحت تنتظر نهاية كل موسم، لا للتعرُّف على وجه جديد كما في السابق، بل لدخول حرب غير مبررة حول أحقية أحد نجوم الكرة في نيل الجائزة.

صديقي الأفضل

التشجيع يعد أحد أكثر النشاطات النادرة التي يمارسها الإنسان دون انتظار عائد مادي واضح، بالطبع دون تجاهل دور المشاعر في توجيه المشجع نفسه لاختيار فريق أو لاعب بعينه ومساندته دونًا عن غيره.

بداخل كل إنسان توجد مجموعة من الخلايا العصبية المتخصصة تعرف بـ«الخلايا المرآتية»، التي تلعب دورًا مهمًا في السلوك التعاطفي للبشر، كالابتسام لا إراديًا عند رؤية شخص يبتسم، والشعور بالحزن حين يبدأ بالبكاء.

يعتقد أن الخلايا العصبية المرآتية هي المسؤولة عن قدرتنا على وضع أنفسنا في مكان شخص آخر.
أورنيلا فالنتي، رئيسة قسم علم الأحياء العصبية الإدراكي بمركز أبحاث الدماغ في فيينا.

وبما أنّ المشجع يرى في فريقه ولاعبيه المفضلين امتدادًا له ولشخصيته، لذلك رُبما تدفعه هذه المشاعر للدخول في حرب كلامية -لا طائل منها- لإثبات أفضليتهم. السبب ببساطة أنه بمجرّد فوزهم سيشعرون بالسعادة، وبالتالي تنعكس آثار هذه السعادة على المشجع، والعكس بالعكس.

طريق الجيل زد

إذا كنت أحد مواليد الفترة ما بين العام 1995 و2010، فأنت منتمٍ لمن يعرفون في الأوساط الأكاديمية بـ«المواطنين الرقميين»، الذين امتلكوا منذ لحظة ميلادهم ولوجًا كاملًا لعالم الإنترنت. وعلى الرغم من عديد المميزات التي حظي بها ذلك الجيل، فإنه -بشكل لا إرادي- في طريقه لأن يذهب بكرة القدم إلى طريق مسدود، حيث تتوه أهمية العملية لصالح النتائج.

الحقيقة المؤسفة هي أنه طبقًا للبيانات الخاصة بموقع «يورو سبورت»، والتي حللت شرائح الجمهور الرياضي في فبراير 2021، اتضح أن نحو 42% من جمهور «الجيل زد» لا يهتم أساسًا بكرة القدم، مقارنة بنسبة تقارب الـ25% للفئات السنية الأكبر.

وبنفس الصدد، أوضحت دراسة قدمها موقع «Nielsen Fan Insights»، المتخصص بتتبع سلوكيات الجماهير، أنّه بتتبع سلوكيات جماهير الرياضة بثمانية أسواق مختلفة (الصين- فرنسا- ألمانيا- إيطاليا- اليابان- إسبانيا- بريطانيا)، تم اكتشاف حقيقة مؤسفة أخرى؛ وهي أن جماهير «الجيل زد» تفضل دفع اشتراكات مقابل الحصول على خدمات «مسلية»، بدلًا من دفع نفس المقابل لمشاهدة مباريات كرة قدم كاملة. 

ما يقرب من ثلثي الشباب يتابعون كرة القدم خوفًا من تفويت الأحداث الكبيرة، لكن 40% من مشجعي الجيل زد لا يهتمون أساسًا بكرة القدم.
أندريا أنييلي، رئيس نادي يوفنتوس الإيطالي، باجتماع جمعية الأندية الأوروبية في مارس 2021.

تبدو تلك النسب منطقية بالفعل. بتغير طبيعة المشجعين، واكتساب الأجيال الجديدة لسمات مغايرة عن سمات المشجع الكلاسيكي، أصبحت كرة القدم والرياضة في العموم مجموعة من النتائج التي يكفي تتبعها عبر تطبيقات الهواتف المحمولة المختلفة، بل في بعض الأحيان إصدار أحكام وآراء وفقًا لهذه النتائج، على عكس الأجيال السابقة، التي احتاجت لمشاهدة المباريات كاملةً لتكوين وجهة نظر منطقية حولها.

ربما يتضح الآن السبب في اكتساب الجوائز الفردية مثل الكرة الذهبية لقيمة مضاعفة، حيث إن القاعدة الجماهيرية لكل نجم مرشح لحصدها ترغب في إثبات أفضليته، لكن دون رغبة حقيقية في أن تُثبت هذه الأفضلية عبر تقييم موضوعي، لأن الحقيقة الوحيدة التي لا شك فيها، أنه لا يمكن فصل أي فرد عن المجموعة وتقييمه منفردًا خاصة عند الحديث عن لعبة جماعية ككرة القدم.

الآن اتضحت الصورة كاملةً، بشكل ما اختارت الجماهير أن تلعب دور الحكم، تمامًا مثل «ميداس»، لكنهم أبدًا لن يحصلوا على أذني حمار، حتى ولو كان رأيهم منافيًا لأي منطق.