في تعاونه الثاني مع الممثل المخضرم «كريستيان بال» – بعد Out of The Furnace في 2013 – يعود إلينا المخرج الأمريكي «سكوت كوبر» بفيلم سينمائي يغوص فيه داخل عالم الصراعات العنيف الذي تحكمه شريعة الغاب وقواعد غلبة اليد وقهر الإنسان لأخيه الإنسان.

فيلم Hostiles «أعداء» تدور أحداثه في نهاية القرن التاسع عشر، حين يكلف ضابط بالجيش الأمريكي باصطحاب سجين من الهنود الحمر تم العفو عنه هو وأسرته بعد قضاء سنوات طوية في السجن إلى موطنهم الأصلي، إثر حكم من الرئيس الأمريكي بالعفو صحيًا عن الرجل الذي يحتضر بعد إصابته بالسرطان.

يدور صراع عنيف داخل كابتن «جوزيف بلوكر» – يقوم بدوره كريستيان بال – وهو يتلقى الأمر بالمهمة، فكيف يقوم بيديه بتحرير ذلك السجين، الهندي الأحمر الهمجي والمتوحش –الزعيم «يلو هووك» – وهو الذي شاهد «الصقر الأصفر» بعينيه وهو يقتل زملاءه قبل سنين بوحشية، ويقتطع فروات رأسهم منتشيًا – كما يظن – بقوته وقدرته على البطش.

كاد بلوكر يعصى الأمر ويعرض نفسه لمحاكمة عسكرية وتسريح من الخدمة بعد سنوات طويلة قضاها في بناء سمعة أسطورية في خدمة المستعمر الأمريكي للقارة الجديدة البكر.

هكذا يضع «سكوت كوبر» رؤيته للصراع، مقارنًا بين كفتي ميزان، إحداهما فيها الرجل الأبيض المقتنع بأنه أخذ على نفسه عبء اقتحام القارة الجديدة ونقل الحضارة والمدنية لأهلها الأصليين من المتوحشين البدائيين. والكفة الأخرى فيها الرجل الأحمر الذي يدافع عن أرضه وثقافته وبني جلدته ضد أولئك القادمين عبر المحيط تحملهم سفن مدججة بالمدافع والبنادق وكل وسائل التطهير العرقي الحديثة والعنيفة.

لا يمكن أن تستوي الكفتان، مهما أظهر الرجل الأبيض لاحقًا من علامات الشفقة والرحمة، وادعى تحت رايات الإنسانية حق الرجل الأحمر في العيش.

لا يمكن أن تستوي الكفتان، مهما أظهر الرجل الأبيض لاحقًا من علامات الشفقة والرحمة، وادعى تحت رايات الإنسانية حق الرجل الأحمر في العيش بحرية في «محميات» تحفظ له حق العيش في سلام، ومهما أظهر الرجل الأحمر من وحشية وهمجية مدعاة هي رد فعل طبيعي أمام المغتصب المسلح بآلة حرب لا ترحم وتحصد أمته بلا رحمة، وتهدد نوعهم بالفناء النهائي. فالرجل الأبيض لم يأتِ قادمًا بالورود ورايات السلام، والرجل الأحمر لم يتعلم عبر القرون غير الدفاع عن نفسه بالحجر والخنجر والسهم.

يبدأ الفيلم بغارة من بعض السكان الأصليين على أسرة من المستوطنين الأمريكيين من أجل سرقة خيول الأسرة، على إثرها يقتل جميع أفراد الأسرة ولا يبقى منها سوى الأم الشابة المكلومة «روزالي» – روزاموند بايك في واحد من أحدث أدوارها إبداعًا منذ دورها الاستثنائي في Gone Girl عام 2014 – والتي يعثر عليها «بلوكر» أثناء ترحاله مع سجنائه نحو وجهتهم النهائية.

ويأخذنا الفيلم في قوس واسع من الأحداث ابتداءً من شعور «روزالي» العنيف بالعدائية ضد «الصقر الأصفر» وعائلته، والذي يهدأ رويدًا رويدًا أمام اكتشافها ضعف الزعيم الهندي المحتضر، ثم مساعدته إياهم في صد هجوم عنيف من نفس الجماعة التي قتلت زوجها وأبنائها الثلاثة، وأيضًا رقة نسوة أسرته اللائي تعاملن مع حزنها ومصيبتها بإنسانية على أعلى قدر من البراءة الفطرية، وقدمن لها – مثلما قدم لها الكابتن بلوكر – الدعم النفسي الذي تحتاجه لتستطيع اجتياز مشاعر الصدمة والفقد والتيه.

مرة أخرى ينصب «كوبر» ميزانه محاولًا إقناعنا بأن كلا الفريقين فيه الصالح والطالح، وأن الهنود الحمر ليسوا كلهم أشرارًا همجيين عديمي الإنسانية، بالضبط مثلما أنه ليس كل المستعمرين البيض تعتريهم رغبة القتل والهيمنة والسيطرة على الآخر وإزاحته من الوجود ونهب خيرات أرضه وثرواتها.

إلا أن أحداث الفيلم التي تستدعي للذاكرة عشرات الأمثلة من التاريخ والواقع تفضح بما لا شك فيه أن هناك اختلالًا عظيمًا في الميزان، وأن الرجل الأبيض مهما حاول التوحد في النهاية مع آلام ضحاياه، فإن تلك تظل في النهاية حالات استثنائية – وليست القاعدة – يدفعها شعور عميق بالذنب في حق الضحية، ولا يدفعها قواعد أخلاقية راسخة كانت لتمنع الرجل الأبيض من إمعان القتل وفرض القوة الغاشمة من الأصل.

ذكرني الفيلم بكتاب من الرسوم المصورة بعنوان «أعداء حميمون» للمؤلف والرسام «جان بيير فيلو» و«دافيد ب» يتناول فصولًا من تاريخ علاقات الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، وكيف أن التقرب الأمريكي من كل دول المنطقة كان ينتهي في النهاية إلى سيطرة على النفط، وتأليب للصراعات، ودعم للكيان الصهيوني، وإنشاء صداقات تهدف لقلب نظم الحكم، وزرع الفوضى في قلب مجتمعات هؤلاء «الأصدقاء» لضمان سيطرة أبدية على الموارد والمواقع والمصالح الجيوستراتيجية.

تسأل «روزالي» الكابتن «بلوكر»: «هل تؤمن بالإله يا كابتن؟». فيصمت لوهلة قبل أن يجيب: «نعم، ولكنه يبدو وقد غض الطرف عما يحدث على هذه الأرض لفترة من الزمن».

لم ينته الرجل الأبيض في مساعيه ومغامراته إلى كوارث وخرائب وبحور من الدماء. هذه هي القاعدة وليس الاستثناء. وهذا شكل الميزان في العلاقة المشوهة، بين من يرى نفسه إنسانًا أعلى وباقي البشر في مراتب أقل، تصنيفهم في منازل الكائنات الوحشية والهمجية والبربرية.

فيلم Hostiles في مجمله جزء من صراع نفسي داخل العقلية الجمعية للرجل الأبيض، تبين تناقضاته وجرائمه بشكل واضح، وتحاول تقديم الاعتذار عبر عرض نموذج إنساني –كابتن بلوكر والسيدة روزالي- الذي يتوحد مع ضحيته،الصقر الأصفر وأسرته.

يذكرني الفيلم جدًا بتجارب سينمائية مثل The Last Samurai، حين يتوحد الضابط «ناثان ألرجين» – توم كروز – مع أعدائه من الساموراي اليابانيين ليساعدهم في قتالهم ضد النظام الياباني الحديث الذي ساعده من البداية في التسلح وإبادة حضارة السامواري التقليدية، رغم معرفته بالجريمة الشنيعة التي قام بها ورغم يقينه بأن أي شيء يفعله بشكل فردي مؤداه الانتحار، لكنه يستمر في محاولة فردية فقط لمعاقبة النفس، وليس من أجل فرض حل شامل للهمجية الغربية التي لا يحركها سوى النهم لبيع السلاح ومراكمة الثروة.

الفيلم يقدم صورة بصرية بديعة تدور في أجواء الغرب الأمريكي والطبيعة الخلابة، بمصاحبة موسيقى عظيمة لـ «ماكس ريختر» نجحت في إضفاء جو مقبض وقاتم أكد فداحة المصيبة والجريمة التي ارتكبها الأمريكي في حق الهندي.

في الفيلم تسأل «روزالي» الكابتن «بلوكر»: «هل تؤمن بالإله يا كابتن؟». فيصمت لوهلة قبل أن يجيب: «نعم، ولكنه يبدو وقد غض الطرف عما يحدث على هذه الأرض لفترة من الزمن».

وهل هناك إدانة أشد لما حدث – ويحدث وسيحدث – أكثر من ذلك؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.