ها أنا أنتقل من رثاء لآخر، وكأن كل من حولي زائل، وكأني ما خُلقت إلا لأرثي!

منذ فترة وأنا مصاب برهاب السعادة «الشيروفوبيا»، وهي الحالة التي تجعلني لا أستطعم طعم الفرح في انتظار أحزان مجهولة لتلحق بركب سابقاتها. كنت على موعد حاولت أن أخلفه مع فاجعة ما، والآن تحققت النبوءة! فجعت في واحد من أهلي، فيك أنت أستاذنا، ولاؤنا لك كان أكبر من ولائنا لأهلينا، غرست فينا أن الأبوة ليست نسبًا فحسب، وإنما غرس قيم.

عزاؤنا الآن لكل من يُتّم بعد وفاتك، لطالما كنا نراك مصابًا بمتلازمة الإنسان والكاتب، لم نكن لنعد كل كاتب إنسان، ولم يكن كل إنسان عنده القدرة على الكتابة، ولم يحدث أن كان إنسان قادرًا على الكتابة مثلما كنت! لكنك حويت الاثنين تحت ذراعيك من غير تكلف ولا عناء.

متلازمة أخرى لحقت بك، متلازمة الطبيب والفنان، كنت تستنكر كيف لمن يواجه البشر يوميًا في أحلك ظروفهم ألا يكتب عنهم! كنت ترى أن مهنة الطب كفيلة بأن تفجر فيك ينابيع الإحساس، وأن ترزق منها حس الفنان، تفوقت على كل رواد تلك المتلازمة: «مصطفى محمود»، «علاء الأسواني»، «يوسف إدريس»، «محمد المنسي قنديل»، و«محمد المخزنجي». كنت متفردًا في كل شيء، حتى موتتك الأولى منذ سبع سنوات، وموتتك الثانية كذلك.

أبشر بخير، لن تدق لك الطبول ولن تنكس لك الأعلام ولن تشيعك مجموعة قنوات الحياة، كلنا نعلم أنك كان لا بد لك أن تمارس «التطبيل» في دنياك حتى يرد لك وقت جنازتك، لن تذكرك الدولة ولن يرثيك المثقفون، لطالما كنت واحدًا منا لا منهم، يكفيك حجم الأسى في قلب كل من بلغه خبر رحيلك، قراؤك مشيعوك، وكتاباتك صحائفك في الدنيا، وإنصافك أثقل ما تقابل به ربك.

كل ما هو تقليدي لطالما لم يبهرنا في شيء، لم نندهش لنتائج الانتخابات أول أمس، ولا بعيد الزعف، اندهشنا فقط لموتك! ظننا أنك ستكون معنا على الدوام، برواية أو مقال أو بتويتة يعاد تدويرها، لكنك منذ الأمس قد أخلفت الميعاد.

انتقلنا معك من «مجلة الشباب» إلى «بص وطل»، ثم من «التحرير» إلى «اليوم الجديد»، حتى حططت آخر رحالك في «إضاءات»، ورحلت وقد أضأت لنا بين المشرقين في كثير من عوالم الثقافة والكتابة المهجورة.

فقط تذكرت الليلة، أننا لن نجد بعدك من يقصّ علينا واقعنا الكئيب، ويزخرفه بالسخرية مثلما كنت تفعل.

كثيرًا ما شكوت وجع قلبك، لكنه مع ذلك نبضَ لنا «في ممر الفئران»، وتعلمنا منك الكتابة في «اللغز وراء السطور»، وسخرت من أوجاعنا في «زغازيغ» و«فقاقيع»، وطفت بنا عشرين سنة مع «رفعت إسماعيل» في «ما وراء الطبيعة»، ثم قصصت حرفيًا واقعنا المرير في «يوتوبيا»، وجعلتنا نحلق في «مثل إيكاروس»، وظللنا نبحث معك عن «عصام الشرقاوي» في «السنجة»، ثم رأيناك ترحل بلا وداع بعد تلك الرحلة المثمرة لعقولنا، المفجعة لقلوبنا، يوم علمنا أن مغامراتنا معك قد وقفت عند «شآبيب».. ها هي قابعة خلف رأسي لن أقرأها حتى أتوهم أن وحيك لا يزال باقيًا لم ينقطع.

بك كنا نتحمل عبث الحياة، ورياء المنافقين، ومواقفك سحبت ورقة التوت الأخيرة حول عورة المثقفين. لطالما كنت تهون علينا الكثير، وكان أهمها أن ولدنا مصريين. الآن لن نهتم فقد هان كل شيء، ولكن لم الآن تحديدًا؟ لعل الفتنة الآن أشد، والكل كان قد بدأ في السقوط، ولم يعد بالقلب متسع لمزيد من الخذلان، ثم إنها إرادة الله لنا ألا يمكن لنا أن نفجع في عظيم مثلك في حياته، فكانت الفاجعة الأصغر بموتك.

كلما طال وجودنا بمصر الآن، كلما وجعنا بفراق حبيب لم يرض عنها، ظللت تكتب عن مصر وأنت بداخلها، كنت تريدها أن تكون أفضل وأن يسيرها أكفأ أولادها. كان بقاؤك حولنا بريق أمل في الحملة القومية للنهوض بأي شيء، ذهبت وذهب الأمل معك، والله وحده أدرى متى يعود.

لم تكتب لنا يومًا عن فضل الذكر، أو عن فضل العمرة والحج، كان إسلامك نقيًا صفيًا بدون جدال ولا سطحية فارغة. كنت تفقه أكثر من أصحاب الجلباب، ولرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، كنت تمثل الإسلام الحضاري الذي كنا نرجوه، إسلام اتساق الأقوال مع الأفعال.

كنا نعدك الأمل الأخير في صراع الثقافات، كنا نرى فيك: اليساري من غير صراخ، الإسلامي من غير لحية، الليبرالي من غير إفراط، القومي من غير ادعاء، والإنسان قبل أي انتماء.

وفاتك كانت بمثابة إعلان نكسة جديدة لحياتنا، جاءت في أحلك أيامنا، ونحن ننتظر مستقبلًا لن نراه، وبشارات لن تتحقق، جيل الثمانينات تخرج من تحت عباءتك، كل من جاء بعدك إنما نفخت فيه من روحك فاقتبس منك ثم صرح أو أنكر بعدها، كنت تعلم حال جيل الثمانينات جيدًا، جيل لم ينتصر في معركة واحدة منذ أن دخل دنيا الوعي، كل إنجازاته مجموعة إخفاقات بجدارة، جيل قد بلغ فيه الهرم ما بلغ، عاينته قبل موتك، بلا هوية وبلا أمل، وبلا دافع للحياة، وأصبحت أسمى أمانيه الآن أن يلحق بك على خير.

«الشركة العربية الحديثة» و«الشروق» ارتبطا عندي بمؤلفاتك، كيف تطيب لنا أنفسنا أن ندخلهما بعد الآن؟ آخر كتابين قرأتهما، واحد كان من ترشيحك، والآخر كُتب في ناصية إهدائه شكرٌ خالصٌ لك، أين نهرب منك بعد الآن وقد عودتنا منك الأحسن فلم نعد نرى الحسن بعدك كافيًا؟

هذا الموقع صممه محب لك، حوى أغلب مقالاتك منذ عشر سنوات، ذاك العلم النافع الذي كنا ننتظره ومن بعده جيل صالح يدعو لك.

لا يزال اقتباسك محفورًا في وجداني:

طريق الضياع هو الطريق الوحيد الذي نعرفه، نخشى إن فقدناه ألا نجد طريقًا بعده نسلكه.

وكلنا الآن سالكو ذاك الطريق. سامحك الله يا صاحب رفعت إسماعيل وغفر الله لك.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.