حرائق مشتعلة في كل مكانٍ، ورائحة للموت وللخراب تزكَّم الأنوف. هكذا كان حال مدينة موسكو في أعقاب الغارة العنيفة التي شنَّها ضدها فرسان خانية تتار القِرم وحلفائهم العثمانيين عام 1571م، بعد أن فرَّ من وجه قواتهم الضاربة القيصر الروسي الشهير إيفان الرابع، الذي اشتُهر تاريخيًا بإيفان الرهيب، تاركًا عاصمة دولته لتواجه مصيرها المروّع، ليعود الغزاة أدراجهم إلى بلادهم وقد أشبعوا موسكو قتلًا وتخريبًا، وأسروا عشرات الآلاف من سكانها.

كانت تلك المرة الأولى التي تتعرض فيها موسكو لمثل هذا الدمار منذ ما يقارب قرنين من الزمن، وتحديدًا عام 1382م عندما اجتاحها تتار القبيلة الذهبية انتقامًا لهزيمتهم على يد الروس في موقعة كوليكوفو عام 1380م.

حملت غارة عام 1571م رمزية دموية ومعنوية هائلة في تاريخ الصراع الروسي- العثماني الطويل، ولا غرو أن حملت في المصادر التاريخية لقب «غزوة موسكو الكبرى»، ويذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في الجزء الأول من كتابه عن تاريخ الدولة العثمانية، أن تلك الغزوة قد أحدثت فارقًا جيوسياسيًا وتاريخيًا هائلًا، إذ أسهمت في انتهاء حقبة أسرة روريك في تاريخ روسيا القيصرية، وبداية عصر أسرة آل رومانوف في الربع الأول من القرن التالي، وسقوط روسيا في دوامة من الضعف والاضطراب ستستمر لما يقارب القرن، حتى يظهر قيصر روسي آخر بالغ الشهرة هو بطرس الأكبر، والذي يعتبر المؤسس الحقيقي لروسيا الإمبراطورية.

أهمية هذا الحدث الجليل دفعتنا إلى الإبحار إلى الوراء في نهر التاريخ عائدين إلى جذور تلك الوقائع.

خانية القرم ونشأة روسيا القيصرية

على مدار 300 عام، أسهم تتار القِرم في المجهود العسكري العثماني أكثر من غيرهم من العناصر غير التركية، وشكَّلت خدماتهم الكبرى للسلطان العثماني فصولًا استثنائية في تاريخ القارة الأوروبية
بريان ويليامز، في مقدمة كتابه غزاة السلطان: الدور العسكري لتتار القرم في الدولة العثمانية

ظهرت خانيّة القِرم على مسرح التاريخ الملتهب عام 1443م، لتكون هي الكيان السياسي الأبرز لتتار القرم، والذي سيصنع الحدث على مدار ثلاثة قرونٍ ونصف، في منطقة حافلةٍ بالصدام على أطراف دول وإمبراطورياتٍ كبرى. كانت خانية القرم هي الوريث التاريخي لدولة القبيلة الذهبية، إحدى أبرز الإمبراطوريات المغولية في التاريخ.

ظهر  التتار ذوو الجذور التركية، بقوة في الربع الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، إثر توحيدهم على يد خانهم الأكبر جنكيز خان الذي اجتاح معظم أجزاء آسيا الوسطى والغريية في غزواتٍ مدمرة، أكملَها أبناؤه وأحفاده، فتوسعوا في اتجاهاتٍ جديدة، حيث هيمنوا على أجزاء واسعة من روسيا وأوكرانيا الحاليتين بين عامي 1236 و1240م، بما فيها العاصمتان موسكو وكييف، ثم غزوا مناطق كبيرة من شرقي القارة الأوروبية.

عندما توفيَ جنكيز خان عام 1227م، قُسِّمَت دولته العظمي، أكبر إمبراطورية في التاريخ، والممتدة من شبه الجزيرة الكورية شرقًا إلى القوقاز غربًا، بينَ أبنائه، وكانت الأجزاء الغربية من إمبراطورية التتار، من نصيب القائد الطموح باطو خان حفيد جنكيز خان، وشكل كيانًا مستقلًّا هو دولة القبيلة الذهبية، والتي سيطرت على أجزاء مؤثرة من القوقاز وروسيا وأوكرانيا وأوروبا الشرقية لعقود طويلة.

تغير تاريخ القبيلة الذهبية كثيرًا باعتناق قائدها بركة خان- أخي باطو خان- الإسلام، وتحالفه مع سلطان دولة المماليك الظاهر بيبرس، ومعاداته لباقي التتار، لا سيَّما العدو المشترك للطرفين، دولة مغول فارس أو الدولة الإيلخانية.

ستصل قوة الدولة والثقافة الإسلامية في القبيلة الذهبية إلى ذروتها في عهد أوزبك خان (1313م-1341م)، لكنها لن تلبث أن تضعف تدريجيًا بعده، وتنتشر الصراعات السياسية، وتتعاظم القوى المحلية مثل دوقية موسكو الكبرى، والتي ستكون لاحقًا نواة دولة روسيا القيصرية الإمبراطورية. وأجهزت غزوات تيمورلنك المدمرة عام 1395م على ما بقي من قوة القبيلة الذهبية لتتفسَّخ دولتها في العقود التالية إلى دويلات أصغر عُرفَت بالخانيات، مثل خانيتيْ أستراخان وقازان في القوقاز، واللتيْن احتلَهما القيصر الروسي إيفان الرهيب عاميْ 1552 و1556م.

 أما خانية القرم التي بدأت في التشكل ككيانٍ مستقل عام 1443م، فقد صمدت أمام الروس طويلًا حتى عام 1783م، وكان كلمة السر في ذلك هو تحالفها مع الدولة العثمانية المتصاعدة في القوة آنذاك في عهد سلطانها الشهير محمد الفاتح (1451-1481م).

يذكر المؤرخ د. سهيل طقوش في كتابه: «تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة» أن خانية القرم في بدايتها كانت في غاية الضعف، فنجحت أساطيل جمهورية جنوة الإيطالية في احتلال موانئ القرم على البحر الأسود، بالأخص ميناءي أزوف وكافا لعقود، لكن في عام 1475م، أرسل محمد الفاتح أسطولًا عثمانيًا ضخمًا قوامه 470 سفينة، حرَّر موانئ القرم من الجنويين، وفرض الحماية العثمانية على خانية القرم بموجب اتفاقٍ شهير مع خان القرم منكلي كيراي خان الأول،  والذي سيُدعى له في خطبة الجمعة بعد السلطان، ويُنقش اسمه على العملة بجواره، كما زوّج منكلي ابنته من الأمير العثماني سليم ياوز، الذي سيصبح لاحقًا السلطان العثماني سليم الأول الشهير.

وبحسب المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية»، فقد ازدهرت قوتا خانية القرم السياسية والعسكرية تحت النفوذ العثماني، لتصل أقصى مساحة لها إلى ما يقارب مليون كم2، تضم أجزاء واسعة من أوكرانيا، والحوض الشرقي لنهر الفولجا في القوقاز، وحشدت في ذروة عنفوانها العسكري جيشًا ضخمًا يقترب من مائتي ألف مقاتل، بينهم عشرات الآلاف من الفرسان الأقوياء، والذي كثيرًا ما استعانت بهم الدولة العثمانية في معاركها الضارية ضد روسيا وضد القوى الأوروبية المختلفة.

أما روسيا القيصرية  فقد كانت التطور التاريخي لدوقية موسكو الكبرى والتي تحرَّرت شيئًا فشيئًا من عقودٍ طويلة من نفوذ تتار القبيلة الذهبية، وبدأت توسع نطاق سيطرتها تدريجيًا على ما جوارها. ويرجع قيام دولة روسيا القيصرية إلى عام 1547م على يد القيصر إيفان الرهيب، والذي نجح بأساليبه الدموية والقمع الوحشي في تعزيز سلطانه لأربعة عقود تالية، ونجح في تحقيق انتصارين كبيرين حاسمين ضد القوى الإسلامية باحتلاله خانيتي أستراخان وقازان، مما جعل أراضي دولته ملاصقة لأراضي خانية القرم.

اقرأ: معركة كييف 1941م .. عندما فقد الروس نصف مليون جندي

غزوة موسكو الكُبرى 1571م 

يذكر بريان ويليامز، أن العلاقة بين العثمانيين وخانية القرم من جانب، ودوقية موسكو الكبرى من الجانب الآخر، كانت في البداية ودية بقدرٍ كبير، لا سيما في عهد محمد الفاتح، لكن ساءت العلاقات تدريجيًا في القرن السادس عشر الميلادي مع الغزوات التوسعية التي شنَّتها روسيا القيصرية في القوقاز، مما استدعى التحرك العسكري المباشر ضد الروس، وتصاعدت الغارات المتبادلة بين تتار القرم والروس.

فيما يروي المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» أن الخليفة العثماني سليم الثاني قرّر عام 1569م شنَّ حملة عسكرية ضخمة بالتعاون مع خانية القرم، لانتزاع مدينة أستراخان الإستراتيجية التي احتلّها الروس قبل 13 عامًا، مع التخطيط لمشروعٍ طموح بالتوازي مع الحملة العسكرية، وذلك بشق قناةٍ طولها 50 كم تصل نهر الدون الذي يصب في البحر الأسود، بنهر الفولجا الذي ينتهي في بحر قزوين، وبذلك يصبح الإبحار بين البحرين ممكنًا، مما يعزز النفوذ العثماني والحركة التجارية في القوقاز وجواره (جدير بالذكر أن الاتحاد السوفيتي أنشأ تلك القناة بعد 4 قرون، عام 1952م)، وكذلك يسمح بالاتصال المباشر بين العثمانيين وحلفائهم الأوزبك في أواسط آسيا.

 

شارك في تلك الحملة أكثر من 28 ألف مقاتل عثماني، و30 ألفًا من تتار القرم، واصطحب الجيش أكثر من 30 ألف عامل شرعوا في حفر القناة، لكن فشلت الحملة في اختراق أسوار إستراخان الحصينة، فاضطر العثمانيون والتتار للانسحاب أواخر سبتمبر قبل حلول الشتاء القارس، وتعرض المنسحبون لخسائر كبيرة نتيجة غارات الروس وحلفائهم، وتوقف مشروع القناة في خطواته الأولى، وقوىَ موقف الروس أكثر في منطقة القوقاز.

ويلمَّح أوزتونا إلى أن تتار القرم لم يأخذوا الحملة بجدية كبيرة، وعملوا بشكلٍ غير مباشر على إفشالها، خوفًا من وجود عسكري عثماني كبير بالمنطقة يضعف استقلالية الخانية النسبية، كذلك لم يكن تتار القرم بارعين كالعثمانيين في معارك الحصار والحصون، فكانوا يفضلون الغارات السريعة بالفرسان، لأنها قليلة الكلفة، وعالية المكسب من الأسرى والغنائم.

بعد انتهاء شتاء عام 1571م، قرَّر خان القرم دولت قيراي شنَّ حملة عسكرية انتقامية ضد الروس، لكن كان هدفها مفاجئًا وجريئًا للغاية، فقد قرر التتار مباغتة موسكو عاصمة القيصر إيفان الرهيب. يذكر أزوتونا أن قوام الحملة بلغ أكثر من 120 ألف مقاتلٍ من التتار، معظمهم من الفرسان، تصاحبهم بعض الكتائب العثمانية، لا سيَّما المدفعية. توغَّل الجيش سريعًا عبر أراضي السهل الأوراسي الكبير، وصولًا إلى منطقة موسكو.

لم يتمكَّن الروس من تنظيم دفاعٍ عسكري فعَّال عن عاصمتهم، وخسروا أكثر من 8 آلاف من قواتهم في صدامٍ سريع خارج المدينة، ولجأ إيفان الرهيب إلى الفرار مع الجانب الأكبر من جيشه، حيث أيقن من عبثية الدفاع عن المدينة، ونجح تتار القرم في اجتياح المدينة التي تُركَت لمصائرها الدموية يوم 24 مايو 1571م.

أعمل التتار في موسكو القتل والسلب والنهب، وأشعلوا الحرائق المدمرة في معظم أرجائها، حتى قصر الكرملين الفارغ الذي كان يقيم فيه القيصر إيفان، واستمرَّت الحرائق لأيامٍ متواصلة، قبل أن ينسحب المغيرون من موسكو، وبصحبتهم عشرات الآلاف من الأسرى والسبايا، قدَّرتهم بعض المصادر بـ150 ألفًا. ثم شنَّ تتار القرم في العام التالي غاراتٍ جديدة ضد الروس، فأذعن إيفان للصلح معهم، مقابل أن يدفع جزية سنوية قدرها 60 ألف ليرة ذهبية، ظلَّ الروس يدفعونها لعقود.

انطلقت الاحتفالات في العاصمة العثمانية إستانبول، حيث كان كثيرون يشعرون بالامتعاض من استيلاء الروس على مناطق إسلامية في القوقاز مثل أستراخان وقازان، وارتكابهم المذابح بحق المسلمين هناك، فوجدوا في تدمير موسكو انتقامًا مستحقًا. وأرسل السلطان سليم الثاني رسالة تهنئة وسيفًا مرصَّعًا بالذهب تكريمًا لدولت قيراي خان القرم.

 ويذكر بريان ويليامز، أن غزوة موسكو الكبرى عام 1571م قد أضعفت قوة الروس في مواجهة خانية القرم والعثمانيين لعقود تالية، لم تتمكن فيها روسيا القيصرية من تشكيل أيَّ تهديد جدي لمناطق السيطرة العثمانية والتترية في أوكرانيا الحالية، حتى جاء عهد القيصر الروسي التوسعي الشهير بطرس الأكبر (1682 – 1725م)

كذلك ستكون تلك الغزوة فاتحة تعاون عسكري أوسع بين العثمانيين وخانية القرم، لا سيَّما في جبهات القوقاز الملاصقة لأرض الخانية، كما حدث في الحرب ضد الدولة الصفوية التي بدأت عام 1578م، وفي مواقع حربية أخرى على مدار القرنين التاليين.