حادثة جديدة أصابت العالم بالصدمة حين قال شهود إن اليونان أغرقت قارب مهاجرين غير شرعيين عمدًا. أشارت التقارير الأولية للمنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة لوجود ما بين 700 و750 مهاجرًا على متن ذلك القارب، من بينهم 40 طفلًا. تأكدت وفاة ما يقارب الـ 100 منهم حتى الآن، وتم إنقاذ قرابة 120 فردًا. لكن بالطبع يؤكد خفر السواحل اليوناني أن عمليات البحث والإنقاذ لن تستمر على مدى 24 ساعة، بل ستتوقف بمجرد حلول الظلام في المنطقة على أن تبدأ في الصباح التالي.

الحادثة مفجعة، لكن المفجع أنها ليست أكبر حادثة غرق تحدث بنفس السيناريو. بل إذا أردنا وضع ترتيب للحوادث فستكون تلك الحادثة المهولة في المرتبة الثانية، بعد حوادث عام 2015. في أواخر هذا العام انقلب قارب أيضًا، كان يحمل 20 مهاجرًا ما أدى لوفاة 9 في الحال. وقبله بأيام شهدت وفاة 4 مهاجرين بسيناريو مشابه. وسبقهم في نفس العام غرق 11 مهاجرًا بينهم 6 أطفال.

ونشرت حينها وسائل الإعلام التركية مقطعًا مصورًا لشخص، قالت تركيا إنه جندي بالبحرية اليونانية.  المقطع المصور أثار غضبًا عالميًّا، وبدأ العالم ينتبه إلى أنه من المحتمل أن تكون اليونان هي من تتعمد إغراق اللاجئين. خصوصًا أن معدلات غرق المهاجرين أمام سواحل اليونان يتجاوز أرقام المصادفة، بل ربما يدخل في القتل المتعمد للبشر.

مجلة دير شبيجل نشرت تقريرًا عام 2022 يتحدث عن أن الدولة التي تحاول جذب السياح بأجوائها ليست دولة مضيافة حين يتعلق الأمر باللاجئين. وأن السلطات اليونانية تتعامل بعنف مفرط عندما يتعلق الأمر بصد اللاجئين على حدودها البحرية، ومن يُفلت من الموت تحجزهم الشرطة اليونانية في أماكن اعتقال سرية، دون طعام أو مراحيض، ويتعرضون للضرب طوال فترة إقامتهم.

دخول اليونان لا يعني النجاة

تهدف اليونان من ذلك إلى منعهم من التقدم بطلبات رسمية للجوء. توحي الجملة السابقة أن من يحصل على اعتراف رسمي بأنه لاجئ يكون حاله أحسن من الآخرين، والواقع يؤكد أن ذلك غير صحيح. 27 منظمة حقوقية تُعنى بحقوق المهاجرين أرسلت خطابًا مفتوحًا للحكومة اليونانية تقول فيه إن 60% من سكان مخيمات اللاجئين لا تصلهم المساعدات التي يرسلها إليهم الاتحاد الأوروبي، سواء كانوا ممن رُفضت طلبات لجوئهم أو من اللاجئين المُعترف بهم رسميًّا.

حتى تقديم طلبات اللجوء جعلته اليونان أصعب. فحتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 كان تقديم طلب اللجوء يحدث عبر مكالمة عبر تطبيق سكايب مع موظف من إدارة الهجرة اليونانية. كان ترتيب المكالمة يحتاج لقرابة 14 شهرًا، لكنها قد تحدث في نهاية المطاف. لكن بعد التاريخ السابق صدر قانون جديد يُلغي الحديث عبر الفيديو. ويحصر تقديم طلب اللجوء عبر مركز واحد على الحدود التركية، يذهب إليه اللاجئ ويُقدم أوراقه الثبوتية هناك. والوصول لهذا المكان صعب، لدرجة الاستحالة.

هذا التعامل العنيف تمارسه اليونان مع القلة التي نجحت في عبور حدودها، والوصول لمراكز الإيواء. لكن تفكر اليونان دائمًا في الردع. لهذا عملت على تحصين حدودها بأسوار أعلى، وكاميرات مراقبة متطورة، وصد كل قوارب المهاجرين في البحر هو الأساس.

سياسة اليونان للردع باتت تعتمد على مجموعة أخرى من طالبي اللجوء اليائسين. فباتت تُكرههم على صد أقرانهم من طالبي اللجوء. فبعد أن يعبر المهاجرون نهر إفروس تقتادهم لمراكز الشرطة وتجرِّدهم من ملابسهم. ثم تختار بعضًا من المحتجزين وتعرض عليهم مذكرة شرطية تسمح لهم بالبقاء في اليونان لمدة شهر. المقابل سيكون قيامهم بنقل قوارب مطاطية مكدَّسة باللاجئين إلى أماكن بعيدة عن تركيا، كالنهر سريع الجريان.

استخدام المهاجرين لقتل بعضهم

لا تُقدم اليونان أي مقابل مادي لهؤلاء الأفراد. لكن تسمح لهم باختيار ما يريدون من متعلقات زملائهم المهاجرين. كما أن الأمر لا يقتصر طبعًا على قبول العرض، فإن رفضه قد يعني مزيدًا من الضرب والإهانة. بل يصل الأمر أحيانًا إلى السجن بتهمة الاتجار بالبشر.

أكثر من ستة أفراد، حتى عام 2022، من طالبي اللجوء قدَّموا شهادات مفصلة عن تلك النقطة. وقالوا إن الشرطة اليونانية كانت تعيدهم إلى الاحتجاز بعد كل عملية إعادة للمهاجرين. وكانت تُطلق عليهم العبيد، وتخبرهم أنهم يمرون في مرحلة العبودية، التي سينتقلون بعدها إلى الأمان.

تتعرض اليونان لإدانات دولية بسبب فعلها، لكن دون أن يؤثر ذلك على ما تفعله. ففي يوليو/ تموز عام 2022 أدانت المحكمة الأوروبية بالإجماع حكومة اليونان في مقتل 11 مهاجرًا، وألزمتها بدفع 330 ألف يورو كتعويض. بتهمة انتهاك المادة الثانية والثالثة من حقوق الإنسان التي تنص على حق كل إنسان في الحياة دون إخضاعه للتعذيب أو الإهانة. لكن لا تبالي اليونان بكل هذا، كل ما تريده هو إلقاء قوارب المهاجرين في المياه الإقليمية التركية فحسب.

الدليل على ذلك أن السلطات اليونانية حظرت لسنوات طويلة نشاط المؤسسات الإعلامية في بحر إيجة لأسباب أمنية. كما فرضت قيودًا شديدة على نشاط كل المنظمات المدنية غير الحكومية العاملة في قضايا المهاجرين. مؤكدةً أن تلك المنظمات تعمل في الاتجار بالبشر. لكن حين بدأت مقاطع الفيديو في التتابع من تلك المنطقة المظلمة، بدأت الحقيقة تتضح تباعًا.

أوروبا متورطة

تتعمد القوات اليونانية تعريض قوارب اللاجئين لموجات صناعية بهدف إغراقهم. كما تُطلق عليهم الرصاص لإحداث ثقوب كي تغرق. وبعد انقلاب القارب تبدأ القوات في إلقاء سترات النجاة لكن تُجبرهم عبر إطلاق الرصاص أن يستخدموا سترات النجاة والزوارق الصغيرة للسباحة نحو الشواطئ التركية. ومن يهرب نحو الشواطئ اليونانية يُوضع مرة أخرى على قارب ويُقذف في المياه من جديد.

هذه الجرأة اليونانية في التعامل تُلمح إلى احتمالية تورط أوروبا بأكلمها في هذه المسألة، حتى ولو بالصمت والتجاهل. لكن مكتب مكافحة الفساد التابعة للاتحاد الأوروبي فتح تحقيقًا يشمل الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل، المعروفة اختصارًا فرونتكس. التقارير المسربة أشارت لاشتراك أفراد القوة الأوروبية في تلك العمليات اللاإنسانية، باعتبارهم وسيطًا محايدًا يوحون للمهاجرين أنهم يسحبونهم لبر الأمان، ثم يسلِّمونهم لخفر السواحل اليوناني.

تلك التحقيقات أثبتت بالفعل تورط القوة الأوروبية في المسألة، فاستقال مديرها. وتم تجميد الدعم المالي الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي للحكومة اليونانية. لذلك لم يعد غريبًا أن يرفض المهاجرون تدخل خفر السواحل لإنقاذهم، خوفًا من ترحيلهم أو قتلهم غرقًا. ففي بيان سابق قال خفر السواحل اليوناني إن مجموعة من 56 مهاجرًا واجهوا مشاكل لهبوب رياح قوية كادت تودي بقاربهم، لكن المهاجرين أكدوا عبر اللاسلكي أنهم لن يقبلوا بأي تدخل من خفر السواحل اليوناني. تلك الحادثة تحديدًا وافق أبطالها على إنقاذهم من قبل حاملة نفط ترفع علم سنغافورة.

لقد فقدت اليونان ثقة المهاجرين، وأفقدتهم ثقتهم في الذين يتحدثون لسانهم أيضًا. لأن جيش الظل غالبًا ما يكون من المهاجرين السابقين، كما كشفت تحقيقات صحفية سابقة. فبات اللاجئون يفرُّون من رعب الحروب والفقر في بلدانهم إلى رعب البحر والقوارب المتهالكة، ثم يجدون أنفسهم على عتبات رعب من نوع جديد تمارسه اليونان عبر خفر سواحلها مباشرةً، أو عبر عدد من الملثمين.