بين كل أساطير كرة القدم الذين لم يحالفهم التوفيق للانضمام لقائمة الفائزين بالـ Ballon d’Or، يبقى غياب أندريس إنييستا عن تلك القائمة هو الغياب الأكثر ألمًا لمتابعي كرة القدم. عذرًا إنييستا.

«عُذرًا إنييستا».هكذا عنون «باسكال فيري» رئيس مجلة فرانس فوتبول ذائعة الصيت موضوعه الأسبوعي الذي يكتبه في المجلة الفرنسية حينها. ثم أتبع ذلك العنوان بتلك الكلمات المعبرة عن الرسام الإسباني «أندريس إنييستا». إنييستا الذي أعلن توقفه عن رسم لوحاته الفنية بنهاية هذا الموسم في أوروبا، لينطلق بعدها إلى شرق القارة الآسيوية وتحديدًا إلى اليابان؛ ليعلمهم الفن الذي طالما افتقدوه وحاولوا نقله إلى شعوبهم عن طريق إغراء العديد من عمالقة اللعبة حول العالم ولكنهم فشلوا، على الأقل حتى الآن.

فن الرسم بالكرة على لوحة خضراء بها 21 لاعبًا غيرك، ولكنك لا تراهم تقريبًا. أنت فقط تداعب الكرة لترسم تلك اللوحة التي أعددتها بذهنك قبل المباراة، ثم تقوم بوضع لمستك النهائية بإيصال أي من زملائك العشر إلى المرمى بسهولة ويُسر. سهولة قد يظن غيرك من اللاعبين أنها بالإمكان، ولكن حين يحاولون تقليدك يعجزون، فيدركون أن الأمر أشبه بالسهل الممتنع. يبدو أن محاولة اليابان لنقل ذلك الفن لأبنائها ستنجح هذه المرة!


بداية صعبة

لقد كان مجيئه إلى كتالونيا والتعايش في أكاديمية لاماسيا شيئًا بالغ الصعوبة. بعد ستة أشهر كان هناك مناقشة جادة بيننا وبين والديه عن مدى إمكانية استمراره في كتالونيا من عدمها.
«رودولفو بوريل» مدرب سابق في أكاديمية لاماسيا ببرشلونة.

هكذا عبّر رودولفو عن فترة الطفل أندريس إنييستا الأولية في لاماسيا. إنييستا الذي خرج من بطن أمه مبصرًا نور الحياة في يوم الأحد العاشر من مايو/آيار من عام 1984 في قرية صغيرة تسمى «فوينتيالبيا» بمقاطعة البسيط «Albacete» في جنوب إسبانيا. بعد ذلك بـ 12 عامًا التقطته أعين مدربي لاماسيا في دورة كرة قدم تُقام -حتى الآن- كل عام في شهر يونيو/حزيران للأطفال في إسبانيا لينتقل للعيش في إقليم كتالونيا. كانت الأمور صعبة على الطفل الإسباني في البداية لبُعده حوالى 500 كيلومتر عن أهله ومنزله وهو في سن صغيرة. لحظات فراق صاحبها الكثير من الدموع والألم كما وصفها والد إنييستا، ولكن كل شيء جرى على ما يرام بعد ستة أشهر فقط.

لقد كان طفلًا ذكيًا للغاية، أداؤه الدراسي كان جيدًا، وأداؤه في الملعب أيضًا أظهر عن إمكانيات لاعب سيكون له شأن عظيم في المستقبل.

تصريح «رودولفو بوريل» مدرب سابق في أكاديمية لاماسيا ببرشلونة.

منذ عام 1996 وحتى عام 2000 كان أندريس عنصرًا أساسيًا في فرق لاماسيا باختلاف فئاتها العمرية. وقبل أن يتم عامه السادس عشر في عام 2000 كان قد انضم إلى فريق برشلونة الرديف «Class B»، وهو نفس العام الذي أتى فيه البرغوث الأرجنتيني «ليونيل ميسي» هو وعائلته للعيش في كتالونيا.يقول «جوليم بالاغ» الصحفي بشبكة سكاي سبورت إن احتكاك ميسي وإنييستا لمدة لا تقل عن عام في فرق الشباب بلاماسيا واتباع نفس الأسلوب في نشأتهما ربما هو السبب الأكبر لما نراه اليوم من تفاهم وود بين الثنائي.

تصريح سابق للأرجنتيني «ليونيل ميسي».


مسيرة رائعة

في عام 2002 قرر المدرب الهولندي «لويس فان خال» منح قبلة الحياة لأندريس إنييستا بظهوره الأول أمام نادي كلوب بروج البلجيكي في دوري أبطال أوروبا. بعد ذلك بعام واحد أتى الهولندي الآخر «فرانك ريكارد» لقيادة زمام الأمور في معقل الكامب نو، واعتمد على إنييستا كأحد العناصر المهمة في فريقه،فاستعاد معه الليجا للإقليم الكتالوني في موسم 2004-2005 بعد غياب خمس سنوات، ثم نجح في حمل ذات الأذنين في باريس بعد الفوز على أرسنال الإنجليزي 2-1 لأول مرة في اسمها الجديد، بعد أن فاز بآخر نسخة للبطولة في ثوبها القديم عام 1992.

في أي فريق في العالم يأتي عام تحتاج فيه إلى تغيير الدماء في غرفة خلع الملابس، وقد كان موسم 2008-2009 هو هذا العام بالنسبة لبرشلونة. ميسي بدلًا من رونالدينهو، تشافي بدلًا من ديكو، ولكن إنييستا بقى كما هو. من هنا بدأ إنييستا في كتابة أسطورته الخاصة من وجهة نظري.

تصريحات «خوان لابورتا» رئيس نادي برشلونة منذ عام 2003 وحتى 2010.

في صيف 2008، كانت أول مباراة لبيب جوارديولا في الليجا مع فريق برشلونة. برشلونة يخسر بهدف دون مقابل من فريق نومانسيا المغمور. أسبوع آخر وبرشلونة يتعادل مع فريق ريسينج سانتاندير المغمور هو الآخر بهدف لمثله. أسبوعان لبرشلونة تحت قيادة بيب لم يحرز فيها الفريق إلا هدفًا يتيمًا. الصحافة الإسبانية لا تتوقف عن توجيه سهام الانتقادات لبيب ولاعبيه والجماهير قلقة بالطبع بشأن فريقها تحت قيادة المدرب الصغير الذي لم يحظ بخبرات إلا مع الفريق الرديف.

يقول بيب جوارديولا لصحيفة الجارديان إنه لم يتلق الدعم في تلك الآونة إلا من شخصين، أحدهما قام بتهدئة عاصفة انتقادات الرأي العام ضده، وهو أسطورة برشلونة الخالدة «يوهان كرويف» الذي دافع عنه في عموده الأسبوعي في صحيفة كتالونيا.

لقد رأيت برشلونة يلعب بشكل جيد جدًا. لا أعلم أي مباراة كنتم تشاهدون حتى توجهوا كل تلك الانتقادات للفريق. صحيح أن البداية رقميًا ليست على ما يرام، ولكن في كرة القدم هناك معطيات أهم من ذلك بكثير في البدايات. جوارديولا يرى الأمور بشكل مختلف، في كرة القدم أنت تحتاج لمدرب يرى الأمور بنظرة مختلفة. جوارديولا هو ذلك الشخص.
«يوهان كرويف» يدافع عن بداية بيب السيئة مع برشلونة.

أما الشخص الثاني الذي أخبرنا عنه جوارديولا في لقائه مع صحيفة الجارديان فكان أندريس إنييستا. يقول بيب إنه بعد هاتين المباراتين جاء له أندريس في مكتبه وطرق باب غرفته وقال له: «لا تقلق. أنت على الطريق الصحيح، نحن نلعب بشكل مختلف وسنفوز بجميع البطولات هذا الموسم إذا استمررنا بنفس الطريقة. أرجوك لا تغير شيئًا».

يكمل جوارديولا حديثه ويقول إن الرسالة كانت قصيرة، ولكنها أثرت فيه تلك الليلة بشكل كبير.. جعلتني أبكي وأدرك أن للكرة بُعدًا إنسانيًا آخر غير ذلك الذي أعرفه. في نهاية الموسم حقق برشلونة السداسية وصدقت نبوءة إنييستا ونسي الجميع بداية الموسم السيئة، ولكن جوارديولا لم ينس دعم كرويف، ولا رسالة الصامت إنييستا.


العام الأكثر ألـمًا

يقول الناس إننا -لاعبي كرة القدم- لا نعاني في حياتنا. لن أستطيع أن أنكر أننا محظوظون، ولكننا على الجانب الإنساني والاجتماعي نعاني مثل أغلب الناس، ببساطة لأننا بشر.
«أندريس إنييستا» في كتابه The Artist.

يقول إنييستا في كتابه The Artist إن أغلب الناس إذا سألتهم عن الموسم الأكثر سعادة بالنسبة له في مسيرته مع كرة القدم فسيخبرونك بالتأكيد أنه موسم 2009-2010. فالفوز بدوري أبطال أوروبا وكأس العالم في عام واحد بالطبع هو الحلم الأغلى للاعب كرة القدم، ولكن مع ذلك كان هذا الموسم هو الأكثر ألمًا للرسام الإسباني. ففي نهائي روما أمام مانشستر يونايتد لعب إنييستا المباراة وهو يعاني من بعض الآلام في وجه القدم، استمرت معه لفترة ليست بالقليلة بعد المباراة. لكن لم تكن تلك الآلام هي سبب حزنه الوحيد في هذا الموسم!

8 أغسطس/آب 2009

يدخل «كارلوس بويول» على فريق برشلونة في غرفة المحاضرات ليخبرهم بوفاة لاعب فريق إسبانيول وصديق إنييستا «داني كارخي» نتيجة أزمة قلبية مفاجئة. استقبل إنييستا الخبر بذهول تام، وبدأ في فقد تركيزه ودمعت عيناه، فأخبره بيب جوارديولا بإمكانية مغادرته المران والراحة إن أراد ذلك، ولكنه أكمل المران.

مرّ إنييستا بعد تلك الفترة بحالة من الحزن جعلته غير قادر على الشعور بالسعادة في حياته لفترة طويلة.يصف إنييستا تلك الفترة بأنها لم تكن اكتئابًا صريحًا ولا حتى مرضًا عضويًا، ولكنه كان شعورًا غريبًا بعد الراحة. لم يشعر يومًا برغبة في التوقف عن لعب كرة القدم، ولكنها لم تعطه نفس النشوة التي عودته عليها.

11 يوليو/تموز 2010

عندما تكون الأمور معقدة في الملعب فقط أحتاج إلى شيء واحد، أن يكون إنييستا بجانبي.

الدقيقة 116 على ملعب سوكر سيتي بجوهانسبرج في جنوب أفريقيا. النتيجة تشير إلى التعادل السلبي بين المنتخب الهولندي ونظيره الإسباني، الكرة تأتي إلى أندريس فيحاول ترويضها ثم ينتظر صعودها وهبوطها وفقًا لقانون نيوتن للسقوط الحر –وفقًا لتعبيره– ليضربها في اللحظة المناسبة. ينفجر الملعب بالاحتفال من جماهير إسبانيا بل ينفجر العالم متأثرًا بهدف أندريس، لكنه كان في تلك اللحظة لا يفكر في فرحة جماهيره ولا زملائه ولا شعبه. فقط قام بخلع قميصه ليظهر قميصه الداخلي المكتوب عليه: «داني كارخي، أنت دائمًا معنا».

ثمانية ألقاب لليجا وأربعة لدوري الأبطال وهدف لن يمحى من الذاكرة تُوجت به إسبانيا بكأس العالم، ورغم كل هذه الإنجازات لا تتحدث الناس عن أرقامه وبطولاته، فقط يتحدثون عن بساطته وسهولة تمريراته التي يعجز غيره عن مجاراتها! كرة القدم حزينة بالطبع منذ أن أعلن أندريس إنييستا نهاية مشواره مع برشلونة بنهاية الموسم.