أهلًا بكم في الأرجنتين. الساعة الآن الرابعة عصرًا بتوقيت العاصمة بوينس آريس. يستعد «بابلو»، «ريكاردو»، و«تياجو» للقيام بأدوارهم قبل سويعات من الحدث الذي تنتظره القارة اللاتينية بأسرها. كان الثلاثي يعلم مدى أهمية الحدث، لكن لم يكن أحدهم يتخيل أنهم سيكونون أبطاله، وسيتابع أخبارهم عشرات الآلاف حول العالم.بابلو هو بابلو بيريز، قائد فريق بوكا جونيورز ذائع الصيت. أما ريكاردو فهو صحفي مصور يعمل في أشهر صحف الأرجنتين: كلارين. وأخيرًا تياجو وهو شرطي يخدم بقوات مكافحة الشغب. ثلاثة أشخاص مختلفين تمامًا، ما يجمعهم الليلة هو وجهتهم فقط، وهي ملعب مونومنتال حيث ستقام مباراة عودة النهائي التاريخي بين العدوين اللدودين: ريفر بليت وبوكا جونيورز. في الطريق للملعب، سيطر التوتر على الأجواء داخل حافلة بوكا. يمكن لبابلو سماع نبضات قلب زملائه. كان يدرك صعوبة الأمر بعد انتهاء مباراة الذهاب بالتعادل في البومبونيرا، لكنه لم يفقد بعد الأمل. في الواقع لا يملك رفاهية أن يفقد الأمل، لأن خسارة لقب بأهمية الليبرتادوريس أمام الخصم الأزلي هي العار، وكل العار.في تلك الأثناء، كان تياجو يتخذ موقعه في صفوف القوات التي ستؤمّن الطريق لحافلة بوكا. يقف خلفه حشود من جمهور ريفر التي تنتظر الحافلة في تحفظ وعدائية. مهمة تياجو هي عرقلة تلك الوحوش المفترسة من الفتك بخصومهم. على بعد أمتار منه، نجح ريكاردو في الوصول لمقدمة الصفوف حاملًا الكاميرا. كان يعلم أن العنف ليس خيارًا مستبعدًا الليلة، فاتخذ احتياطاته وارتدى خوذة وواقي رصاص. تقترب الحافلة أكثر، فيزداد الاندفاع الجماهيري وتعلو الصيحات. وفي لحظة مرورها، يتفاجأ ريكاردو بالجماهير وهي تشتبك مع تياجو، ثم تخترق الحاجز الأمني متجهين نحو حافلة الضيوف. يصعق ريكاردو قبل أن يلاحظ صخرة تطير فوق رأسه وترتطم بزجاج الحافلة لتكسره، ثم يظهر من خلف الزجاج بابلو متألمًا وهو يمسك بجبينه. يركض ريكاردو وسط الفوضي التي ضربت المكان. يقوم بالاتصال بمكتبه في الجريدة. يرد أحدهم، لينطلق ريكاردو: «اسمع! لقد تعرضت الحافلة للهجوم، سأرسل لكم الصور حالًا. العنوان؟ الحرب قد بدأت.. أهلًا بكم في الأرجنتين»


نهائي ولا كل النهائيات

ما قرأته لتوّك ليس مشهدًا هوليوديًا من أحد الأفلام الأمريكية، بل هو الواقع الذي عاشته الأرجنتين، أمس، على خلفية نهائي كوبا ليبرتادوريس، وإن كنت تقرأ ذلك الاسم للمرة الأولى، فدعني أخبرك أنه اسم أهم بطولة قارية بأمريكا الجنوبية، وهي البطولة اللاتينية التي توازي التشامبيونزليج ودوري أبطال أفريقيا. لكن نهائي ليبرتادوريس هذه المرة مختلف عن أي مرة أخرى، بل ليس من المبالغة وصفه بالنهائي التاريخي الذي ستذكر تفاصيله أجيال قادمة من الأرجنتينيين، والسبب في ذلك أنه يجمع للمرة الأولى الأخوة الأعداء: بوكا جونيورز، وريفر بليت. تخيّل نهائي تشامبيونزليج يجمع بين برشلونة وريال مدريد، أو مانشستر يونايتد وليفربول. ثم حاول تصوّر كيف ستكون القاهرة لو أن نهائي الكاف هذا العام بين الأهلي والزمالك، أو الرباط لو تنافس الوداد والرجاء على زعامة القارة. لكن دعني أؤكد لك أن أيًا من تلك النهائيات لن تحظى بمثل الأجواء العدائية والرغبة الجامحة في تحطيم الخصم داخل وخارج الملعب كما يحظى نهائي ليبارتادوريس هذا العام!


كيف بدأت الحرب؟

كنت أقود السيارة نحو منطقة حرب وليست مباراة كرة قدم.
تصريحسائق حافلة فريق بوكا جونيورز

انتهت مباراة الذهاب التي أقيمت على ملعب بوكا بتعادل الفريقين. وكان من المقرر أن تقام العودة، أمس، على ملعب ريفر الذي امتلأ بـ 70 ألفًا من جمهوره قبل 3 ساعات كاملة من موعده. لكن خارج الملعب، نشبت المعركة التي كان يخشى الجميع وقوعها بالرغم من كل الاستعدادات التي اتخذتها الشرطة عبر الأيام الماضية. يقول موقع Goal إن بمجرد اقتراب حافلة بوكا من حيز ملعب المونومنتال قامت أعداد من جمهور ريفر باستهدافها بإلقاء الطوب والزجاجات، وتوجيه الشماريخ. وهو ما أدى لكسر نوافذ الحافلة، وإصابة لاعبي بوكا جونيورز: باولو بيريز، وليوناردو باليردي بجروح بأعلى العين. كما خرجت الحشود الحاضرة عن السيطرة فلجأت الشرطة لاستخدام الغاز المسيّل للدموع وهو ما تسرب لداخل الحافلة وأصاب عددًا آخر من اللاعبين بالدوار والسعال الشديد. هذا الغاز لم يصب اللاعبين فقط، إذ تؤكد صحيفة الجارديان أن سائق الحافلة قد تعرض هو الأخر للإغماء، وكادت الحافلة تصطدم بإحدى البنايات أو تدهس الجمهور الذي يركض في فوضى عارمة، لولا أن تمكن أحد الإداريين من توجيه الحافلة نحو منطقة آمنة داخل الملعب.

لم ينته الأمر عند هذا الحد. فبينما انتقل باولو وليوناردو للعلاج بالمستشفى، وانتشرت فيديوهات لحالة الإعياء التي عانى منها لاعبو بوكا، كانت الاشتباكات تتصاعد بين الجمهور والشرطة خارج الملعب وتنتقل رويدًا رويدًا لداخله، حتى انتشر مقطع لرئيس نادي ريفربليت «رودلفو دونفوريو» داخل المونومنتال وهو يقطع حديثه للإعلام ويهم بالركض مذعورًا بعد سماع دوي رصاص. تحولت المباراة الحلم إلى كابوس. وانتظر الجميع أن يعلن اتحاد الكرة اللاتيني إلغاء المباراة. لكن المفاجأة كانت إعلان التأجيل أكثر من مرة. وقد خرجت أنباء تفيد أن رئيس الفيفا «جياني إنفانتينو» حريص على إقامة المباراة الليلة، وقد نقل تلك الرغبة للاتحادين الأمريكي والأرجنتيني اللذين أعلنا جاهزية كل اللاعبين الصحية والبدنية لخوض اللقاء.وهنا بدأت الشكوك تحوم حول الموقف الرسمي للاتحاد الأمريكي، خصوصًا بعد تهديد رئيس بوكا بالعقوبات لو أصر على عدم خوض اللقاء، حتى خرج مهاجم بوكا «كارلوس تيفيز» وأكد للصحافة أنهم يتعرضون لضغوطات من جانب الاتحاد لخوض اللقاء، وأشار إلى أن زملائه يعانون من الذعر وضيق التنفس نتيجة كل ما حدث، وأكد أنه لا هم ولا لاعبو ريفر يريدون خوض تلك المباراة.انتشرت تلك الأخبار كالنار في الهشيم، وبدأت أصابع الاتهام توجه صوب الاتحاد الأمريكي الذي لم يجد أمامه سوى إعلان تأجيل المباراة 24 ساعة لتقام مساء الأحد 25 نوفمبر/تشرين الثاني. وقبل أن تغرب شمس الأحد، أعلن عن تأجيل المباراة مرة أخرى لأجل غير مسمى. هل يمتلك الحاج «عامر حسين» جنسية الأرجنتين؟


دجاج وخنازير وأكاذيب

تصريح للصحفي خوان ساستوريان

لابد أن أخبارًا من عينة أن 88 حكمًا اعتذروا عن إدارة اللقاء، و الصحفي الذي تم قتله لأنه اقترح إلغاء المباراة والمافيا التي هددت الاتحاد الأرجنتيني، قد مرت عليك أثناء تجولك على تويتر. هذه الأخبار مثيرة فعلًا، لكنها تفتقد لشيء واحد فقط، وهي أنها ليست حقيقية. هي مجرد خرافات وأكاذيب يتداولها الجمهور عن الديربي الأكثر سخونة حول العالم.في عام 2016، صنفت مجلة fourfourtwo السوبر كلاسيكو الأرجنتيني كأكبر وأخطر ديربي على كوكب الأرض. وقد استندت المجلة الإنجليزية على تاريخ حافل من المشاحنات بين الفريقين داخل وخارج الملعب، مشاحنات بدأت مع عدد خرافي من الكروت الحمراء، ولم تتوقف مع إحراق منازل مشجعي الخصم. ولكي نفهم السبب الفعلي في تلك العداوة، علينا أن نعود إلى لحظة تأسيس الناديين قبل أكثر من مائة عام. ففي عام 1901 تم تأسيس ريفربليت نتيجة لاندماج ناديين معًا، وقد أُسس ريفربليت بحي «لا بوكا» المطل على البحر. كان أكثر أعضائه من أبناء الطبقة الوسطى والعليا. وفي عام 1908 صعد النادي لدوري الدرجة الأولى الأرجنتيني. وبينما مرت السنون، اكتشفت الإدارة أن لا بوكا ليست المكان الذي يعبر عنهم فقاموا بنقل مقر النادي لحي «نونيز» واستقروا هناك. وقد أدي ذلك لخروج نادي بوكا جونيورز للنور عام 1905. كان أكثر أعضائه من أبناء الطبقة العاملة وتحديدًا في مرفأ بوكا، حتى أن أحد العاملين هناك اختار ألوان الفريق الأزرق والأصفر بعد أن أعجب بعلم دولة السويد الذي كانت تحمله إحدى السفن. وقد صعد بوكا للدرجة الأولى عام 1913، لتبدأ منذ ذلك التاريخ المواجهة المستعرة.هذا الاختلاف الطبقي بين مؤسسي الناديين انعكس علي كل شيء، بداية من نمط إدارة النادي وحتى أسلوب اللعب. فمؤسسو بوكا عاملون، لا يمتلكون رفاهية عقد الصفقات الكبيرة، إنما يعتمدون على أبناء مدينتهم فقط، ويلعبون بقوة وندية وكأنهم يكافحون ضد التهميش الذي يعانون منه في الخارج. أما في ريفر فهناك ملّاك ومستثمرون، يعقدون الصفقات ويستقطبون المواهب بأي كلفة، وقد تعاقدوا مع المهاجم «برنابي فيريرا» عام 1932 ليكون أغلى صفقة بالعالم آنذاك قبل أن يحصد لهم عديد الألقاب. كما أنهم لا يعانون من مشاكل كبيرة خارج الملعب، لذا يفضلون لعب الكرة الجمالية الممتعة أكثر عن تلك التي تتسم بالقوة والحماس. ويتجلى العداء الذي تراكم بمرور العقود في الألقاب التي يطلقها كل جمهور على خصمه. جمهور بوكا أطلق على ريفر لقب الدجاج، في إشارة للجبن والهشاشة، وقد اشتهر هذا اللقب بعد خسارة الفريق لكأس ليبارتادوريس عام 1966. وقد تحصل تيفيز في ديربي 2004 على كارت أحمر عقب تسجيله هدفًا بشباك ريفر واحتفاله برقصة الدجاج. أما جمهور ريفر فلم يقف مكتوف الأيدي وأطلق على المعسكر الآخر لقب الخنازير، في إشارة للذوق المنحدر، وخلال ديربي 2012 رفعوا بالونًا عملاقًا على شكل خنزير يرتدي ألوان بوكا جونيورز.في ظل هكذا أجواء، وجدت السلطات أن وجود الجمهورين في ملعب واحد سيؤدي يومًا ما لكارثة. فقررت في 2013 منع كل جمهور من دخول ملعب الآخر، لذلك لن تجد في البومبونيرا أثرًا لألوان الأبيض والأحمر، وكذلك في المونومنتال محرم وجود الأصفر والأزرق.


وجه جميل وآخر قبيح

في الأرجنتين لا يمكنك أن تكون على الحياد. إما أن تكون مع بوكا، أو مع ريفر.

كرة القدم لعبة تنافسية، هناك دومًا طرف يسعى لهزيمة الآخر. ينحاز الجمهور لأحدهما نتيجة لأسباب مختلفة، ولا يتمثل ذلك الانحياز في شيء بقدر التواجد في المدرجات بهدف تشجيع الفريق والضغط على الخصم لتشتيت تركيزه. والسوبر كلاسيكو هو أقوى من يعبر عن ذلك المعنى.كما أفادت تلك المواجهة الحامية الكرة الأرجنتينية كثيرًا، إذ كان على كل فريق رعاية أفضل مواهبه لتحقيق الانتصار على الآخر، فقدم لنا بوكا «مارادونا، ريكيلمي، باتيستوتا، تيفيز»، أما ريفر فقد ارتدى قميصه «إيمار، أورتيجا، كريسبو، ماسكيرانو». كل هؤلاء النجوم مثلوا منتخب التانجو وقدموا تجارب رائعة في ملاعب أوروبا. أضف لذلك البعد السياحي والاقتصادي الذي أضافه الديربي، فهناك مئات الرحلات التي تقصد الأرجنتين سنويًا بهدف مشاهدة بوكا وريفر.لكن للديربي وجهًا آخر غير ذلك الوجه الجميل، ففي كثير من الأحيان يتحول الانتماء لرغبة غير مبررة في أذية الخصم الآخر، وتتزايد أحداث العنف التي قد تتسبب في مقتل الناس بلا أي داعٍ. وهنا ينبغي التساؤل؛ ماذا كان سيجني أحدهم إذا فقد أحد لاعبي بوكا عينيه؟