جائحة وباء كورونا جعلت العالم في وضع حرج، الشعوب متحفزة والحكومات تخشى السقوط إذا لم تكن على قدر الأزمة، لكن في بعض الدول استطاعت حكومات أخرى أن تقتنص الأزمة سياسيًا لتستمر إلى الأبد. حدث الأمر سابقًا في إثيوبيا، ومنذ أيام شهدت غينيا الاستراتيجية نفسها.

كان من المقرر أن تشهد البلاد انتخابات تشريعية تحدث بالتوازي مع استفتاء على دستور جديد. الدستور الجديد كان الهدف منه السماح للرئيس الغيني ألفا كوندي بالترشح لولاية ثالثة في نهايات عام 2020، لكن تم تأجيل هذا الاستفتاء عدة مرات بسبب الاحتجاجات الشعبية الغاضبة والرافضة للتمديد للرئيس البالغ 82 عامًا.

لم يقابل كوندي تلك الاحتجاجات بالتجاهل أو التخوين، بل كان أول ما لجأ إليه هو الرصاص. 40 متظاهرًا سقطوا برصاص الشرطة، المئات الأخرى أعتقلت، أما العشرات من قادة المعارضة فوضعوا رهن الإقامة الجبرية. وتحت الضغط الداخلي وما رافقه من ضغط من الجهات الدولية تراجع كوندي عن هذا المشروع. لكنّه أجرى الانتخابات في قلب أزمة الوباء مستغلًا خوف المعارضة من التظاهر حفاظًا على صحة المواطنين، ومستغلًا أيضًا انشغال الجهات الدولية بمجابهة أزمتها الخاصة مع الوباء.

الانتخابات المتعجلة التي أجراها كوندي أسفرت عن إقرار مشروع الدستور الجديد بنسبة 90% من الناخبين، من أصل نسبة مشاركة بلغت 60%، والنسبتان محل جدل كبير حتى الآن. الدستور الجديد لن يمنح كوندي ولاية ثالثة فحسب، بل احتمالية ولاية رابعة كذلك، كما أضاف الدستور الجديد سنةً إضافية لمدة الحكم فأصبحت 6 سنوات بدلًا من 6.

سنبدأ العد من الصفر

الدستور الجديد سيلغي احتساب الولايات الرئاسية التي سبقته، وهو ما يتوافق مع شخصية كوندي الذي كثيرًا ما صرّح بأنه لا يرى منطقًا في تحديد عدد الولايات الرئاسية في أفريقيا، وأنه يجب أن تبقى تلك المدد مفتوحةً طالما ظل الرئيس على قيد الحياة، وظل راغبًا في تولي السلطة.

الغريب في الأمر أن كوندي الرئيس لا يمت بصلة لكوندي المعارض التاريخي، المعارض الذي قاتل لأجل حرية بلاده، وطالب بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فكان عقابه السجن والنفي، وتقبل كوندي ذلك الثمن راضيًا حتى عاد لبلاده لاحقًا بطلًا محمولًا على الأعناق.

درس كوندي في العاصمة، لكنه آثر المغادرة نحو فرنسا ليدرس في مدارسها الثانوية. ساعدت علاقات والده مع النحبة الفرنسية في تسهيل ذلك الأمر، وحصل على الثانوية من أرقى ثانويات فرنسا. ثم انتقل إلى جامعة السوربون وحصل على بكالوريوس علم الاجتماع منها. ولاحقًا حصل على دكتوراه في القانون العام من كلية الحقوق في جامعة باريس. وعمل فيها أستاذًا جامعيًا.

لكن أحوال بلاده المتردية دفعته للدخول في المعترك السياسي فأسس الحركة الوطنية الديمقراطية للتغيير. حركة ذات توجه يساري تحاول سرًا إحداث تغيير سياسي في غينيا. بعد عدة سنوات خرجت الحركة للنور، وتحولت لحزب سياسي كثيرًا ما تغيّر اسمه.

 ودخل كوندي أول منافسة انتخابية عام 1993 ضد الجنرال لانستا كونتي، وفاز الجنرال بانتخابات مزورة. وبعد 5 أعوام أعاد كوندي الكرّة ودخل الانتخابات ضد الجنرال، لكن هذه المرة كان صبر الجنرال قد نفد، فزّج به في السجن، وفاز الجنرال بأغلبية ساحقة. ولبث كوندي في سجنه 20 شهرًا بلا تهمة أو مجاكمة، وتحت الضغط الدولي اضطرت السلطة لتقديمة لمحاكمة صورية استمرت حتى آخر عام 2000، وفي نهايتها حُكم عليه بالسجن 5 سنوات.

من التنمية للديكتاتورية

قضى من السنوات الخمس عامين، ثم حصل على عفو رئاسي شريطة أن يسافر إلى فرنسا كمنفى اختياري. لكنه عاد لبلاده عام 2005 وواصل كفاحه ضد الديكتاتور، وبعد 3 أعوام توفى الجنرال وأمسك الجيش بالسلطة. 3 سنوات مرات والجيش متمسك بالسلطة لا يبدو أنه سيفارقها، فحشد كوندي الشعب على مواجهة المجلس العسكري ومطالبته بترك السلطة.

لم يوافق الجيش على مطلب الشعب، وشهدت غينيا مجازر جماعية عام 2009، ففي إحداها فتح المسلحون النيران على الجماهير المحتشدة في ملعب كوناكري. لكن بعد شهور إضافية وافق المجلس العسكري على الانتخابات، فوصل كوندي للسلطة بانتخابات حرة وشفافة. ويُعد هو أول رئيس منتخب لتلك المستعمرة الفرنسية التي عانت من الاحتلال ثم من الحكم الاستبدادي الديكتاتوري حتى عام 2010.

 وفاز كوندي بانتخابات أقل شفافية عام 2015 بولاية ثانية وأخيرة، لكن كانت نسبة الأصوات منطقية فحصل على 57% من الأصوات، بينما حصل معارضه الأبرز على 31% من الأصوات. الفوز بالولاية الثانية كان منطقيًا، فقد عمل كوندي على تحقيق نهضة حقيقية شهدتها البلاد ولم ينكرها أحد.

 لذلك لم تستطع المعارضة أن تطعن في العملية الانتخابية، لكنها لفتت النظر إلى أن كوندي استخدم القمع والفساد للحصول على تلك النسبة. وكشفت عن تحويلات مالية كبيرة للمفكرين والمؤثرين كي يدعموا ولاية كوندي الثانية، ثم الثالثة. الولاية الثالثة التي حصل عليها كوندي رغم أنف الجميع في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2020، ولمدة 6 سنوات جديدة.

فرنسي أسود البشرة

لكن لم يكد كوندي يُتم عامه الأول في الولاية الثالثة فعليًا، والأولى دستوريًا، حتى داهمه مامادي دومبويا بالانقلاب. الخبر نشرته وسائل الإعلام الفرنسية قبل أن تنقله الوسائل الغينية. دومبويا قال في كلمات مقتضبة إن كوندي بحوزته وأنه آمن، وأضاف أن الجيش بأكمله يدعم ما حدث، وأن الجميع جاء للعاصمة للمساهمة في بناء الدولة الجديدة.

دومبويا غيني الجنسبة، فرنسي الهوى والتعليم والتدريب. فكافة عقائده العسكرية استقاها من التدريبات مع الجيش الفرنسي، وهو بالفعل خريج المدرسة العسكرية في باريس. وطوال 15 عامًا عمل دومبويا مع الجيش الفرنسي في كوت ديفوار وجيبوتي وأفغانستان وغيرها.

كذلك سافر الرجل إلى إسرائيل والجابون والسنغال لتلقى تدريبات خاصة على نفقة الحكومة الفرنسية بوصفه خبيرًا في إدارة الدفاع والقيادة الاستراتيجية. وإضافة للتزاوج مع فرنسا عسكريًا، فقد تزوج منهم دومبويا، وزوجته تعمل في قوات الدرك الفرنسية، وله منها 3 أبناء يحملون الجنسية الفرنسية.

  كما كان عضوًا في الفيلق الأجنبي الفرنسي، قبل أن يُستدعى إلى غينيا. كوندي هو من استدعاه ليسلمه قيادة قوات النخبة عام 2018، تلك القوات شكلّها كوندي حديثًا لتختص بحمايته ولتكون تحت إدارته المباشرة.

لا يمكن وصف الانقلاب بالمفاجئ، فقد استطاع دومبويا تمريره من أمام كوندي دون أن يدرك الأخير أن رفيقه يخطط لانقلاب. فأول ما فعله دومبويا مع قوات النخبة بأن طالب بجعلها مستقلة عن وزارة الدفاع، رفضت الحكومة هذا الأمر، وثارت الأجهزة الإعلامية ضده، لكن كوندي لم يتدخل.  وانتشرت إشاعات في مايو/ آيار 2021 باحتمالية اعتقال دمبويا في العاصمة، لكن لم يحدث شيء. كذلك حرص دمبويا أن يكون مقر قوات النخبة، ونقطة تمركزها الأساسية، في مدخل منطقة كالوم حيث مقر القصر الرئاسي.

من تاريخ دمبويا يبدو أن الانقلاب قد صنع في فرنسا، لهذا سارع الروس إلى استنكار ما حدث، مطالبين بالعودة إلى القواعد الدستورية في أقرب وقت. كذلك ترفض الهيئات الإفريقية هذا الانقلاب، لكن لا يبدو أن دمبويا مبالي بتلك الانتقادات وأعلن أنه ماض في تشكيل حكومته الجديدة، ولن يلاحق أعضاء النظام السابق، سوف يتعلم من أخطاء السابقين، رغم أنه اسمه شخصيًا على قوائم الأمم المتحدة للإرهاب بسبب ارتكابه لجرائم ضد الإنسانية في العامين الماضيين.