ربما سمع كثير منا بقصة الفتاة الهولندية اليهودية «آن فرانك» (1929- 1945)، التي اضطرت هي وأسرتها إلى الاختباء من السلطات النازية، وانتهى الأمر بالقبض عليها، وترحيلها هي وأختها إلى معسكر «برجن بلسن». الشائع أن هذه الفتاة كتبت مذكراتها أثناء فترة الاختباء، في إطار مسابقة أعلنت عنها الإذاعة الهولندية، وعثر على المذكرات شخص ما في المعسكر بعد مماتها، ثم نُشرت بعد الحرب العالمية الثانية تحت عنوان «يوميات آن فرانك».لكن من منا سمع عن «ستلا»؟ ربما لم يسمع بقصتها أحد، ولذا سأعقد هنا مقارنة بين أيقونة الهولوكوست الشهيرة آن فرانك، وأيقونة الهولوكوست المنسية ستلا؛ حتى أكشف عن دور الحكي في كتابة التاريخ وإعادة كتابته، ومن ثم إمكانية تغيير الخرائط الإدراكية القائمة.

ترسخت صورة آن فرانك في الخريطة الإدراكية الغربية باعتبارها أعظم مثال، وأكبر دليل على اضطهاد النازيين لليهود في أوروبا بأسرها.

تتسم «يوميات آن فرانك» بحبكة سردية لا بأس بها، وتكشف عن معاناة آن فرانك وأفراد أسرتها في أثناء فترة الاختباء، علاوة على المعاناة العامة التي تعرضت لها الجماعات اليهودية بسبب قوانين الإقصاء النازية، ويتمركز السرد حول لحظات تبوح فيها آن فرانك بكثير من مشاعرها نحو أمها وأبيها، إضافة إلى حديثها المتناثر عن بداية شعورها بجسدها، والتغيرات البيولوجية التي طرأت عليها في فترة المراهقة، وبعض التفاصيل الجنسية التي قد تثير فضول المراهقين والمراهقات.بعد نشر هذه المذكرات صارت آن فرانك بملامحها الفاتنة وصورها الساحرة أيقونة الهولوكوست، وبرهانًا على وحشية ألمانيا النازية وما اقترفته من جرائم بحق الجماعات اليهودية البريئة الجميلة الطاهرة، وهكذا ترسخت صورة آن فرانك في الخريطة الإدراكية الغربية باعتبارها أعظم مثال، وأكبر دليل على اضطهاد النازيين لليهود في أوروبا بأسرها.لكن مع مرور الوقت تعرضت هذه الخريطة الإدراكية لبعض الاهتزاز في مراحل مختلفة، ثارت خلالها شكوك حول أصل اليوميات المنشورة، وقيل إنها ليست من تأليف الفتاة، بل من تأليف كاتب آخر أو ربما من تأليف أبيها نفسه، والذي ربما وجد فائدة في نشرها.تطور الأمر حتى انتقلت هذه القضية من ساحات الإعلام والصحافة إلى ساحات المحاكم، وفي نهاية المطاف حكم القضاء بأن هذه اليوميات كُتبت بخط آن فرانك نفسها، وهكذا انتشرت صور آن فرانك في أرجاء العالم، وصارت الفتاة أيقونة شهيرة، حتى أن معهد «جوتينج» للدراسات المتقدمة بألمانيا يقوم الآن بإعداد طبعة جديدة من «يوميات آن فرانك» ودراسة نقدية عنها بلغات عالمية. أما ستلا، فربما لم يسمع بقصتها أحد، واقع الأمر أنني شخصيًّا لم أسمع بقصتها إلا في عام 2014، عندما كنت في بريطانيا واستفزني الباحث «دان ستون» بإصراره على تعريف الهولوكوست بأنها: «اضطهاد الجماعات اليهودية إبان الحقبة النازية»، وحينما اعترضت على تعريفه الذي يتجاهل ضحايا آخرين – من المعارضين السياسيين والمرضى والسلاف والغجر – ابتسم وقال في أناة ومودة: «إن اعتراضك حق مشروع، ومن حقك أن تقدم تعريفك وتبرهن عليه، وقد حاول باحثون آخرون أن يفعلوا ذلك من خلال بحثهم في قصة الفتاة ستلا»، وما إن سمعت هذه الكلمات حتى قررت أن أبحث في أمر ستلا هذه، وفي قصتها.عندما رأيت صورة ستلا أول مرة وجدت ملامح مختلفة تمامًا عن ملامح آن فرانك. فإذا كانت آن فرانك في طفولتها ومراهقتها تبدو ذات نسب ومال وجمال، ومن بيئة غربية وطبقة ثرية، ومن أهل المدن، ومن أسرة على قدر من العلم والثقافة، فإن ملامح ستلا كانت تكشف عن سمات مختلفة تمام الاختلاف، فربما كانت من بيئة غربية، لكن ملامحها توحي بأنها من بيئة ريفية، ومن طبقة معدمة، وتكشف عيناها عن شقائها، ومثابرتها على المحن والصعاب.إذا كان المرء منا يرى معظم صور آن فرانك وهي تنطلق في خفة، وتبتسم في اطمئنان، وتضحك في ثقة، وتلهو في حرية، فإن ستلا تظهر ساكنة، تتحرك شفتاها قليلًا في حذر ورهبة حتى تتجلى بعض أسنانها العلوية، لكنها تعجز عن التعبير عما يدور في خلدها من مشاعر وأحاسيس، حتى أنها تنسى نفسها ومصيرها، وتظل عيناها في حيرة وترقب.إذا كان المرء منا يرى شَعر آن فرانك ينسدل حينًا، ويرفرف حينًا آخر في قصات مختلفة، فإننا لا نرى شعر ستلا أبدًا، بل نرى شالًا أبيض يغطي رأسها ويكسو عنقها، وينسدل قليلًا بدفتيه على صدرها، فيتجلى وجهها كاملًا بعينين حائرتين، وفم يختزن كلمات صامتة تقبع خلف أسنانها العلوية، ولا يستطيع المرور بشفتيها من هول ما تشعر به. الأهم من ذلك كله أن صور آن فرانك إنما هي صورة فوتوغرافية احتفالية التقطتها لها أسرتها وهي في سن صغيرة للذكرى الجميلة، أما الصورة الوحيدة الكاشفة عن ستلا فإنها ليست صورة فوتوغرافية، بل هي صورة حية لا تدوم سوى بضع ثوان في فيلم وثائقي حول ترحيل اليهود إلى معسكرات الموت في عام 1944. إننا لا نرى ستلا في غرفة فخمة، ولا في استوديو أنيق، ولا بين مناظر الطبيعة الخلابة، بل إنها تظهر في عربة قطار مخصصة لنقل البضائع والماشية، حيث ينفتح باب العربة قليلًا، وتظهر الفتاة، وتتساوى فتحة الباب وحجم جسدها، وفي أقل من ثانيتين تلتفت عيناها إلى اليسار وإلى اليمين، وإلى اليسار، وإلى اليمين، وكأنها تنظر إلى شيء ما في رهبة وترقب، وبعد سبع ثوانٍ، تنتهي اللقطة، وتظهر لقطات أخرى للقطار وهو يغادر هذا المعسكر المؤقت إلى معسكرات الموت.

اهتم صحفي هولندي بقضية ستلا، هذه الفتاة المجهولة، وقرر أن يبحث في هويتها، وسجّل رحلته في قالب أدبي يتمتع بحبكة جيدة تقوم على التشويق والإثارة.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انتشرت هذه اللقطات، وظل العالم الغربي بأسره يعتقد أن هذه الفتاة يهودية تعرضت للموت على أيدي النازيين المعادين لليهود، وهكذا لم يترك النازيون أغنياء اليهود –آن فرانك- ولا فقراءهم –ستلا- وبخاصة الفتيات البريئات، فقد أصبحت صورة ستلا هي الأخرى تُعرض في القطاع الخاص، بتاريخ الترحيل والقتل الجماعي في معظم معارض الحقبة التاريخية بين عامي 1940 و1945.ظلت هذه الخريطة الإدراكية مترسخة في الوجدان الغربي على مدى نصف قرن من الزمان، حتى حدث ما لم يكن في الحسبان في منتصف التسعينيات من القرن العشرين.

كان العالم الغربي بأسره يصنف ستلا على أنها فتاة يهودية دون أن يعرف حتى اسمها أو أصلها، فهذا الاسم الذي نعرفه الآن لم يكن معلومًا حتى منتصف التسعينيات!

يعود الفضل في معرفة الاسم إلى الصحفي الهولندي «آد فاجنار»، فقد ظلت صورة الفتاة تطارده كلما شاهد فيلمًا وثائقيّا، أو برنامجًا تليفزيونيّا، أو معرضًا تاريخيّا عن الهولوكوست، وظل يسأل نفسه: من هذه الفتاة؟ ما اسمها؟ هل ماتت أم هل ما زالت من الأحياء؟ ما أصلها؟ وما عمرها عندما كانت في عربة القطار عندما التقطت الكاميرا نظرتها وحركتها الساكنة؟ هل قُتلت أم أصابها الجوع والعطش والإعياء حتى فارقت الحياة مثل آن فرانك؟ ومتى ماتت إن كانت من الأموات؟

توصل آد فاجنار في ديسمبر عام 1992 إلى أن المركز التذكاري لمعسكر «فيستربورك» اهتم بقضية هذه الفتاة المجهولة في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وأن المركز أعطى صورتها الوحيدة فنانين يعيشون في قرية «دوينتا» حتى يستوحوا منها صورًا جديدة لمعرض خاص. وهناك وقع في يد آد فاجنار كتالوج لمعرض عام 1990، وتصف مقدمة الكتالوج هذه الفتاة بأنها: «تجسيد لأكثر من مائة ألف يهودي تعرضوا للترحيل، حيث جرى تجميعهم في معسكر فيستربورك، ثم تم طردهم دفعة واحدة إلى الشرق، ولم يعد منهم سوى بضعة آلاف». وسأل آد فاجنار نفسه: هل الفتاة الموجودة في الصورة ممن كُتب لهم النجاة؟ وقرر أن يبحث في هوية الفتاة، وسجّل رحلته في قالب أدبي يتمتع بحبكة جيدة تقوم على التشويق والإثارة.كان الخيط الأول في رحلة البحث هو كتاب «جاك برسر»، «السقوط: اضطهاد يهود هولندا وإبادتهم»، وبالفعل وجد آد فاجنار أن جاك برسر قد ذكر الفتاة في كتابه، ووصف الفيلم الخاص بالحياة في معسكر فيستربورك الذي تم إنتاجه بطلب من قائد وحدة الـ«إس إس ألبرت جميكر»، ولكن جاك برسر هو الآخر لم يكن يعرف هوية الفتاة الشابة البائسةـ، التي كانت تنظر من فتحة عبر عربة قطار الماشية قبل أن ينغلق الباب، فماذا حدث لهذه الفتاة بعد غلق الأبواب ومغادرة القطار للمعسكر؟ هذا السؤال دفع الصحفي فاجنار إلى مزيد من البحث الجاد في هوية الفتاة. في بداية العام 1993 اتصل آد فاجنار بمسئول الإعلام عن المركز التذكاري لمعسكر فيستربورك «ألبير جلبير»، وحاول أن يعرف إذا كانت هناك أبحاث عن المعسكر، وعن هوية الفتاة أو عن الفيلم نفسه، وكانت الإجابة بالنفي. في رحلته، لا ينسى آد فاجنار أن يُذكّر القارئ بالفتاة آن فرانك، فاسمها يظهر في الصفحة الأولى من كتابه عن ستلا، وفي الصفحة الثانية من الفصل الثاني، ويذكرنا فاجنار أن المعسكر تحول إلى مكان تذكاري قومي ومتحف تعليمي بحلول عام 1982، وهو متحف يعيد إلى الذاكرة «قطار البؤس»، وبقايا وآثار غرف التعذيب، لاسيما الثكنة رقم 67 التي كانت آن فرانك سجينة فيها من الثامن من أغسطس إلى الثالث من سبتمبر عام 1944، وهكذا تتأسس علاقة التماهي بين آن فرانك وستلا التي يجهل القارئ اسمها وهويتها حتى الآن في سردية فاجنار.كان هذا المعسكر بمثابة ترانزيت يهيئ السجناء إلى الرحيل إلى مواقع الحل النهائي للمسألة اليهودية. وبين عامي 1942 و1944، تم نقل أكثر من مائة ألف يهودي، ومائتين وخمسة وأربعين من الغجر، وانتهى مصير أكثر من تسعين ألفًا منهم إلى معسكر «أوشفيتس وزبيبور»، والبقية إلى معسكر «ترزينشتات» و«برجن بلسن». وبعد تحرير المعسكر على أيدي الجنود الكندية، لم ينج من اليهود سوى ما يقرب من خمسة آلاف –من أكثر من 100 ألف- ولم ينج سوى أربعين من الغجر، من أصل 245. بعد رحلة طويلة من البحث الدءوب، الذي يكشف عن تفاصيل مثيرة حول تنظيم معسكرات العمل، ودور القيادات اليهودية في إدارتها، وتسهيل عمليات القتل بدافع من غريزة البقاء؛ توصل آد فاجنار إلى اسم الفتاة المجهولة ستلا، وعلم أنها فتاة من فتيات الغجر، وأنها ليست يهودية، وأن أباها مات حسرة عليها، وكان أبوها يُدعى «مسلم – Moselman»، وهذا اسم يحتاج إلى مقالة أخرى، ولكن المهم أن التاريخ جرى إعادة كتابته من جديد، بعدما ترسخ في الأذهان لما يقرب من نصف قرن أن ستلا ضحية يهودية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.