[1]

خرج مازن من باب القِسم تتبعه أميرة.

– قف لحظة…

توقّف عن المشي ولم يلتفت نحوها.

– علينا أن نتّخذ قرارًا ونتفق على ما نقوله لهديل.

– كل هذا الحديث لا يروق لي، لا أفهم ما ضرورته في هذه اللحظة، ألّا يكفيها ما تمرّ به؟

التفت نحوها.

– لماذا ناديتني؟ لماذا أصررتِ أن أتواجد في هذه الاستشارة؟

– لا أفهم، أنا لا أفهم، ألا ترى أنه من الضروري أن تكون معي عند اتخاذ قرارات من هذا النوع؟ وتسأل الآن بعد ما سمعت؟ لوحدي؟ تريدني أن أقرر وأواجه لوحدي؟

– لاذ بالصمت كعادته في كل المآزق، ليفكّر مليًا في إجابة يكون نصها متينًا مُقنعًا، فيه بعض الفلسفة إن أمكن، ليُبهرها كما كان يفعل في الماضي. الماضي الممتد بين أول مرة قرأت فيها نصوصه، وهي صبيّة مُتحمّسة، وبين آخر مرة صدّقته فيها وهي زوجة منطفئة. لم يعد يبهرها، فاستأنفت هي المسير باتجاه القسم الذي توجد فيه هديل.

– أميرة توقّفي. دعينا نتمهّل ونجلس لنفكّر ما الذي يجب فعله. سأدعوك لفنجان قهوة.

– لا أريد شرب القهوة معك، أريد مصلحة هديل.

لحق بها ووقف أمامها يمنعها من المشي، نظرت إليه متعجبة، فقد جذب بفعلته أنظار المارة المسرعين في ردهات المستشفى، الساعين في عملهم أو الساعين وراء صحتهم أو بحثًا عن قريب قد نسوه حتى ذكّرهم المرض به.

– يجب أن نفكّر بعيدًا عن البنت، هذا موضوع حسّاس.

[2]

قالها، يُبدي اقتناعه بالأهميّة، ربّما ليغريها بقبول الدعوة. لم تشرب معه فنجان قهوة منذ افترقا، تحادثا مرّات عدة في ترتيبات الطلاق ومن بعده في أمور تخصّ هديل.

تعبت الابنة تعبًا شديدًا، ومع هذا لم تتصل أميرة به. أخذتها إلى غرفة الطوارئ وحدها، ولم تفكّر به إطلاقًا حتى أطلّ الطبيب الشاب مُرتبكًا وناداها داعيًا إياها إلى الدخول إلى غرفة جانبية. وبدأ يشرح لها بنبرة مُتهم يدافع عن نفسه، كأن كلماته هي التي تحوّل ابنتها من صبية في السادسة عشرة من عمرها إلى مريضة سرطان:

– تبيّن الأشعة وجود كتلة كبيرة في منطقة الصدر، تضغط على الرئتين والقصبة الهوائية والأوعية الدمويّة الكبرى. أنا آسف، أعرف أن الأمر صعب لكن يجب عليها البقاء في المستشفى لإجراء فحوصات وتحديد المرض، في الغالب ستحتاج إلى بدء العلاج سريعًا.

لعنته، لعنت مازن في سرّها، لعنته وكأنّه الدهر الذي عليها شكواه والثأر منه، كأنه هو سبب هديل وهو أيضًا سبب مرضها. اتصلت به أول مرّة من دون رد، الساعة تقترب من منتصف الليل، قطعًا هو الآن يتسكع في أحد المقاهي، يعمل جاهدًا على تحرير البلاد وحل مشاكل الشرق الأوسط. ستحاول محاولة أخرى، دون رد.

اقتربت من هديل، وتأمّلتها مُلقاة في السرير الغريب وقد شحب لونها، وعلا نفسها. شكّت بأزمة ربو، التهاب رئوي، ساعة ساعتين ثلاث، ثم عودة إلى البيت وهي نعسة تعبة لتقوم في الصباح الباكر إلى عملها. نادت على الفتاة ففتحت عينيها.

– سنبقى في المستشفى اليوم.

عند وصولهما قسم الأطفال، ضحكت هديل في وجه الممرضة مازحة كعادتها:

– غرفة تطلّ على البحر، سنطيل المكوث كما يبدو.

لم تسمع أميرة جواب الممرضة البشوش، رنّ جوّالها فابتعدت.

– مازن، أنا مع هديل في المستشفى، في رمبام.

– ما الذي جرى؟ هديل بخير؟

– تعالَ.

– أميرة… قولي ما الذي جرى؟ في الطوارئ؟

– لا، قسم الأطفال.

– ممكن أن تحكي ما حدث دون تقطيع.

– سرطان، هديل عندها سرطان.

[3]

أول أمس، كل هذا حدث أول أمس. قرّرت حبس غضبها المُبرّر وغير المُبرّر. استنفدت الساعات في المستشفى طاقتها، فرافقته إلى المقهى الصغير في مدخل المستشفى. جلس مازن قبالتها ومدّ لها بفنجان القهوة المعتاد، فتناولته منه ورشفت رشفة أولى.

– لولا أننا في مستشفى ولنا ابنة مريضة لظننتنا في يوم من الأيام الخوالي.

تجاهلت ملاحظته تمامًا.

– ما قولك؟

– فيمَّ؟ لا أعرف، لا أرى أن هذا أمر مهم في هذه المرحلة. المهم هو أن تبدأ العلاج، وأن تُشفى.

نظرت إليه مخترقة إيّاه إلى ما هو أبعد. فاستأنف يفسّر لنفسه ولها.

– وأحاديث النِسَب هذه تثير جنوني، نِسبة النجاح ونِسبة الفشل، وممكن هذا وممكن ذاك، ومن المحتمل وربما، وقد ويجوز ومعقول وعلى الأغلب… جنّ الأطباء.

– قد نندم… إذا شُفيت وما استطاعت الإنجاب فكيف…

قاطعها بحدّة.

– إذا شفيت؟ وما الذي يهم بعدها؟

أعادت النظر إليه، لا شيء يتبدل فيه.

– كالعادة، لا أستطيع إكمال جملة. لا تعطيني أن أكمل جملة… لكن اسمع الآن وفكّر وحاول أن تتعب عقلك بعملية حسابية بسيطة وتأخذ قرارًا أو تساعدني أو بالأحرى تساعد هديل في اتخاذ موقف. هل تقبل ولو لدقائق؟ فلا نحوم فوق السحاب بين نوبات التفاؤل والتشاؤم المعهودة، ونحاول أن نفهم ما تعني كل إمكانية واردة أمامنا؟

قالت كل الكلمات دفعة واحدة بعصبية شديدة، فما إن انتهت بالسؤال حتى احتاجت الى دقيقة كاملة تعيد ترتيب نفسها وتخفض نبضات القلب لتتلاءم مع مزاج التعامل مع مازن.

مشكلته الأساسية أنه ليس سيئًا، ليته كان سيئًا لخفّف عنها الكثير. فاجأها بصمته، أمسك بفنجان القهوة وارتشفه كله مرّة واحدة بما بدا موافقة على تنفيذ تعليماتها.

– مازن، الحساب هنا مختلف واياك أن تُلمّح أنني أشكّك بشفاء هديل، انا أفكر بما سيحدث عندما تشفى، وتريد الإنجاب ولا تستطيع، سنندم، أنا وأنت سنندم.

[4]

تأمّل رسم القهوة على جدران الفنجان الأسود الداخلية وأخذ يؤرجحه بين أصابعه، طالبًا أن يُميِّز بين الألوان الغامقة أمامه.

لم يفهم عندما نطقت أميرة بكلمة سرطان، فهم أنها تريده أن يأتي، فقط. فلم يسرع في الطريق رغم خلو شوارع حيفا من الحركة، ومع هذا وصل سريعًا. ركن سيارته ومشى باتجاه البحر وجلس على مقعد أمام السواد يرصد موجات الزبد البيضاء المتواترة من دون كلل أو اهتمام بالمسرحية المتمثلة أمامها. هناك أدرك أن أميرة طليقته ما كانت لتتصل فيه لو لم يكن في الأمر ما فيه. وأميرة هذه هي غير الصبية الثائرة التي تزوّجها بعد حب قصير مُلتهب بالأدب والفكر والتحرّر والأوطان.

حملت أميرة من دون تخطيط ومن دون منع، قبل أن يناقشا فكرة الحمل والأولاد، فلم تكن على قائمة الموضوعات الدائرة بينهما. ومن اللحظة الأولى التي عرفت بحملها لم تعد كما كانت، أنكر هذا لمدة طويلة، أصرّ أن الحياة لم تتغير، تعلّقت أميرة بهديل وحاولت أن تقنعه بأنها هي الطبيعية، وهو الغريب، تصرخ فتقول من الطبيعي أن تتغير عندما تصبح أبًا، طبيعي أن تنضج. أحب هديل كما أحب أميرة، أحبهما ويحبهما حتى الآن، لكن حرص ألّا يتغير، لا ثمن يُدفع للحب من جيب النضال، النضال لا يدفع لأحد.

رفع رأسه، ووضع الفنجان على الطاولة.

– سلّمتِ بالعلاج الكيماوي؟ فهمت أن هناك بدائل…

– لا… لا… لا تحاول حتّى، قف هنا، سنسمع ما يقوله الأطباء، لن أسمح لك مازن بفتح الموضوع. أبعد خيالاتك وأحلامك عن هديل. ستبدأ العلاج غدًا، سرطان يعني علاج بالكيماوي. أفهمت؟

– أنا لا أعرف، هي صغيرة، صغيرة.

– ضاق ذرعًا بحديث الطبيب اليوم أكثر من بشرى السوء بالتشخيص النهائي لحالة هديل. أكّد لقاء اليوم أن الكيماوي قدرٌ لا مفرّ منه، وأن السرطان حقيقة وليس مؤامرة ولا حتى خطأ. والآن أمام إصرار أميرة وموقفها العمليّ لإدارة شأن هديل كله، اكتشف في نفسه خبايا للخوف والقلق لم يعترف بها من قبل ومساحات لحب هديل ما أتاح لها مقامًا في نفسه من قبل.

– وهل من المهم أن يكون لها أولاد؟ المهم أن تعيش.

لا يفهم. تنهّدت طويلًا، كيف ستُفهِم هذا الطفل الأربعينيّ بمنطق الحياة البسيط، خارج مفردات الشعارات.

– كل النساء يردن الإنجاب.

– غير صحيح، بعض الناس والنساء يختارون ألّا ينجبوا، لأسباب مختلفة.

– ارحمني مازن، ارحمني. بعض الناس أيضًا يريدون ولا يقدرون. وابنتك قد تكون منهم، الطبيب لا يعطينا الكثير من الخيارات، فمن الضروري أن تبدأ بالكيماوي سريعًا.

ماذا ظنت إذ أشركته بالقرار، أن يفيدها؟ ستُقرِّر وحدها، ستسأل رأي طبيب آخر وتُقرر، ربما تتصل بأخ زميلتها بالعمل وتسمع رأيه.

– سألتِ هديل؟

– نعم؟ كلا لم أسألها. لا أعرف ماذا أقول لها.

– فلنسألها.

[5]

قالها كعبقري وجد حلًا لمعضلة عجوز. حدّقت أميرة فيه، وشعرت به يتلاشى أمامها، ماذا توقّعت؟ أن تكون هي في ضائقة ويستطيع هو أن يقدّم لها شيئًا. يدفع نفقتها بين الحين والآخر، تعمل ساعات طويلة في مكتب سياحة ومن البيت أيضًا إذا لزم الأمر، كي تكفي نفسها وهديل وإيجار البيت وديون البنك.

شعرت بالفرج لأن المصاعب استقرت ولم تتزايد في الفترة الأخيرة. والآن مرض هديل، إنها لا تستوعب، لم تر ابنتها وهي تختنق، لم يساعدها إصرار الطبيب أنهم لم يتأخروا بألّا تلوم نفسها، وأنّ طاقتها يجب أن توجّه لمساعدة ابنتها وأنّ فرص النجاة عالية. وأنهم يجب أن يهتموا بمستقبل هديل فهي ستعيش وتكبر وستريد أن يكون لها أسرة.

هي لم تستطع أن تكوّن أسرة مع مازن، رأى بولادة هديل مطب فلم يُكرِّره. المرّة الوحيدة التي كان مُبادرًا، كان هدفه فيها المنع. قد تبقى بلا شيء، بلا هديل وبلا حفيد، لو كان لهديل أخ أو أخت. وسيكتب مازن يومها عنها وعنه، كلامًا بليغًا في مجلة يقرأها مئة شخص. اختفت منها كل الأجزاء التي كان يُضيئها كلامه، وإذا ماتت هديل فستموت باقي الأجزاء.

توجّها ببطء نحو القسم، تصطدم الأكتاف في الطريق إلا كتفاهما، تسبقه أميرة وكأنها لا تشعر به. لكنه بدأ بالحديث:

– مستشفى الدكتور حمزة، هذا كان الاسم المتعارف عليه بين الناس وليس رمبام. هل كنت تعلمين هذا؟ سأحكي لهديل، وسأكتب عن الموضوع مقالًا. قريبًا، سأكتب عن التجربة، عن تجربتنا في هذا المستشفى.

وصلا باب الغرفة المفتوح، في الغرفة هديل وفتاة أخرى تقربها بالجيل.

– كل أهل حيفا يعرفون ما تقول، ويسمّونه رمبام، لأنه رمبام ومنذ زمن طويل والزمن كفيل بكل شيء، فلا داعي أن تكتب.

– الوعي، الوعي أميرة. أنا أكتب للوعي وعن الوعي. كنت تفهمين هذا في يوم من الأيام، كنت تحبينه.

– الوعي؟ الكتابة عن الوعي قلت لي؟ في حالنا هذه؟ في حال البلاد كما هي؟ فأعرف أنّ كتابتك أشبه بتعليق لمعلّق رياضيّ تافه، وعويل جوقة من الندّابات بدأن بالصراخ مُبكّرًا قرب جثة رجل يحتضر.

صمت ونظر في وجهها مُندهشًا لا يجد ما يرد به، كأنّها أفنت الكلمات كلها بما قالت. طردته من صنعته، جنته الوحيدة، طردته من الكلام بعد أن طردته من حياتها.

قالتها أخيرًا، قالتها، عمل لا يفتح بيتًا ولا يجلب مالًا ولا مجدًا لصاحبه هو لمس للحياة دون الخوض فيها. بادلته النظر، فهمت أنّها أحرقت شيئًا في نفسه ولكنها لم تشعر برأفة ولا أسى.

– ماما… ماما…

سمعا مناداة هديل من داخل الغرفة.

اقتربت منها وجلست قربها على السرير، أمّا مازن فاقترب من النافذة المطلّة على البحر وأخفى نظرته الحائرة خلف ستارة مزينة برسوم لدببة لطيفة وبعض الألعاب، مُديرًا ظهره للحديث بين الأم وابنتها.

– أعرف لماذا التقيتما طبيب نساء اليوم. قرأت ما الذي يفعله الكيماوي ببويضات المرأة.

نظرت أميرة إلى ظهره ثم إلى وجه ابنتها الجميل.

– وما قولك بالموضوع؟

– لا أريد، لا أريد شيئًا. الآن أريد أن أعيش… لكني أريد أن أكون أمّا، مثلك.

اختنق صوتها وعانقت أمّها. لكنها سرعان ما ابتسمت واستلقت على السرير وجدّلت ساقيها في الهواء بشقاوة، ثم شدّت أمها لتستلقي بجانبها.

– هناك شيء لم تُعلّماني إياه، ولكن قرأت عنه الكثير في اليومين السابقين. فأولًا اكتشفت أنني أؤمن بالله، وثانيًا بأنني أتوكّل عليه. هل فعلتها مرة يا أمي؟

– توكّلت على الله؟ كلّا، على الأقل لست متأكّدة، ربّما، لكنّني سأبدأ معكِ وفورًا.

رقصت الدببة والألعاب فوق الستارة الملوّنة رقصة خفيفة هادئة، لم تلفت نظر هديل أو أميرة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.