من دمشق، هنا القاهرة..

الإعلامي السوري «الهادي البكار» ردًا على توقف بث الإذاعة المصرية بسبب العدوان الثلاثي

لم أتذكر شيئًا منذ مباراة الجزائر وكينيا في كأس الأمم الإفريقية المقامة حاليًا في مصر سوى تلك العبارة الخالدة التي ما زال صداها يتردد في أذني، وما زال صاحبها يعتبره المصريون بطلًا قوميًا رغم أنه لم يقتل عدوًا واحدًا، ولكن كلماته كانت حرة ومن قلبه.

في الثالث والعشرين من يونيو/ حزيران أعاد المعلق الكبير «حفيظ دراجي» للأذهان ذكريات الوحدة العربية وهو يعلق على مباراة منتخب بلاده الجزائر أمام كينيا حينما قال:

نبدأ بتشكيل كينيا المنتخب الضيف لأننا نلعب على أرضنا في القاهرة.

الجميل أن دراجي لم يلفظها منفعلًا أو مصطنعًا، لم يشعر بأنه يقول شيئًا غريبًا ولم يرد أن يكون بطلًا أو أن يكسب ود المصريين. قالها بسلاسة لأنها خرجت من قلبه على لسانه ولأنه يشعر بها حقًا.

ذكرنا حفيظ دراجي المعلق الرياضي والإعلامي والصحفي الجزائري بشيء نبيل قد نسيناه منذ زمن، وهو ليس على ما تظنون القومية العربية وحلم الوطن العربي الجميل، ولكن قول الحق دون تفكير، حرية القول التي تصنع الرجال حتى بعد مماتهم بمئات الأعوام.


حفيظ دراجي العاشق

لا يكذب العشاق لأنهم يعيشون كل لحظة في حب ما يعشقون وحفيظ يعشق كرة القدم منذ كان صغيرًا حيث مارسها لاعبًا أيام الشباب في مولودية وهران قبل أن تسوقه فطرته وموهبته إلى أن يصبح أحد أشهر المعلقين العرب. ينتمي حفيظ للمدرسة العفوية في التعليق حيث لا جمل محفوظة مكررة وحماس مفرط وكأنه يعلق في كل مرة على الجزائر وهي تلعب نهائي كأس العالم.

الشغف الذي يعيشه حفيظ أثناء التعليق يتفق مع مقولة الشوالي بأن التعليق ما هو إلا أحد أشكال الغرام، وأنه عالم سحري يعيش فيه لمدة ساعتين. يمتلك حفيظ القدرة على الوصول بك إلى الحد الأقصى من ضربات قلبك بواحدة من «بابابابابا» أو يجعل حدقة عينيك تتسع من شدة «أو لالالا لالالا لوووو» وبالتأكيد يتسارع نفسك عندما يتنبأ بـ«كرة جول كرة جول كرة جووول، جووووول».

يعيش حفيظ اللحظة دون أدنى معاناة لأنه لا يفكر كثيرًا فيدخل الكلام قلب المشاهد وتكتمل الصورة بكلمات حفيظ العفوية الجميلة وكأنه طفل لا يصدق ما يشاهد من فرط الروعة وقرر أن ينشد أجمل الألفاظ دون تكلف.

يستطيع حفيظ أيضًا إدخالك في حالة من التوتر والغضب عندما يقرر أن يتوقع أن تلك ضربة الجزاء ستضيع وهو يقول: «ما بالكم لو ضيع؟ ممم». ستحبه وتكرهه وتحفظ كلماته وتقرر عدم سماعه مجددًا في نفس اللحظة.

لا يفكر الدراجي في أي شيء سوى في اللقطة التي يعيشها، ومن ثم يعلق عليها لذلك كرهه المصريون وهو يصيح «أجمل هدف في العالم» عندما سدد عنتر بن يحيى كرة في شباك الحضري صعدت بالجزائر إلى كأس العالم، وهم أيضًا من انهالوا عليه بعبارات الثناء عندما قال ضمنيًا إن القاهرة هي وطنه.

تلك العفوية الشديدة في معظم المواقف هي من تخرج حفيظ من منطقة الراحة التي يعشقها الكثيرون وتجعله يتعرض لأزمات عنيفة وانتقادات لاذعة لمجرد فقط أنه لا يستطيع كبت لسانه عن التحرك وقول ما يريد دون تفكير.


الخروج من منطقة الراحة: للرجال فقط

تخيل أنك تعيش في قطر وتعمل بإحدى أكبر المؤسسات الإعلامية الرياضية في العالم وتكسب مالًا كثيرًا وشعبية جارفة وتقرر بكامل إرادتك التفوه بآراء في مناطق شائكة بدلًا من أن تكتفي بعملك وتستمتع بحياتك وشهرتك. بالتأكيد شيء يستحق كل الاحترام حتى وإن كنت تختلف مع آرائه.

الحياة مواقف يا سيدتي، والإعلامي الذي لا يتفاعل مع شئون دينه ووطنه وأمته لا يمكن أن يصنف نفسه ضمن خانة الإعلاميين. القضية الفلسطينية هي قضيتنا جميعًا وربما أكبر من قضايانا الوطنية، لذلك لن أتردد في التعبير عن موقفي الداعم بكل أدب وإحترام
حفيظ دراجي في أحد اللقاءات الصحفية.

يؤمن حفيظ أن المواقف الواضحة هي من شيم الرجال، والرأي الحر الخارج من فِيّ صاحبه لا يضاهيه فخر ما دام يقوله بعيدًا عن أي مطمع. فتجده يدين الإدارة السعودية في صمتها على قرارات ترامب بنقل سفارة أمريكا للقدس تارة، وأخرى ينعي الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي بعد وفاته رغم معرفته تمام المعرفة أنه مغضوب عليه من النظام المصري، ناهيك عن إعلانه للترشح لرئاسة الجزائر إذا ترشح الأخ الأصغر لبوتفليقة في رفض واضح لسياسات الحكومة الجزائرية ودعمه المستمر لثورتها مؤخرًا.

«حفيظ دراجي» ردًا على هجوم السعوديين عليه بعد اتهامهم بمحالفة أمريكا

هل يذكركم بشخص ما؟ نعم نعم إنه أبوتريكة، ملك الخروج من مناطق الراحة. الخروج الذي نفى أبوتريكة خارج بلاده ومنعه من حضور وفاة والده، المفارقة أن حفيظ دراجي، مؤخرًا، دخل في صدام مع الإعلامي المصري «أحمد موسى» الذي هاجم أبوتريكة لأنه نعى الرئيس الأسبق «محمد مرسي»، حفيظ دراجي نفسه نعى محمد مرسي! كلاهما رجل لم يختر الأمان وقرر المغامرة بشعبية بنيت على مدرا السنين بكلمات لمجرد أنه مقتنع بها.


الثقافة تحكم

مكة هي قبلتي، الأقصى هو مسجدي والقدس عاصمتي وفلسطين بلادي، كبرنا في الجزائر على الوقوف مع فلسطين ظالمة أو مظلومة. إذا كان الشعب الفلسطيني إرهابي فأنا منهم، ولو وقفت الجزائر بلادي ضد القضية الفلسطينية لعاديتها لأن القناعات لا تباع ولا تشترى، مهما كانت الظروف.

منذ أيام وقع مدحت شلبي في خطأ جسيم حينما سأل أحد المواطنين الموريتانيين: «أين تعلمت اللغة العربية؟» بإشارة واضحة منه بأنه لا يعلم أن موريتانيا دولة عربية!

عار على الإعلام الرياضى المصري أن يكون أحد أشهر إعلامييه بتلك الثقافة الضحلة، يواجه النقد على تلك السقطة بابتسامة مصطنعة ويبرر انتشار الفيديو بشهرة برنامجه وليس لفداحة الخطأ!

يفسر ذلك المكانة التي وصل إليها أمثال حفيظ دراجي. هم مثقفون حقًا، دارسون لما يفعلونه وليسوا مجرد هواة أو راغبين شهرة. فحفيظ صحفي بالأساس حاصل على ليسانس الإعلام عام 1988 من معهد الإعلام والاتصال بعد 4 سنوات من حصوله على البكالوريا في اللآداب تحديدًا في 1984.

شغل حفيظ جميع وظائف الإعلام الرياضي بداية من المحرر والمقدم مرورًا برئيس تحرير البرامج الرياضية بالتلفزيون الجزائري ورئيس لجنة الإعلام بالإتحاد الجزائري. علق دراجي على كل شيء تقريبًا بإجمالي تقريبًا 6000 منذ عام 1990 فلم يترك حدثًا مهمًا إلا و أثرانا بصوته فيه حتى ذاع صيته حينما عمل بالجزيرة الرياضية في 2008 أو بي إن سبورتس حاليًا.

هل تعلم أيضًا أن حفيظ له كتابان بعنوان «ملاك وشيطان» و«دومينو» ويتحدث الفرنسية والإنجليزية بطلاقة؟ ليس غريبًا إذن عليه أن يكون ذا موقف وصاحب رأي لا يرضى بقول غير حر حتى ولو واجه الأزمات. وليس غريبًا عليه أن يكون قوميًا عربيًا يرى فلسطين وطنه والقاهرة أرضه ويعلم بالطبع أن موريتانيا دولة عربية!