من عام لآخر تخرج فريضة الحج عن كونها رمزًا لوحدة المسلمين حول العالم إلى كونها رمزًا للتردي السياسي والأخلاقي الذي وصل إليه العالم الإسلامي اليوم، فالسعودية والتي يتسمى مليكها بخادم الحرمين الشريفين له في كل عام صولة وجولة. في هذا العام قرر الملك السعودي أو نجله محمد أن يكون الحج أداة لتعظيم الضغط السياسي والاجتماعي على قطر، أو ربما خلق معارضة قطرية من رحم أزمة الحج والحصار.


تدويل الحج والحصار

ولدت أزمة الحج هذا العام من رحم الحصار السعودي-الإماراتي لقطر، بدأت الأزمة ببعض الشائعات عن منعٍ تام للحجاج القطريين، ثم لاحقًا أعلنت السعودية قبولها ذلك، ولكن بشروط وصفها البعض بالمجحفة، حيثرفضت السلطات السعودية أن يأتي الحجاج مباشرة من الدوحة في رحلات لشركة الخطوط الجوية القطرية أو أن يمروا عبر منفذ (سلوى) البري المغلق، وهو المعبر البري الوحيد بين قطر والسعودية.عوضًا عن ذلك، اشترطت السعودية أن يأتي الحجيج جوًا عن طريق شركات الطيران الأخرى، التي يتم اختيارها من قبل الحكومة القطرية ويتم الموافقة عليها من قبل الهيئة العامة للطيران المدني في المملكة. كما حددت السلطات السعودية دخولهم عبر مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة، ومطار الأمير محمد بن عبدالعزيز بالمدينة المنورة فقط، حيث سيحصلون على تأشيرة الدخول.استغلت الدوحة التضييقات السعودية لتضيف ملف الحج إلى ملف الحصار وتبعاته الإنسانية، حيث خاطبت اللجنة الوطنية القطرية لحقوق الإنسان مقرر الأمم المتحدة المعني بحرية الدين والعقيدة، بشأن الصعوبات الموضوعة أمام المواطنين القطريين في طريقهم لأداء مناسك الحج والعمرة، واتهمت اللجنة السعودية بمحاولة تسييس المناسك الدينية في انتهاك صارخ لجميع المواثيق والأعراف الدولية.وأشارت اللجنة إلى أن هذه الانتهاكات تضاف إلى سلسلة من الانتهاكات التي تعرضت لها حملات العمرة القطرية خلال شهر رمضان الماضي، حيث تمت مخاطبة المعتمرين عبر السلطات السعودية وإجبارهم على العودة إلى قطر، كما ترتب اللجنة الوطنية القطرية لحقوق الإنسان لإلحاق شكواها بشكوى أخرى إلى منظمة اليونسكو.وقد ردت السعودية على لسان وزير خارجيتها عادل الجبير، الذي اتهم السلطات القطرية بتسييس هذه القضية، قائلًا إن «طلب قطر تدويل المشاعر المقدسة عدواني وإعلان حرب على المملكة».لكن في خطوة مفاجئة، ربما في سعي سعودي إلى وقف أزمة الحج خوفًا من تضرر الموقف السعودي دوليًا من الخطوات القطرية، أعلن الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز عن فتح الحدود السعودية أمام الحجاج القطريين، حيث ذكرت وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس) أن الملك السعودي وافق على إرسال طائرات خاصة تابعة للخطوط الجوية السعودية إلى مطار الدوحة لنقل كل الحجاج القطريين واستضافتهم بالكامل على نفقته الخاصة.

إلى هنا يبدو أن السعودية حقًا قد تراجعت عن موقفها المتزمت بحق الحجاج القطريين، لكن الشيطان يكمن دائمًا في التفاصيل.

حكاية العائلة

لكي نفهم القصة من بدايتها، يمكننا أن نعود إلى درس تاريخي مختصر عن العائلة القطرية الحاكمة. ونبدأ من ثالث أمير لدولة قطر وهو عبدالله بن قاسم آل ثاني، وكان له ثلاثة من الأولاد، تولى منهم «علي بن عبدالله» الحكم بينما كان «حمد بن عبدالله» وليا للعهد.بقي الحكم إذن في ذرية «علي»، حيث تولى من بعده ولده «أحمد بن علي» ليكون رابع أمير لدولة قطر بينما بقيت ولاية العهد في ذرية «حمد» ليكون ابنه «خليفة بن حمد» أيضًا وليًا للعهد في فترة حكم «أحمد بن علي» الذي عُرف عنه علاقته الطيبة مع دولة الإمارات، حيث تزوج منها الشيخة مريم بنت راشد بن سعيد آل مكتوم، ابنة حاكم إمارة دبي السابق وأخت الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم إمارة دبي الحالي.في العام 1972 انقلب الشيخ «خليفة بن حمد» انقلابًا وُصف بالأبيض، على ابن عمه «أحمد بن علي آل ثاني» ليتولى هو مقاليد الحكم وليصبح الحكم في سلالته بدلًا من ذرية أبناء عمومته.يعيش بعض أبناء علي بن عبدالله آل ثاني في السعودية، ومنهم الشيخ عبدالله بن علي آل ثاني ابن الأمير السابق وأخو الأمير أحمد بن علي آل ثاني (المنقَلب عليه).أتى هنا دور عبدالله بن علي آل ثاني الذي التقى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في جدة، ووُصف اللقاء بأنه وساطة قطرية لدى السعودية بهدف حل أزمة الحجيج، وعلى إثر وساطة الأمير القطري رفع محمد بن سلمان توصيته للملك التي أدت إلى انفراج الأزمة.لاحقًا جمع لقاء حار بين الأمير القطري والملك السعودي في طنجة لبحث أمور متعلقة بالحج أيضًا، وخرج الأمير القطري على تويتر ليعبر عن شكره وامتنانه للمملكة العربية السعودية، حيث قال في إحدى تغريداته: «شكرًا يا خادم الحرمين وشكرًا يا ولي العهد على استقبال وإكرام أخيكم وقبول وساطته وهذا طبع إخوان نورة».
تغريدة الأمير القطري، ورد سعود القحطاني، المستشار بالديوان الملكي السعودي، عليه
تغريدة الأمير القطري، ورد سعود القحطاني، المستشار بالديوان الملكي السعودي، عليه

لا يحتاج الأمر لكثير ذكاء لكي ندرك أن المملكة العربية السعودية قد استغلت وجود الأمير القطري على أراضيها لتضرب عصفورين بحجر واحد. فأولًا صورت المملكة حل أزمة الحج على أنه نتاج جهود وساطة قطرية وليس تراجعًا من المملكة عن موقفها المشين، ثانيًا عمل الإعلام السعودي على تلميع نجم الأمير عبدالله بن علي، فيما رأته قطر محاولة لصنع معارضة قطرية في الخارج لزعزعة حكم «تميم بن حمد»، وذلك استنادًا على مكانة الأمير القطري عبدالله كأخ للحاكم السابق لقطر الذي انقلب عليه جد تميم، «خليفة بن حمد آل ثاني».أما من ناحية الحكومة القطرية فقد رحّب وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أمس، بقرار السلطات السعودية، لكنه تحدث عن «دوافع سياسية» خلف القرار، حيث قال: «ثمة مآرب أخرى» للطريقة التي تم بها إخراج الموافقة.تكفّل الإعلام القطري لاحقًا بتوضيح هذه الدوافع السياسية؛ حيث اتهم السعودية بتصوير فريضة الحج كـ «مكرمة» يتفضّل بها مليكها على القطريين، كما اتهمها أيضًا بـ «منح تسهيلات لفرع من الأسرة كأداة سياسية لخلق معارضة قطرية». وكان «عبد الرحمن بن حمد آل ثاني»، الرئيس التنفيذي للمؤسسة القطرية للإعلام قد نفى صحة ما ذكرته الوكالة السعودية الرسمية للأنباء عن أن خاله الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني توسط، خلال زيارته للمملكة، في أزمة الحج بين السعودية وقطر. وقال عبد الرحمن، في تغريدتين له على موقع التدوينات القصيرة «تويتر»: «زيارة خالي الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني إلى السعودية كانت فقط بهدف حل بعض الأمور المتعلقة بممتلكاته الشخصية في حائل (شمال غربي السعودية)، وعندما تطرق لموضوع عراقيل الحج، وجدوها (يقصد السعوديين) فرصة أن يخرجوا من هذا المأزق، وحولوا الأمر إلى قبول وساطة».أزمة أخرى أثارها ظهور الأمير القطري «عبد الله علي آل ثاني»علي الساحة فجأة، إذ ظهر حساب تويتر الموثق والخاص به فقط لحظة نشر التغريدات المتعلقة بالوساطة التي قام بها، كما تحدث مغردون قطريون، ومنهم حساب يدعي أنه ابن الشيخ عبدالله، أن والده رهن الإقامة الجبرية في السعودية، لا يمكننا الجزم بحقيقة هذا القول بالطبع، لكن يمكننا القول إنه في هذا الصراع بين قطر ودول الخليج كُسرت جميع الأعراف الدبلوماسية والدولية، ومحاولة السعودية استغلال وجود الأمير القطري على أرضها في صنع معارضة قطرية هو سابقة على الممالك الخليجية كلها، وهي بالتأكيد نذير شؤم على ممالك النفط جميعها.في النهاية، ربما شارفت أزمة الحج على الانتهاء لكن تبعاتها ستستمر لتعمق الصراع القطري-الخليجي وتجعله أبعد ما يكون عن حلٍ قريب.