لم تقف وراء حجات السلاطين المماليك إلى بيت الله الحرام دوافع دينية فحسب، بل هدفوا لتحقيق غايات سياسية تمثلت في تأكيد نفوذهم على بلاد الحجاز لما لها من أهمية دينية في إضفاء شرعية على حكمهم، وفي سبيل ذلك بذلوا أثناء رحلاتهم جهودًا كثيرة في وأد الفتن بين أمراء مكة، وتسهيل رحلات الحج، وحماية الحجيج، ونجدة أهالي الحجاز من تدهور أوضاعهم المعيشية.

ورغم اهتمام المماليك بركب الحج السنوي، ورغم كثرة عدد سلاطين المماليك البحرية، فإنه لم يحج منهم سوى اثنين فقط، هما السلطان الظاهر بيبرس الذي حج حجة واحدة، والسلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي حج ثلاث حجات، بحسب ما ذكرت شريفة بنت صالح المنديل في دراستها «حجات السلطان بيبرس والسلطان الناصر محمد بن قلاوون وآثارها على مكة».

تمرد ووصاية ولهو

ترجع قلة عدد من حج من السلاطين المماليك إلى أسباب داخلية وأخرى خارجية. وبحسب الباحثة، تتمثل الأولى في انشغال السلاطين بأمر الدفاع عن سلطنتهم وعن حياتهم بسبب كثرة تمرد الأمراء والمماليك، وكذلك صغر سن بعض السلاطين ووصاية الأمراء عليهم والحجر على تصرفاتهم، وبالتالي لم يجب عليهم الحج في تلك الحالة.

ومن بين تلك الأسباب أيضًا قصر مدة حكم كثير من السلاطين، مما أدى إلى عدم تمكنهم من أداء الحج في تلك الفترة القصيرة، إضافة إلى انغماس بعضهم في اللهو والملذات وعدم التفكير في هذا الأمر، إضافة إلى قلة الموارد المالية في بعض السنوات بسبب سنوات القحط والمجاعات، أو كثرة النفقات السلطانية، وبالتالي قلة الأموال بالخزينة الخاصة.

أما الأسباب الخارجية فتتمثل في انشغال السلطة المملوكية ببعض الأخطار، مثل الخطر المغولي والخطر الصليبي ثم الخطر البرتغالي الذي هز اقتصادها، وكذلك الخطر العثماني الذي انتهت الدولة على يديه عام 923هـ/ 1517م، إضافة إلى تردي أوضاع الحجاز الأمنية نتيجة تنازع أشراف مكة على السلطة فيها، مما أجبر كثيرًا من السلاطين على عدم المخاطرة بالسفر إليها، وأما حجات السلاطين فكانت في سنوات آمنة مقارنة بما سواها، بحسب الباحثة.

بسط النفوذ على بلاد الحجاز

يذكر الدكتور فارس بن صالح الذكري، في دراسته «رحلة السلطان الظاهر بيبرس إلى الحج 667هـ/ 1269م. دراسة تحليلية»، أن المماليك حرصوا منذ قيام دولتهم على بسط سيادتهم على الحجاز، لما يمثله من أهمية دينية لدى المسلمين، ولإضفاء مزيد من الشرعية على حكمهم حين يُقدم اسمهم على غيرهم بالدعاء أثناء الخطبة في الحرمين الشريفين، لذا اهتم السلطان بيبرس بشؤونه، وتدخل لحل الخلاف بين أمرائه، ثم توج ذلك بالرحلة إليه في موسم حج عام (667هـ/ 1269م)، ليشرف بنفسه على تدبير أموره ويؤكد تبعيته له، وفي نفس الوقت يلتقي بأشراف مكة ويتفاوض بشكل مباشر معهم لوضع حد لخلافاتهم ومنع تكرارها بعد أن وصلت ذروتها.

ومن جهة أخرى، تبين للسلطان الظاهر بيبرس من خلال المراسلات بينه وبين أشراف مكة، أن دولة بني رسول في اليمن (626-858هـ/ 1229-1454م) كان لها دور كبير في تأجيج الخلافات بين الأشراف من خلال وقوفهم مع طرف ضد آخر، لهذا قرر التوجه إلى مكة ليُظهر للرسوليين أن مكة قريبة منه كما هي قريبة منهم، وأن باستطاعته الوصول إليها متى لزم الأمر وبأسرع وقت، وهو ما كان بمثابة تهديد وتحذير.

الإحسان إلى الفقراء ووأد الفتن

تضمنت رحلة السلطان الظاهر بيبرس كثيرًا من الأعمال التي هدف من ورائها على تأكيد نفوذ المماليك على بلاد الحجاز، فأثناء وجوده في المدينة المنورة حرص على الإحسان إلى الفقراء وتوزيع الصدقات على أهلها، كما تفقد مشروع ترميم المسجد النبوي من آثار الحريق الذي لحق به في عام (654هـ/ 1256م)، حيث كان هذا محل اهتمامه من قبل أن يقوم برحلته إلى الحج، بحسب الذكري.

وأثناء تردده على زيارة قبر النبي لاحظ السلطان تزاحم الناس حول القبر والتصاقهم به، فقرر بناء حاجز من الخشب حول الحجرة، فقاس بيده الأطوال اللازمة بحبال حملها معه إلى مصر، وتم إنجاز هذا الأمر في السنة التالية، وأدير على الحجرة الشريفة، وعمل له ثلاثة أبواب، ونُصب بين الأساطين التي تلي الحجرة الشريفة، وعُرف بالمقصورة.

وفي مكة، أمضى ثلاثة أيام قبل أن يبدأ مناسك الحج، قضاها في زيارة العلماء والصالحين ممن يقيمون في الحرمين، وقام بتوزيع الصدقات والكسوات على الفقراء والمساكين عن طريق خواصه، وصار كواحد من الناس لا يحجبه أحد ولا يحرسه أحد وهو منفرد يصلي ويطوف ويسعى.

ووقف «بيبرس» في يوم عرفة ثم نزل منى ورمى الجمرات، وحلق ونحر، وتوجه إلى الحرم وطاف طواف الإفاضة، وفي تلك الأثناء فُتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد، وحمل الماء في القربة على كتفه، وأظهر من التواضع ولين الجانب مع الحجاج ما أطنب المؤرخون في وصفه، حتى ذكروا أن بعض الحجاج رموا إليه ملابس إحرامهم ليغسلها بما ينصّب من الماء على الكعبة، فغسلها لهم وأعادها إليهم، وجلس بباب الكعبة، فأخذ بأيدي الناس ليطلع بهم إلى الكعبة حتى تعلق أحدهم بإحرامه فقطعه وكاد يرميه على الأرض وهو مستبشر بذلك.

ثم قام السلطان بتطييب الكعبة بيده، وشارك مع خواصه في تعليق كسوتها التي كان قد أرسلها مع ركب الحاج المصري، روى الذكري.

وخلال مدة إقامة السلطان في مكة، التي قاربت ثمانية أيام، التقى الشريفين أبا نمي وعمه إدريس، حيث جرى حديث بينهم حول علاقتهما به، وما بينهما من خلافات حول الإمارة، وتجاوزاتهما بحق الحجاج والتجار، وتمخض عن ذلك صدور منشورين من «بيبرس» لأميري مكة، ولم توضح المصادر مضمونهما، إلا أنها ذكرت أن السلطان زاد الشريفين مالًا وغلالًا في كل سنة بسبب تسبيل البيت للناس.

وقبل قدوم السلطان الظاهر بيبرس إلى مكة كان الشريف أبي نمي قد كتب إليه يخبره بأنه طرد عمه إدريس من مكة ويطلب منه التقليد بالإمارة، فاشترط عليه السلطان عددًا من الشروط، هي: إلغاء المكوس المأخوذة من زيارة البيت في ليل ولا نهار، والخطبة باسم السلطان الظاهر، وضرب السكة باسم السلطان، ثم جاء جواب أبي نمي بالموافقة على تلك الشروط، فأعطاه السلطان التقليد بالإمارة.

ولهذا ليس من المستبعد أن يكون المنشوران اللذان أصدرهما السلطان الظاهر للشريفين أبي نمي وعمه إدريس قد تضمنا تأكيد تلك الشروط، وأن يصبح الشريفان ملزمين بها بعدما كانت ملزمة فقط للشريف أبي نمى، بحسب ما يرجح الذكري.

إلغاء الضرائب والمكوس

تذكر أمل بنت صالح الشمراني في دراستها «حجات السلاطين المماليك وآثارها الحضارية في بلاد الحرمين الشريفين»، أنه أثناء وجود السلطان الظاهر بيبرس في مكة للحج أبطل المكوس التي كانت تؤخذ على التجار عن كل ما يتاجرون به، كما أبطل ما كان يؤخذ من الناس في طريق الحج من مصر إلى مكة، وأبطل ما كان يأخذه أمراء مكة من حجاج مصر والشام وجميع مواكب الحج، خصوصًا بعد ان امتنع كثير من الحجاج عن أداء هذه الفريضة بسبب الظلم والإيذاء وكثرة الضرائب من أمراء مكة.

والأمر ذاته فعله السلطان الناصر محمد بن قلاوون في حجته الأولى عام 712هـ/ 1312م، إذ تصدق على أهل الحرمين بعشرين ألف دينار، وأرسل سفنًا إلى مدينتي ينبع وجدة، وتصدق على أهل المدينة أيضًا، وفي السنة التالية وصلته شكوى من عامة الناس في مكة من ظلم أمرائها حميضة وأسد الدين رميثة، فاستشاط غضبًا وأرسل لهما جيشًا كبيرًا لتأديبهما، إلا أنهما تمكنا من الهرب خارج مكة خوفًا من بطش السلطان المملوكي، بحسب الشمراني.

ومن إصلاحاته في مكة عندما حج ابن قلاوون أنه ألغى جميع المكوس التي كانت تؤخذ في بلاد الحرمين، وأصدر أمره إلى أشراف مكة والمدينة بعدم أخذها من الناس وعوّضهم عنها بإقطاعات في مصر والشام، كما ألغى أيضًا المكس المفروض على المواد الغذائية في مكة، وعوّض أميرها عطيفة بن أبي نمي بثلثي بلدة «دمامين» في صعيد مصر بالقرب من مدينة قوص، وذلك بعد أن شكى إليه الناس من غلاء الطعام خصوصا بعدما أصابهم القحط وعدم نزول الأمطار، فأرسل لهم السلطان ألفي إردب من القمح، فتيسرت الأمور، وبهذا تمكن من حل مشكلة الغلاء.

وكان من آثار إسقاط المكوس أن عم الرخاء على الحياة الاقتصادية في البلاد، فلما أُسقطت عن حجاج مصر والشام كثرت أعدادهم المتجهة للحج، وترتب عليه إنفاقهم على أنفسهم طوال الموسم من نواح كثيرة، مثل توفير المسكن والمأكل والمشرب، وأعمال الطوافة التي يتم تقديمها لهم بمقابل مادي، كما انتعشت الحياة التجارية، ورخصت الأسعار وكثرت البضائع، مما تسبب في توفير مستوى معيشي جيد، بحسب ما ذكرت الشمراني.

وفي أثناء وجود ابن قلاوون في مكة طلب سكانها وتجارها منه أن يعين لهم عسكرًا وجندًا تقيم عندهم، وتحميهم من شر وظلم ابن أبي نمي، فأجاب طلبهم، وترك عندهم 100 فارس بقيادة الأمير شمس الدين آق سنقر (ت728هـ/ 1330م)، وبعد انتهاء مهمته وعودته إلى القاهرة أرسل نيابة عنه الأمير سيف الدين الحاجب ومعه 100 فارس أيضًا، مما ترك أعظم الأثر في نفوس الناس، وزاد حبهم للسلطان المملوكي، فانتشر العدل والتسامح بينهم.

تأمين طرق الحج

تذكر «المنديل» في دراستها المذكورة آنفًا، أن السلاطين أولوا جُل اهتمامهم بتأمين طريق الحج، بخاصة في منطقة عقبة أيلة، وهي مدينة على بحر القلزم (الأحمر) وكانت حلقة وصل بين الحجاز ومصر والشام، وملتقى حجيج الشام ومصر المتجهين إلى الأراضي المقدسة، ومحطة استراحة قوافل الحجيج، وكذلك استراحة للسلاطين بعد عودتهم من الحج، حيث اهتم السلاطين المماليك بها، وبنوا فيها رصيفًا لرسو السفن التجارية، كما ربطوا العقبة بخط ملاحي بباقي موانئ الحجاز لنقل الحجاج الشاميين بحرًا.

وفي حجته الثانية عام 719هـ/ 1319م، وحجته الثالثة عام 732هـ/ 1331م، أصلح السلطان الناصر بن قلاوون طريق الحج في عقبة أيلة وأمر بإزالة الصخور، ومهدها ووسع ممرها، حتى أمكن سلوكها دون مشقة.

كما سعى ابن قلاوون إلى تذليل كثير من الصعاب التي كانت تواجه الحجاج، مثل قلة الماء مع الحر الشديد واندثار بعض آثار العيون، وعالج السلطان الناصر محمد في حجته الثانية هذه المشكلة بحفر الآبار وعيون الماء وصيانة الموجود منها، كما أمر بعمارة عين «خُليص» ليجري الماء منها إلى بركة يرد عليها الحجاج.

وبحسب «المنديل»، كانت عين «خُليص» من أحسن مناهل الماء للحاج وأعذبها، وكان الماء قد انقطع عنها عدة سنوات، ووجد الحجاج من ذلك مشقة، فأمر الملك الناصر بصرف مبلغ خمسة آلاف درهم لأمير «خُليص» لعمارتها لكي يتوفر الماء في البركة دائمًا.

كما شمل اهتمام سلاطين المماليك باب الكعبة المعظمة بالتغيير والتحلية، كما فعل السلطان الناصر محمد في حجته الثالثة عام 732هـ/ 1331م، حيث عمل بابًا للكعبة المشرفة من خشب السنط الأحمر، وأنفق على تحليته خمسة وثلاثين ألف درهم، ورُكِّب عام 733هـ/ 1332م.

مرافقة العلماء للسلاطين

أسهمت رحلات حج السلاطين في نشر العالم والثقافة ببلاد الحرمين، إذ رافقها عدد من العلماء والقضاة والدارسين، إما لأداء فريضة الحج ثم مجاورة البعض منهم، أو بحكم مهمة بعضهم، التي كانت إما للإفتاء أو القضاء، وهؤلاء لم يبخلوا بنشر علمهم بين الحجاج طلبة العلم في بلاد الحرمين.

ففي حجة السلطان بيبرس رافقه قاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي طول الطريق، وكان يستفتيه ويسأله في أمور الحج والنسك، وكان يصحبه من العلماء إبراهيم بن لقمان، وتاج الدين أحمد بن الأثير، روت الباحثة.

كما اصطحب السلطان الناصر محمد في حجته الثانية قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة، وفي حجته الثالثة اصطحب معه عددًا كبيرًا من القضاة والعلماء، مثل القاضي جلال الدين القزويني، والقاضي عز الدين عبدالعزيز بن جماعة، والشيخ موفق الدين الحنبلي، وعز الدين بن الفرات الحنفي، وفخر الدين النويري المالكي، ويلاحظ أن السلطان اصطحب معه في هذه الحجة القضاة الأربعة، وكانوا يجتمعون في خيمة واحدة ويردون على كل فتوى ترد إليهم.