رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، صرّح يوم عُيّن هاكان فيدان رئيسًا للمخابرات التركية بأن هذه الخطوة هي تطور مُقلق، بينما وصفه الرئيس التركي، أردوغان، بأن هاكان كاتم أسراره، واليوم يضعه أردوغان على رأس الدبلوماسية التركية بالكامل، ويُعيّنه وزيرًا للخارجية، وهي الحقيبة الوزارية الأهم في تركيا، وتُعتبر واجهة تركيا الدولية.

لكن على الرغم من كل هذه التصريحات، والمنصب المهم، يبدو أن هاكان اسمٌ قادم من الظل، لم يتردد كثيرًا في الأروقة الدولية أو العربية، فكان اختياره وزيرًا للخارجية بمثابة المفاجأة، لكنه بالتأكيد ليس مفاجأة لهاكان نفسه، الشاب الطموح الذي بدأ حياته كفنيّ حاسوب في وحدة معالجة بيانات تابعة للجيش التركي، قضى في وظيفته تلك بضع سنوات، حتى بدأت الأمور تأخذ منحى مختلفًا.

سافر هاكان بصفته ضابط صف تركيًا ليقضي فترة تدريبية لمدة ثلاث سنوات في إدارة الاستخبارات لقوات التدخل السريع في حلف الناتو، في تلك السنوات حصل على شهادة جامعية تؤهله للالتحاق بجامعة أمريكية، كانت تلك فرصته ليجد ضالته في نفسه، حب العلوم السياسية والإدارية النظرية، أكثر من شغفه بالعلوم العسكرية، لكنه ظل في المؤسسة العسكرية، حاول التوفيق بين الاثنين بالتقدم للحصول على درجة الماجستير من إحدى الجامعات التركية، كانت رسالته عن دور الاستخبارات في السياسة التركية، وقارن بينها والدور القوي للاستخبارات الأمريكية والبريطانية.

بعد هذه الرسالة ظل هاكان 3 سنوات أخرى ينازع بين التزامه العسكري ورغبته في الدخول لعالم الاستخبارات، لكن في نهاية المطاف، في عام 2001، قرر الاستقالة من العمل العسكري، وعمل مستشارًا سياسيًا للسفارة الأسترالية، عبر تلك الوظيفة دخل دهاليز الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومركز تدريب معلومات التحقق القائم بلندن، كما التحق بالأمم المتحدة عضوًا في معهد نزح السلاح.

انسجام هاكان وأردوغان

تقاطعت طرق أردوغان وهاكان عام 2003 تقريبًا، فأردوغان صعد للسلطة وفي داخله رغبة في العودة بتركيا لأحضان الشرق، هاكان كان في داخله نفس الرغبة، فتولى منصب مدير مؤسسة تيكا، المؤسسة المعنيّة بتعزيز دور تركيا الناعم في آسيا الوسطى والقوقاز، لكن طموح الرجل جعله يضع تركيا في قلب آسيا الوسطى، ثم أفريقيا ككل، والعالم العربي أجمع.

انسجم مع أردوغان أكثر حين تلاقت عقول الاثنين على ضرورة خلق مسافة استخباراتية بعيدًا عن إسرائيل والولايات المتحدة، لخلق حالة من الاستقلال التركي، وأراد هاكان كذلك التقارب مع إيران التي رآها قوة صاعدة، وهو نفس ما رآه أردوغان، هذا التناغم، مع إنجازات الرجل البارزة في تيكا، جعلت ثقة العدالة والتنمية ككل، وأردوغان بخاصة، في الرجل لا حدود لها.

لذا كان من البديهي أن يجرّبه في مهمة أصعب، لكن يحبها فيدان، وهي رئاسة الاستخبارات التركية عام 2010. هذا المنصب الحساس صادف حبًا قديمًا في نفس هاكان، والأهم أنه كان متماشيًا مع شخصيته وطباعه؛ وجه جاد، أحاديث نادرة، وابتسامة لا تكاد تُرى، ولغة خطابية أكاديمية، يمكن التجرؤ ووصفها باللغة المملة أحيانًا كثيرة.

نجح هاكان في مهمته، واستطاع تغيير وجه الاستخبارات التركية وتعزيز دورها، بما يتطابق تقريبًا مع سطور رسالة الماجستير التي قدّمها سابقًا.

لكن المفاجأة أنه بعد 5 سنوات من العمل الجاد والصامت، قدّم استقالته. وفي عام 2015 أعلن ترشحه للبرلمان ضمن قائمة العدالة والتنمية، لتقول تلك هي أول مناسبة لظهور إشاعات عن احتمالية تعيينه وزيرًا للخارجية، في ظل حكومة أحمد داوود أوغلو، لكن تلك الإشاعات لم تكن لصالح هاكان إطلاقًا.

منقذ تركيا من الانقلاب

ثلاثون يومًا قضتها الصحف التركية في التساؤل حول مصير هاكان، لكن الإجابة أتت من أردوغان شخصيًا، الرجل أعلن بوضوح شديد أنه لم يعلم بخطوة هاكان، وأنه ليس سعيدًا بها، وقال إن هاكان هو أمين أسراره وصندوقه الأسود، وإنه لن يسمح له بالاستقالة من المخابرات ليعمل في البرلمان، وأضاف أردوغان أن الملفات التي تعامل معها هاكان لا يمكن لغيره التعامل معها، كان هاكان هو المسؤول عن ملف تطهير أجهزة الدولة من أنصار فتح الله كولن، كما كان واجهة التفاوض مع حزب العمال الكردستاني، وهو المسؤول كذلك عن الملف السوري برّمته.

بعد تصريح أردوغان لم يجد هاكان بدًا من العودة لعمله، لا أحد يعرف ما دار في رأسه حينها، هل كان غاضبًا من أردوغان الذي قمع طموحه، أم سعيدًا بالثقة المطلقة التي أظهرها أردوغان فيه، المهم أن الرجل عاد إلى منصبه أقوى، وبدأ يضع اللمسات الأخيرة على جهازه الاستخباراتي ويصبغه بالشكل الأمريكي للمخابرات، فبات الجهاز أكثر تنفذًا من الجيش، وله قدرات على التصرف والحل والعقد أكثر من أي جهة أخرى في تركيا.

في منصبه القديم، الجديد، أدى هاكان فيدان أصعب دور له في تاريخ تركيا، فقد كان أول من علم باحتمالية حدوث انقلاب على أردوغان في اليوم التالي، قرر حينها عقد اجتماع عاجل مع كافة قيادات الجيش لبحث الحلول المقترحة، وأصدر قراراته بمنع أي طيران عسكري، ومنع تحريك أي آلية عسكرية من موقعها حتى إشعار آخر.

تحرك هاكان المبكر كان دافعًا للانقلابيين كي يُسرعوا من وتيرة انقلابهم، والقيام مبكرًا عن الموعد المحدد، بالتالي أصبحت الدبابات مكشوفة لحظة تحركها، وعلم أردوغان بالانقلاب فاستقل طائرته وألقى خطابه الشهير، سقط الانقلاب سريعًا، وظلت بطولات وتضحيات الشعب والضباط تتضح ساعة بعد أخرى، إلا قصة هاكان، فقد كان الرجل في موقف شديد الصعوبة، بين كونه البطل الذي كشف الانقلاب مبكرًا، أو المتراخي الذي لم يبلغ أردوغان بمجرد اكتشاف الأمر.

نحو خلافة أردوغان

لكن استمراره في منصبه، ثم توليه وزارة الخارجية حاليًا، يثبت أن أردوغان على وفاق معه، سواء رأى ما فعله تراخيًا، فقد سامحه، أو بطولةً فقد كافأه، لكن السؤال الأهم هو لماذا الآن تحديدًا؟ فيدان له علاقات ممتازة بالشرق والغرب، فهو من قاد المصالحة مع مصر والإمارات والسعودية، وهو من جلس مع بشار الأسد حديثًا، وهو متوافق مع أردوغان على ضرورة التحالف مع روسيا، وفي الوقت نفسه علاقاته الغربية جيدة لأنه يريد ترابطًا معهم، ويعتبر خريج الجامعات الأمريكية، وتدريبات الناتو.

أردوغان الآن في فترة رئاسية هي الأخيرة له، فالتكهنّات الآن لا تدور حول شكل تركيا في ظل حكمه للسنوات الخمس التالية، لكنها تدور حول كيف سيخلق أردوغان البدائل التي ستملأ الفراغ الذي سيتركه، وبالتأكيد يبحث الجميع في الوجوه التي تحيط بأردوغان عن البديل الذي سيُمهد له أردوغان ليصبح رئيس تركيا القادم.

وإذا راجعنا أسماء من خلفوا الرئيس أو رئيس الوزراء لوجدنا أن أسماء وزراء الخارجية كانت الأقرب لخلافتهم؛ مثلًا عبدالله جول، تولى وزارة الخارجية 4 سنوات، قبل أن يصبح رئيسًا للجمهورية، كذلك شغله أحمد داوود أوغلو لـ5 سنوات، وأصبح بعدها رئيس الوزراء، وكذلك هناك توركوت أوزال، شغل المنصب لمدة 3 سنوات، وتولى بعدها رئاسة الوزراء لعدة مرّات.

ربما لا يملك هاكان فيدان ذلك الحضور الجبّار لأردوغان، ولا يملك اللباقة والسلاسة الكافية لإلقاء خطاب في الشرفة الشهيرة، لكنه يمتلك الخبرة الكافية والإلمام بكواليس ودهاليز السياسة التركية ما يجعله خليفة جيدًا لأردوغان حال وقع عليه الاختيار، لكن يمكن أن يكون نقله لوزارة الخارجية مجرد ترقية وظيفية فحسب، كلها احتمالات واردة، تحمل الشهور القادمة وحدها إجاباتها.