المجد لمن قالوا لا في مواجهة من قالوا نعم!

أيقونة الشعر المعارض في مصر، «أمل دنقل»، عبَّر بكلماته هذه عن الخاضعين للواقع، ومجّد في أولئك الذين يقولون «لا» في مواجهة من قالوا «نعم»، اتُهم بالربوبية والنبوة، وبتأليب الرأي العام آنذاك على حكام رأوا في نفسهم ولاة الله على أرضه، وهو بريء من هذه الاتهامات براءة الذئب من دمِ ابن يعقوب.

الحسين بن منصور بن محمي، أو «الحلّاج» (سير أعلام النبلاء) واشتهر بهذا الاسم لأنَّه قيل إنه امتهن مهنة القطن، وقيل أيضًا إنه سُمي «حلاج الأسرار»، وُلد – في أغلب الظن – بـ«تستر» في فارس (إيران حاليًا)، من أصحابه سهل بن عبد الله التستري، وهو من أعلام الصوفية، والنوري أحمد بن محمد الخراساني، والجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي.

لعّل الغريب في الأمر أنَّ سير أعلام النبلاء أوردت اسم الحلاج، وقالت إنَّه صحب سهلًا، وسهل من المعروفين بالتقى والورع، وحسبما يقول الذهبي: «له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، وقدم راسخ في الطريق»، ألم يكشف ذلك أن لو الحلاج كان «زنديقًا» حسبما يدّعي البعض لكان كشف ذلك سهل وابتعد عنه وعن صحبته!

بالرجوع إلى ترجمة سيرة الرجل في موسوعة سير أعلام النبلاء، والتي تتناول ترجمات الأشخاص، ربما لن تجد لفظًا واحدًا يمدح فيه، وإلا أن كل ما يُذكر عنه هو اتهامه بالاحتيال وادعاء العلم، والشجاعة ضد السلاطين (وهو ما كان يُعاب في ذلك الزمن)، وارتكاب الكبائر، وقوله بالحلول (ومعناه أنَّ الله يحل فيه).


الحلاج زنديقًا

ربما كانت الأجواء السياسية في العصر الذي عايشه الحلاج (العصر الفاطمي) مدعاة للنقاش في كيفية تأثيرها على الصوفيين في تلك الفترة، وخاصة مع انهيار هذا العصر، بدأت الادعاءات والاتهامات للصوفية بأنهم ليسوا في الإسلام من شيء.

وصف البعض له بـ«ملعون خبيث» جعلت من أتوا بعد الحلاج أن يذكروا كلامه ولا يذكروا اسمه، حتى أن ابن الجوزي لم يدرجه في صفة الصفوة ضمن المصطفين من أهل بغداد – على افتراض أنه وُلد في العراق – ولكن أنصفه الخطيب البغدادي في مُؤلفه «تاريخ بغداد»، وكانوا يعتمدون كثيرًا على هذه الترجمة لعميد متصوفي العالم.

وجود الحلاج في العصر العباسي ونزوله إلى أمور العامة هو الذي عجّل بنهايته – التي عدّها البعض أبشع النهايات لرجلٍ متصوف – فالمعروف عن المتصوّفين أنهم لا يختلطون بالناس ولا بأمور العامة، وينزوون في أماكن زهيدة في كل شيء.

اتهام الحلاج للسلطة العباسية في ذلك الوقت بالبذخ والتبذير، وخاصة أن عامة الناس كان مطبوعا في أذهانهم فكرة أن السلطان هو مولى الله في أرضه؛ ساعد ذلك في انتشار الحملة الإعلامية الممنهجة – إن جاز التعبير- ضده لتشويهه واتهامه بالزندقة والكفر.


الجاسوسية

اتفقنا على أن الحلاج أخطأ حين نزل إلى عامة الناس، والاختلاط بهم، إلا أن هناك شيئًا آخر لا بد من ذكره هنا وهو أن الحلاج لما نزل إلى الناس يبلغهم بعلمه، بدأ خوف السلاطين على مكانهم وخوفهم من تأليب الناس عليهم، فبدأت الجاسوسية تسيطر عليهم فبدأوا يزرعون حوله من ينقلون أخباره على غير حقيقتها، ليُشاع بين الناس أنه ليس مسلمًا ولا متصوفًا.

التفاف الناس حول الحلاج لم يكن التفافًا حول شخصية مثيرة للجدل فحسب، في زمن انقطع فيه الغرائب والمعجزات بانتهاء زمن النبي محمد، إلا أنه التفاف من المحبين حول المحبوب، وهو ما قضّ مضاجع السلاطين في ذلك الوقت، فكان لا بد من أن يضع «مخبرًا» – إن جاز التعبير- ليخبره بكل أفعال الحلاج.

اتصال الحلاج بهذه الجماعات – والتي تُعّد ثورية في وقتها وليست كما يُشاع عنها أنها كانت خارجة عن الإسلام – جعله تحت أعين الجواسيس لدى الحاكم، وهو ما اتضح فيما بعد في محاكمته الثانية وليست الأولى حين خرج لائحة الاتهام – إن جاز التعبير عنها في ذلك الوقت – تتهمه بالتحريض على قلب نظام الدولة، ووصفه بـ«الخطر» على سلامة الدولة.

وتشير أغلب مصادر السنة إلى أن عداوة وزير بغداد في ذلك الوقت حامد بن العباس – وكان جبارًا – كانت سياسية بحتة، فكان يقال عنه إنه على علاقة بخصوم الدولة العباسية في ذلك الوقت، وهو ما أثار حفيظة الوزير فجنَّد بعضًا من أتباعه لتجميع التهم ضد الحلاج.


محاكمة عبثية

بعد قدوم الحلاج إلى بغداد انتسب للصوفية، وصار له مريدون، وذاع صيته، في كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير يقول: «بلغه (حامد بن العباس) أن الحلاج قد أضل خلقًا من الحشم والحجاب في دار السلطان، ومن غلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه».

جعفر بن المعتضد، المعروف بـ«المقتدر بالله» كان خليفة الدولة العباسية في ذلك الوقت، فتكلم ابن العباس معه في أمر الحلاج ففوَّضه أن يتكلم فيه، فاستدعى حامد الوزير بعضًا من أصحاب الحلاج فاعترفوا له – تحت التهديد- بأنه يدّعي الربوبية ويحيي الموتى.

الحلاج أنكر ذلك تمامًا، وقال: «أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أعرف غير ذلك‏، سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءًا وظلمت نفسي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».

وفي محاكمة الحلاج الثانية لما أحلّوا دمه، بعد أن حاججه القاضي أبو عمر محمد بن يوسف في وجهات نظره في بعض أمور الإسلام، فقال من كتاب «الإخلاص» لـلحسن البصري، فقال له القاضي: «كذبت يا حلال الدم»، فأراد الوزير أن يسجلها لدى القاضي؛ فوافق القاضي.

الحلاج لم يسكت في ذلك الوقت، في محاكمة عبثية مُلفقة ضده، فرد على القاضي لما نعته بـ«حلَّال الدم» قائلًا:

فكتب ابن كثير يقول: «فلا يلتفتون إليه ولا إلى شيء مما يقول، وجعل يكرر ذلك وهم يكتبون خطوطهم بما كان من الأمر‏».


الجهاد

لم يكن جهاد الحلاج إلا جهادًا ضد النفس، يحكي البغدادي في مؤلفه «تاريخ بغداد» أنه كان يجاهد نفسه جهادًا شديدًا، وكان يعذبها أحيانًا، حتى أنه كان يسكن في بيتٍ ليس به سقف صيفًا كان أو شتاء، ولكن لم يرتكن إلى الوحدة والانعزال مثلما يفعل الصوفيون.

يقول ابن الأثير في صور حالات الحلاج من جهاد النفس: «كان قد قدم من خراسان إلى العراق، وسار إلى مكة، فأقام بها سنة، لا يستظل تحت سقفٍ شتاءً ولا صيفًا، وكان يصوم الدهر فإذا جاء العشاء أحضر له الخادم كوز ماءٍ، وقرصًا فيشربه».

جهاد الحلاج ضد النفس وفي الفروض والعبادات كان نابعًا من أن الحقيقة الإلهية يمكن الوصول لها بكل ما أوتيت النفس من قوةٍ، وصلابة، فكانت روحه متسعة لكل ما في الأرض من كائنات، واحترام كل الديانات والمذاهب، وعلو على الطائفية والمذهبية والشللية – إن جاز التعبير.

الخلاص من اللذات والشهوات كان بالنسبة للحلاج هو التضحية بالجسد الفاني والارتقاء بالروح إلى بارئها، وهي على قيد الحياة، للوصول إلى الوجد والشعور بالتوحد مع الذات، خاصة في اعتقاده أن الروح هي نطفة خفيفة من روح الله.


البشاعة في التمثيل

ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا عليّ ما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين، فالله الله في دمي.

يظل الحلاج علامة فارقة في تاريخ الصوفية بشكل عام، وفي تاريخ الدولة العباسية بشكل خاص، إلا أن تلك الطريقة التي صُلب وقُتل بها، لن تكون مبالغة إذا قيل إنها كانت بشاعة في تمثيل بجثة شخص إلا لأغراض سياسية، وليس لتصوفه وتفوهه بكلام يثير حفيظة البعض في ذلك الزمن.

تحكي كُتب السير والتراجم أن الحلاج سيق إلى موته وهو مُكبَّل ومقيَّد في قدميه بثلاثة عشر قيدًا بحسب ما ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية»، ولكن رغم كل ذلك كان «يتبختر في مشيته»، ويُنشد: «أطعتُ مطامعي فاستعبدتني .. ولو أني قنعتُ لعشتُ حرًا».

لما كانت ليلة مقتله سمعه البعض وهو قائم يصلي طوال الليل يقول:

نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدى ما شئت من شأنك ومشيئتك، إني احتضرت وقتلت وصلبت وأحرقت واحتملت سافيات الذاريات‏، ولججت في الجاريات، وأن ذرة من ينجوج مكان هالوك متجلياتي، لأعظم من الراسيات.
البداية والنهاية

بعد المحاكمة أرسل حامد الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله بعدما أُحلَّ دمه، فأذن له في ذلك، فسلمه لصاحب الشرطة، فضربه ألف سوط فما تأوه، ثم قطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم قتل وأحرق بالنار، وهو في ذلك كله ساكت ما نطق بكلمة، ولم يتغير لونه، ويقال‏:‏ «إنه جعل يقول مع كل سوط أحد أحد».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.