قد يبدو صعبًا الاستخفاف بالأهمية الفائقة للعلاقة التي سادت بين حركة المقاومة الإسلامية حماس وإيران خلال السنوات الماضية، قبيل حدوث التوتر في العلاقة بسبب خلافهما حول الملف السوري.

مع العلم أن المتابع لآثار وتبعات هذه العلاقة، يرى أن طهران حريصة فعلاً أن يكون لها «تداخلات» في تطورات الموقف الميداني في الأراضي الفلسطينية، سواء عبر بوابة حماس أو سواها من القوى المسلحة، وهو ما قد يفسر تواصل المتابعات الرسمية الإيرانية لتطورات المشهد الفلسطيني على مختلف الأصعدة، وفي كل المجالات.

فقد شهدت السنوات الأخيرة، تناميًا للنفوذ الإيراني في الأراضي الفلسطينية، وبات يصفه البعض بـ «التدخل الخارجي»، وشكّل تحديًا واضحًا لدوائر صنع القرار المحلي والإقليمي والدولي، بالتزامن مع تنامي حركات المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس.

ولذلك يمكن قراءة الموقف الإيراني من المسألة الفلسطينية عمومًا، وحماس خصوصًا، ليس انفعالاً مؤقتًا، أو حماسًا زائدًا، أو مغامرة بلا حسابات للقوة المطلوبة في إدارة الصراع، كما لا يعني في نفس الوقت الانجرار إلى حرب ضد إسرائيل في وقت تحدده هي؛ لأن إيمان إيران بزوالها، لا يعني الاندفاع لـ «إلقائها في البحر» دون استعداد كافٍ.

ومنذ بدء اتضاح العلاقة الإيرانية مع حماس منذ نشأة الحركة أواخر العام 1987، وحتى حلول مرحلة الفتور في العلاقة أواخر 2011، وما تخلل هذه المرحلة من تنامي التعاون والتنسيق على مختلف المستويات، لا سيما العسكرية والإعلامية، تداخلت متغيرات عديدة في أنماطه وأهدافه.

لم يقف الاختلاف المذهبي، السني والشيعي، عائقًا أساسيًا أمام علاقة إيران وحماس.

ومع ذلك، فإن قراءة فاحصة في واقع العلاقة الإيرانية مع حماس، تشير إلى أن حسابات المصالح الوطنية والقومية تداخلت مع تأثيرات التدخل الخارجي، بحيث لم يقف الاختلاف المذهبي، السني والشيعي، عائقًا أساسيًا أمام هذه العلاقة.

وربما بإلقاء نظرة علمية دقيقة على هذه العلاقة، يتضح بأن طبيعة الطموحات الإيرانية تشير إلى أنها لا تطمح لتوسيع مساحة أراضيها على حساب جيرانها، بل تعمل على توسيع نفوذها في البلدان المجاورة، بتمسكها بـ «ورقة» القضية الفلسطينية، ودعم المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، بما يمنحها «شيكًا على بياض»، و«بوليصة تأمين» لدى الرأي العام الفلسطيني، وربما كان هذا مجديًا إلى حد كبير قبيل تورط إيران في الحروب التي تشهدها المنطقة، في العراق، سوريا، اليمن، لبنان.

وفي ضوء أن طهران قوة إقليمية، وتطمح لتكريس دورها ضمن النظام الراهن، فقد جعل ذلك من سياستها الخارجية ناشطة وطامحة وقائمة على عدة ركائز؛ كدعم الجماعات الفلسطينية المسلحة، وعلى رأسها حماس، لأسباب رمزية، و«ممتلكات» احتياطية، وصولاً منها لكسب ود الرأي العام العربي في سبيل تطويق عداوة الأنظمة العربية لها، وهي ركائز تتأثر كل منها بعدة عوامل تعزز قوتها، وترسم حدودًا لها في الوقت نفسه.

ولابد من الإشارة إلى اعتماد إيران لإستراتيجية «الدفاع غير المتماثلة» التي تكلف كثيرًا من يوجه ضربة مباشرة لها، وتقوم على الدفاع المكون من قدرات عدة جماعات مسلحة؛ منها حزب الله اللبناني وحماس الفلسطينية، ويجعلها ذات تأثير بالغ على أعدائها، ويجعل القوى الإقليمية المقربة منها في العراق، فلسطين، لبنان، توفر انتشارًا دائمًا ومتحركًا ودعمًا شعبيًا، وقادرة على مواجهة قوة عسكرية متفوقة تقنيًا، كالجيش الإسرائيلي.

ترى إيران أن دعمها للحركات المسلحة الفلسطينية ليس مفاجئًا، أو مرتبطًا بتحقيق أجندة إقليمية آنية، بل له جذور تاريخية، تعود لما قبل اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، التي شهدت تزايد الدعم السياسي والإعلامي، بحيث أن مرشدها «الخميني» بادر لتحويل السفارة الإسرائيلية زمن «الشاه» إلى سفارة للثورة الفلسطينية، وامتلك علاقات وثيقة مع الزعيم الراحل ياسر عرفات أوائل سنوات الثورة، وقد ازداد ذلك بعد ظهور الحركات الفلسطينية المسلحة، لا سيما ذات الطابع الإسلامي العقائدي.

ثمة حاجة فعلية لتقديم قراءات بعيدة عن العلاقة بين حماس وإيران؛ مما يستدعي تناولاً موضوعيًا يخاطب العقل بلغة تحليلية ضمن حسبة موضوعية، في ضوء وجود اختلافات مفصلية، ومحددات معلومة ومضبوطة بين البناء التاريخي والأيديولوجي لحركة حماس من جهة، وشكل العلاقة المبنية مع إيران من جهة أخرى؛ مما لا يترك مجالاً لأي فراغات غير مفهومة لشكل العلاقة، ويجعل من محاولات وصفها بـ «التابع والمتبوع»، أمرًا مستعصيًا يصعب الأخذ به من الناحية العقلية.

دعم إيران للحركات المسلحة الفلسطينية ليس مفاجئًا أو مرتبطًا بتحقيق أجندة إقليمية آنية، بل له جذور تاريخية تعود لما قبل اندلاع ثورة 1979.

أثبتت تطورات الأحداث أن تحالف حماس الإستراتيجي مع إيران، وأنها ورقة بيدها تأتمر بأوامر مرشد الثورة في طهران، هي من باب الوهم والتضليل لغايات سياسية؛ لأنه إن كان الأمر كذلك، فما الذي يدعو لوجود الاختلافات العديدة بينهما؟.

فحماس تربطها علاقات وثيقة بمختلف الدول العربية، بصورة معاكسة تقريبًا لعموم السياسة الإيرانية، وعلاقتها مع السعودية تتصف بالإيجاب، في حين هناك توتر غير خفي بين الرياض وطهران. كما أن هناك علاقات إيجابية بين حماس ودول قطر والبحرين والكويت واليمن، في حين تعيش هذه الدول حالة من التشكك والحذر الشديد مع إيران.

وإذا كانت حماس ورقة هشة بيد طهران، فلماذا كانت أول حركة سياسية تدين بشدة إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وتعتبره اغتيالاً سياسياً بامتياز؟، رغم الموقف الإيراني المعروف منه، واعتباره الخصم اللدود لها؛ مما يدلّل بصورة موضوعية على وجود تباينات جوهرية تجعل من سياسة كل منهما كيانًا منفصلاً عن الآخر.

ويتبنى إعلام حماس (قناة الأقصى الفضائية والمركز الفلسطيني للإعلام)، سياسة مغايرة تمامًا عن سياسات وتوصيفات وتحليلات الإعلام الإيراني فيما يخص الشأنين العراقي والأفغاني، وعمليات المقاومة فيهما، بصورة تعزز الاختلاف الكبير بينهما بهذا الصدد.

تؤمن حماس بالإصلاح كمبدأ عملي للتغيير، بينما يعتمد الإيرانيون الثورة في بنائهم التغييري، ولكلتيهما مظاهر وأسس مختلفة تمامًا عن الأخرى، قد تصل بعض الأحيان التضاد الواضح.

كما أن إعلان تأسيس حماس عام 1987 لم يحفل بالإشارة لا من قريب أو بعيد بالجمهورية الإيرانية، بل إن رموزها الكبار، من أمثال الشيخ ياسين والرنتيسي وأبو شنب والمقادمة وشحادة ممن أسسوها في الداخل، لم يقابلوا أيًا من المسئولين الإيرانيين في حياتهم.

حماس تعتبر فرعًا أصيلاً من جماعة الإخوان المسلمين «السنية»، الموجودة تاريخيًا قبل قيام ثورة الخميني عام 1979 بأكثر من نصف قرن تقريبًا، وبالتالي يغدو الحديث عن نشأتها في المحضن الإيراني ادعاءً غير منصف بناءً على وقائع التاريخ والجغرافيا. كما مُنحت شهادة الميلاد الأولى الأكثر بروزًا لجسم الحركة الخارجي المعروف باسم «المكتب السياسي» في العاصمة الأردنية عمان أوائل التسعينيات، ولم تكن الولادة في طهران.

طبيعة علاقة حماس بإيران ليست بالزواج الكاثوليكي الذي لا يمكن الانفصال عنه، وإنما تحالف مصالح لدى الطرفين.

كما شكّلت دول الكويت والإمارات والأردن محاضن الولادة والنشأة والتربية الدعوية لقيادات المكتب السياسي الحاليين، ولم يثبت أنهم قاموا قبيل إعلان الانطلاقة بنسج أي من أشكال العلاقة مع إيران، أو القيام بزيارات مكوكية أو بروتوكولية إليها، أو سفاراتها المفتوحة في الدول العربية. بل إن الرئيس الإسرائيلي السابق «شمعون بيريس» أجاب عندما سئل في منتصف التسعينيات: لماذا تسكتون على استضافة قيادة حماس في عمّان؟ بقوله: «بقاؤهم في عمان أفضل من ذهابهم إلى طهران».

يمكن الخروج بخلاصة أخيرة تتمثل بتصميم حماس التقليدي، وعزمها الأكيد على إعلان عدم خضوعها لسيطرة إيران، أو تقع في براثنها، حتى لو كانت حليفة لها، فطبيعة علاقة حماس بإيران ليست بالزواج الكاثوليكي الذي لا يمكن الانفصال عنه، وإنما تحالف مصالح لدى الطرفين.

وتؤكد قيادة حماس في الداخل والخارج على التزامها ببرامجها الوطنية القومية ذات الصبغة الإسلامية، وعدم توسيعها لدائرة جدول أعمالها، أو رسم أهداف جديدة، لا سيما وأن المتبادر إلى الذهن وجود مناخ من فقدان الثقة النسبي بين زعماء إيران «الشيعية» وحماس «السنية».

لعل التفسير الأكثر إقناعًا في علاقة حماس بإيران أنها حركة تتعاطى السياسة بذكاء حاد، ولديها ثوابت تعتبر رأسمالها، وبين يديها مجال واسع للمناورة تحت سقفها، فهناك مصالح يمكن أن تتقاطع مع هذا الطرف أو ذاك، وتستفيد من المعطيات المتوفرة، وتغتنم أي فرصة لاختراق حصار يفرضه أعداؤها عليها، وفي ذات الوقت تعرف أن للأطراف الأخرى مصالح يجب أن تراعى ضمن مجال المناورة الذي تحدد سقفه سلفًا.