رغم تغير الكثير من الأوضاع في المنطقة، ما زالت علاقة حركة المقاومة الإسلامية – حماس بإيران تستحث جدلاً واسعاً لا ينتهي ولا يصل لنتائج محددة قد تقنع و/أو ترضي مختلف أطراف المعادلة. ويتكرر هذا الجدل ويتجدد مع كل تصريح من قيادي في حماس بخصوص العلاقة مع طهران، غالباً من قبل حاضنة الحركة العربية ومؤخراً في أوساط الحركة وبين أبنائها.

ورغم الكثير من الحقائق الظاهرة والتطورات المعروفة للجميع والتوضيحات المستمرة من حماس وقياداتها، يبدو أن حالة الاستقطاب في المنطقة وواقع التمدد الإيراني في الإقليم يحجبان كل ذلك ويدفعان دائمًا ومجددًا إلى التذكير ببعض هذه الحقائق لعلها تجد طريقها للعقول في لحظة انتشال من حدة الأحداث وهيجان العاطفة.


أولاً، لماذا إيران؟

لدى الحديث عن العلاقة بين حماس خصوصًا والمقاومة الفلسطينية عمومًا بإيران، يتبادر إلى الذهن أولاً وغالبًا الدعم المالي أو العسكري المقدم من طهران، لكن إيران تمثل في المعادلة الفلسطينية ما هو أكثر وأثقل من ذلك. فهي تمثل:

1- الدولة الوحيدة من بين الدول المؤثرة في القضية الفلسطينية – فيما أعلم – التي ما زالت مصرة على رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، بل ويدعو خطابها الرسمي إلى محوه من الخريطة وإزالته من الوجود. وهذا بُعْدٌ لا يمكن بحال التقليل منه لدى تقييم الدور الإيراني في القضية الفلسطينية ومساحة المناورة التي يتيحها ذلك لفصائل المقاومة.

2- دولة إقليمية كبيرة وقوية ومستقرة وذات مقاربة مختلفة للقضية الفلسطينية، خصوصًا في خروجها غالبًا عن أطر النظام الدولي «صنفت كثيرًا على أنها دولة مارقة»، مما يتيح لها سقفًا أعلى بكثير من دول وأطراف أخرى.

3- دولة ذات مشروع يتناقض مع المشروع الصهيوني، وليس من أدلة وقرائن معتبرة تفيد بعكس ذلك، بل لا فائدة من إصرار بعض التقييمات على تماهي المشروعين. فالتناقض – أو التنافس بالحد الأدنى – بين المشروعين قائم وظاهر ولا يمكن تجاهله بدليل تقييمات الأمن القومي «الإسرائيلي» الدورية على الأقل، وإن حصلت أحيانًا بعض التداخلات والمصالح المؤقتة التي تفرض نفسها على كل الدول والأنظمة وفق البراغماتية المعروفة.

4- دولة داعمة لحزب الله في لبنان، والذي يمثل «جبهة» مواجهة للكيان الصهيوني رغم تدخله المدان – والمستنزف له – في سوريا. ومن المؤسف أن الكثير من التقييمات العاطفية تفترض التناقض بين وجْهَي الحزب بينما هما موجودان معًا في الواقع: ترس في ماكينة المشروع الإيراني وحزب مقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني.

5- الدعم المالي والسياسي والعسكري والأمني الذي تقدمه إيران لحماس خصوصًا وفصائل المقاومة الفلسطينية عمومًا، وهو دعم حقيقي كما يرد على ألسنة قيادات حماس، وتكفي في هذا الإطار الإشارة إلى أن الدعم العسكري «السلاح» تحديدًا أمر لم تقدم عليه أي دولة أخرى حتى الآن بغض النظر عن سبب ذلك: عجزًا أم زهدًا أي لغياب القدرة أم الرغبة.

وفق هذا التقييم، وبوضعه إلى جانب حقائق أخرى مثل تنكر الدول العربية لحماس وحاجتها الملحة للدعم العسكري وأزماتها المركبة في ظل تطورات الإقليم، لا تبدو علاقة حماس بطهران وحرصها على العلاقة معها وقبول الدعم منها أمرًا ترفيًا بحال، بل يبدو من ضرورات البقاء والاستمرار.


ثانيًا، بين قبول الدعم والتأييد

يخلط الكثيرون بغير قصد والبعض الآخر بقصد بين قبول حركة حماس للدعم من إيران – وغيرها – وشكرها على ذلك وبين تأييدها لإيران في سياساتها وقراراتها خصوصًا تلك المتعلقة بالمنطقة عمومًا وسوريا على وجه التحديد.

ورغم بداهة التفريق بين الأمرين من وجهة نظر موضوعية، ورغم وضوح أن التوافق بين الجانبين مقصور على القضية الفلسطينية ومواجهة المشروع الصهيوني، إلا أنه يمكن الرجوع لأمرين على درجة بالغة من الأهمية والدلالة في هذا السياق. الأول، شكر حماس لإيران على دعمها في ذروة الخلاف وتراجعه العلاقات بينهما في 2012 و2013، والثاني، تركيز قيادات الحركة في كلامهم مؤخرًا على أن العلاقات مع إيران لا تفترض ولا تعني التوافق بشكل تام على كافة المواضيع بل لا تلغي الخلافات القائمة في الرؤى والمواقف بين الطرفين، وهو ما قاله صراحة نائب رئيس المكتب السياسي لحماس في لقائه قبل أيام على فضائية القدس.


ثالثًا، بين النظرة الكلية والضيقة

تجنح الكثير من التقييمات لحركة حماس نحو اجتزاء تصريحات معينة – غالباً غير موفقة في صياغتها أو توقيتها – لوصف ووصم موقف الحركة الكلي من العلاقة مع طهران أو من القضية السورية أو غيرها من المواضيع.

والأمانة تقتضي والموضوعية تقول إن تقييم الموقف ينبغي أن يكون شاملاً ويعطي كل جزئية حقها، إذ لا يمكن بحال وضع تصريح هنا أو كلمة شكر هناك في نفس كفة قرار استراتيجي اتخذته الحركة في 2012 بالخروج من سوريا مثلًا وما عناه ذلك من خسارة فادحة لها على صعيد الدعم والانتشار وشبكة الأمان الإقليمية. لا سيما وأن القرار عنى أن علاقات الحركة قد تدهورت إلى أسوأ مستوياتها مع كل من إيران والنظام السوري وحزب الله على حد سواء، وهي خسارة لم تستطع الحركة تعويضها من خلال شبكة علاقاتها الأخرى التي تحسنت مع أطراف وازنة في المنطقة لم تكن وما زالت لا تستطيع تقديم كل ما تحتاجه حماس كحركة مقاومة.


رابعًا، الدور والمسئولية

يتيه وسط حالة الاستقطاب والمواقف العاطفية في بعض الأحيان تقديرُ الثغرة التي تقف عليها حماس خصوصًا والمقاومة الفلسطينية عمومًا، وهي مواجهة المشروع الصهيوني بكل دلالاته المدمرة للمنطقة وبكل عناصر قوته المادية والسياسية والعسكرية والغطاء الأمريكي والدولي الممنوح له.

والحال كذلك، وفي ظل انشغال الشعوب العربية وقواها في القضايا القطرية – ولهم في ذلك عذرهم – وفي ظل التنكر النظام العربي الرسمي للمقاومة الفلسطينية ومشاركة بعض أركانه في حصارها وملاحقتها، تصبح المقاومة الفلسطينية وحيدة على ثغر خطير لا يمكن التساهل في تغطيته. ولذا، يخرج هنا التسلح والعلاقات والدعم الذي تتلقاه الحركة وباقي فصائل المقاومة من إطارها العادي إلى أبعاد أكثر حساسية تصل لدرجة الحياة أو الموت، الموت غير المقبول وغير المسموح به في مواجهة الكيان الصهيوني.

واليوم، مع قرارات إدارة ترمب باعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال والنية بنقل السفارة الأمريكية لها والتهديد بقطع المعونات للـ«أونروا» وللسلطة الفلسطينية لإعادة الأخيرة إلى طاولة المفاوضات، ومع الخطوات «الإسرائيلية» مؤخراً لضم الضفة وإخراج القدس من أي مسار سياسي مفترض أو محتمل، وفي ظلال مشروع التطبيع الخليجي – العربي مع الكيان الصهيوني وملامح ما يسمى بـ«صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية، ينبغي أن تكون هذه الحاجة الفلسطينية – الحمساوية أكثر وضوحًا وقبولًا وتفهمًا من أي وقت مضى.


خامسًا، الدعم المشروط والاستجابة

لم يثبت التاريخ أن حركة مقاومة أو تحرر وطني أو ثورة ما في أي بلد استطاعت الانتصار دون دعم خارجي أو أنها انتصرت دون السند من محيطها وحلفائها، بغض النظر عن نواياهم وأهدافهم الذاتية التي لا تتطابق في العادة مع أهداف ونوايا أصحاب المعركة، وإنما يتعاونان على قاعدة التقاء المصالح. إذن، فلا يتعلق الأمر بمبدئية تلقي الدعم بقدر ما يتعلق بنتائجه وتداعياته أو المقارنة بين إيجابياته وسلبياته، بمعنى تحويل الدعم لإسناد وليس لأدة إخضاع وتسيير.

تقدم مختلف الدول لـ«كيانات ما دون الدولة»، أي التيارات والحركات والأحزاب وغيرها، دعمًا بسُقُفٍ متباينة وأنواع متعددة منها السياسي والإعلامي والاقتصادي والمالي والعسكري، ويتفق الجميع على أن الدول ليست مؤسسات إغاثية وإنما تقدم الدعم لأهداف تفيد مصالحها هي، ولذا فالأهم – مرة أخرى – هو كيفية إدارة الطرف المتلقي للدعم للعملية ومدى حفاظه على قراره المستقل.

وفي الخصوصية الفلسطينية، لعل حماس قد أثبتت أكثر من مرة أن قرارها ذاتي ومستقل وأنها لا تخضع لاشتراطات معينة مقابل ما يصلها ولا ترهن قرارها لمن يقدّمه. المثال الأبرز في هذا السياق هو موقفها من النظام السوري ومخاطرتها بعلاقاتها مع المحور الذي لم يستطع أي طرف آخر تقديم ما كان يقدمه «ولن يستطيع في المدى المنظور، ورفضها الطلبات الإيرانية سابقاً بفتح مراكز ثقافية إيرانية أو ربما حسينيات وما إلى ذلك، وهو ما دفع طهران خلال سنوات التأزم في العلاقات للمراهنة على أطراف أخرى في المعادلة الفلسطينية ومحاولة صناعة أطراف أخرى مثل حركة «الصابرين».


سادسًا، السياسة والمبادئ للجميع

يُرفع دائمًا في وجه حركة حماس شعار المبادئ باعتبارها حركة ذات مرجعية إسلامية وتُطالب كثيرًا بتقديم المعايير الأخلاقية على المصلحة السياسية في مواقفها سيما تلك المتعلقة بإيران. ثمة نقاش ينبغي أن يثار هنا حول مساحات «الأخلاق» و«المصالح» في العمل السياسي حتى لدى الإسلاميين، وتعريف المصلحة وحدودها والمبادئ وإكراهاتها، ولعل إحدى أهم مساحات ذلك النقاش المطلوب تلك المتعلقة بالتفريق بين المصلحة الذاتية المادية الضيقة والمصلحة العامة الضرورية المعتبرة.

لكن، وأبعد من مساحة ذلك النقاش الضروري والمهم، لا يبدو أن «سلاح» الأخلاق والمبادئ يسري على الجميع ومع الجميع في المنطقة العربية وبين الإسلاميين العرب وبل ومع الحركة نفسها، مما يشير إلى أن الأمر انتقائي ورغبوي وفي اتجاه واحد فقط تحت ضغط إكراهات الإعلام والسياسة والعلاقات وضعف الوعي السياسي وأحيانًا التعمّد. فمثلاً:

*يُلام على حركة حماس علاقاتها – وليس فقط بعض مفردات خطابها – مع إيران من باب أنها ذات مشروع توسعي في المنطقة ومسئولة عن سفك دماء شعوب عربية «وذلك صحيح، ولا خلاف عليه»، ولكن لا يعاب عليها علاقات تنسجها أو تحرص عليها مع دول أخرى أيضًا ذات مشروع نفوذ وتوسع ومسئولة عن سفك دماء شعوب عربية.

*ويُلام عليها ما لا يلام على غيرها من الأطراف خصوصًا الدول التي لها علاقات طيبة مع إيران، من باب أن الدول تتعامل بالمصالح بينما الحركات الإسلامية ينبغي أن تتعامل وفق المبادئ والأخلاق. مع أن مفهوم العمل السياسي بحد ذاته يتناقض مع هذه الفكرة، ومع أن الدول لديها من الإمكانات ما قد يغنيها – إن أرادت – عن العلاقات مع هذا الطرف أو ذاك وتبدو أكثر استغناءً عنها من حركات التحرر والمقاومة المحاصَرة والملاحَقة والمحتاجة لكل أنواع الدعم من جميع الأطراف.

*ويلام عليها ما لا يلام على تيارات وحركات وأحزاب إسلامية أيضًا في العالم العربي والإسلامي تقيم علاقات مع أطراف لديها مشاريع توسعية وتوسيع النفوذ وأياديها ملطخة أيضًا بدماء شعوب المنطقة في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ومن ضمنها دول وأنظمة عربية، فيُقدَّم بين يديها عذر الاضطرار وتُغيَّب مساحات الأخلاق والمبادئ بقصد أو عن غير قصد.

أخيرًا، فهذا الكلام ليس تبريرًا لبعض التصريحات التي وردت على ألسنة بعض قيادات حماس والتي أثارت جدلًا حولها، بقدر ما هو محاولة جادة لتلمس ضرورات العلاقة بين الأخيرة وطهران. واليوم، وفي ظل الخطوات الأمريكية و«الإسرائيلية» الخطيرة والمتلاحقة لتصفية القضية الفلسطينية عمليًا، تبدو الحركة أحوج من أي يوم مضى للعلاقات والتحالفات والدعم من مختلف الجهات سيما دولة مثل إيران. ولعله من المنطقي توقع أن يكون هدف تلك التصريحات وبعض صياغاتها ومفرداتها هو دولة الاحتلال، بينما للأسف يثور الجدل داخل أوساط حماس ومع حاضنتها العربية والإسلامية.

بيد، لا يعني كل ما سبق أن العلاقة مع إيران بلا عوائق أو تحديات، فلا المنطقة هي المنطقة نفسها ولا إيران هي إيران ذاتها ما قبل 2010. وعليه، تحتاج حماس وقياداتها فعلاً إلى «ميزان الذهب» فيما يتعلق بالخطاب ومفرداته والحضور الإعلامي وحدوده حين يرتبط الأمر بإيران، بحيث تحقق العلاقة أقصى الفائدة من الناحية العملية وتتجنب قدر الإمكان الخسائر أو الأضرار الجانبية غير المرغوب بها سيما إعلاميًا. كما لا يجب على الحركة أن تمل أو تسأم من تكرار التوضيح والتفسير من جهة ومراجعة الخطاب ونتائجه من جهة أخرى، ذلك أن ضرورات العلاقة ليست هي نفسها ضرورات الخطاب في عالم السياسة، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.