صاحب اعتناق سكان المغرب العربي للإسلام ظهور مدّعي نبوة خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة، وذلك نتيجة لأسباب سياسية واجتماعية عديدة، فوضعوا تشريعات حاولوا من خلالها مضاهاة التشريعات الإسلامية بما يناسب بيئتهم التي نشئوا فيها، وكان من بين هؤلاء «حاميم».

عوامل ظهور مدّعي النبوة

ويذكر إسماعيل سامعي في دراسته «مدعو النبوة في بلاد المغرب الإسلامي. تحدي واستجابة»، أن ظروفًا سهَّلت ظهور مدعي النبوة، كان في مقدمتها تلك التحولات الكبرى التي شهدها المغرب منذ الفتح العربي والإسلامي في نهاية القرن الأول الهجري والتاسع الميلادي، إذ اصطدمت التغيرات التي أدخلها الإسلام بما كان قائمًا من تعاليم وعقائد وشرائع وتقاليد.

ويشرح أن تعاليم الشريعة الإسلامية شكَّلت ثقلًا على البربر في مرحلة التحول، وكانت سببًا في نفور بعض القبائل وعدد من السكان من بعض تعاليمه وليس منه، لا سيما ما يخص الأموال، كالزكاة والجزية التي أبقاها عليهم بعض الولاة رغم اعتناقهم الإسلام، وكذلك فرائض الصلاة والصوم والحج وما يترتب عليها من جهد وامتناع عن الشهوات.

وكانت دعوات الخوارج سببًا في ظهور هؤلاء المتنبئين، فقد انتقلت دعوة الخوارج الصفرية والإباضية وتمكنت من سكان أرياف وبوادي بلاد المغرب، والتي تنسجم تعاليمها، خاصة السياسية منها، مع ميول هؤلاء السكان إلى الحرية، ورفض قيود النظام الذي تفرضه سلطة مركزية، لا سيما أن الخوارج جاءوا بفكرة حرية اختيار الأمة للحكَّام حتى ولو كان عبدًا أسود، وعزله إذا انحرف أو بغى.

ومثلَّت هذه الأفكار دافعًا قويًّا لركوب موجات التمرد والردة، ومحاولة ادعاء النبوة، ومن أقوى ردود الأفعال التي كان للفكر الخارجي الدور الأساسي فيها ثورة مسيرة المطغري في الركن الغربي من بلاد المغرب عام 740م/ 122هـ، كما كانوا من وراء الثورات التي اشتعلت نارها في جهات مختلفة من بلاد المغرب.

ويذكر «سامعي» أن الطابع الاستقلالي للقبيلة والزعامة المتجذرة فيها وروح المقاومة، وسلوك بعض الولاة وتعسفهم في أوائل الفتح أدت إلى عدد من ردود الأفعال، منها الردة عن الإسلام، والتمرد والقيام بثورات، والمقاومة السياسية والفكرية التي ظهرت في أكثر من ملمح، منها مدعو النبوة، ومنهم «حاميم» الذي وضع تشريعات عُرفت باسم ديانة «حاميم»، أو ديانة غمارة نسبة إلى المنطقة التي انتشر فيها أتباعه.

وظهرت هذه الديانة بعد نحو قرن مما عرف بـ «ديانة برغواطة» التي ظهرت على يد مدَّعٍ للنبوة يدعى طريف أبو صالح بالمغرب العربي في أوائل القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي، واستمرت حتى منتصف القرن السادس الهجري، ودان أهلها بمعتقدات دينية بعيدة عن الإسلام، وسيطروا على مناطق واسعة.

مؤسس ديانة غمارة

مؤسس ديانة «حاميم» هو أبو محمد حاميم بن منِّ الله بن حريز بن عمرو بن جفوال بن وزروال، ونشر دعوته في بلدة غمارة الجبلية وتحديدًا في منطقة مجكسة، قرب تطوان سنة 313هـ/ 925م، واجتمع إليه كثير من أفراد قبيلته، وأقروا بنبوته.

ويذكر طارق بن زاوي في دراسته «مظاهر الزندقة في المغرب والأندلس وآثارها السياسية من القرن 1هـ إلى القرن 7هـ / 7م إلى 13 م»، أن اسم حاميم مأخوذ من القرآن الكريم، إذ يوجد عدد من السور تبدأ بـ «حم»، مثل «غافر» و«فُصلت»، و«الشورى»، و«الزخرف»، و«الدخان»، و«الجاثية»، و«الأحقاف».

ولم تفصح المصادر التاريخية عن السبب الذي دفع «حاميم» إلى اتخاذ هذا اللقب، والغالب أنه حاول أن يستمد شرعية ادعائه النبوة انطلاقًا من القرآن الكريم، لا سيما أن بعض المفسرين يفسرون حرفي «طه»، وهما أول سورة «طه» بأن المقصود به الرسول محمد، فربما بلغ «حاميم» هذا المعنى فاختار هو الآخر حرفين من القرآن الكريم، فادَّعى أنه المقصود بحرفي «حم» المذكورين في عدد من سور القرآن الكريم، حسبما يرجح «زاوي».

وكنية «حاميم» أبو محمد، وأبوه يحمل أسماءً عربية إسلامية هي أبو خلف منُّ الله، وكذلك جده وجد جده، ما يدل على أنها أسرة بربرية عريقة في الإسلام.

وكان لحاميم من البنين محمد، وبه كان يكنى – أبو محمد – وعبد الله، وعيسى الذي كان أوفده إلى الأندلس في عهد الأمير عبد الرحمن بن محمد، بقصد توطيد العلاقات بينهما في ظل الصراعات الداخلية بين الأمويين والفاطميين التي كانت تشهدها بلاد المغرب، ورغبة حاميم في الاستفادة من هذا الصراع لصالحه.

ثقل تكاليف الشريعة

ويروي «سامعي» أن عوامل عديدة ساهمت في انتشار تعاليم وتشريعات «حاميم» بين سكان غمارة، منها استفادة الدعوة من الصراع الأموي الفاطمي على النفوذ في المنطقة الغربية من المغرب العربي، فحققت بعض المكاسب على المستوى الداخلي بكسب سكان الجبال الأشداء وتشريع ديانة تليق بطبائعهم وبساطتهم الفكرية، والتي من شأنها تخفيف ثقل تعاليم الشريعة الإسلامية، لا سيما فيما يختص باحترام النظام والخضوع للسلطة المركزية وأداء فريضة الزكاة من جهة، وإيجاد غطاء شرعي يدعم استقلالها من جهة أخرى، وعلى جانب آخر كسب دعم الأمويين بالأندلس لهم.

وبحسب «سامعي»، مثلَّت سذاجة سكان غمارة الجبليين عاملًا في زيادة أتباع «حاميم»، فقد كان سذاجتهم في الاعتقاد يُضرب بها المثل في كل العصور، كما عُرفت المنطقة بالسحر والسحرة، ومن ثم جاءت نبوءة هذا الرجل وغيره في سياق محاولة هؤلاء إبراز قدراتهم الفكرية، وقولبة تعاليم الشريعة الإسلامية وفق طبيعتهم وتقاليدهم وتكوينهم النفسي، وهو ما يبين أنهم لم يرتدوا عن الإسلام، وإنما حاولوا تكييف تعاليمه لكي يتمكنوا من التعايش مع الوافد الجديد.

الرأي نفسه يذهب إليه إبراهيم القادري في كتابه «الإسلام السري في المغرب العربي»، فيذكر أن ديانة حاميم حملت خليطًا من التعاليم الإسلامية والأعراف البربرية، وحاولت تبسيط الشرائع الإسلامية وإعادة ترتيبها بما يتلاءم مع المجتمع الغماري.

وبحسب «القادري»، كانت بقايا الوثنية لا تزال تؤثر في المجتمع المغربي خلال القرون الأولى من دخول الإسلام، خاصة في منطقة غمارة التي اختلطت فيها تعاليم الدين الإسلامي بالمعتقدات الشعبية الموروثة، كما أن الأعمال السحرية القديمة خلَّفت إرثًا بالغ التعقيد، وهو ما ترك أثره على العقل المغربي. ومثل هذا المناخ لا يمكن إلا أن يفرز ثقافة غيبية تكون فيها الغلبة للفكر الخرافي على حساب العقل.

ويرى مولود عشاق، في كتابه «حركة المتنبئين بالمغرب الأقصى خلال العصر الوسيط»، أن ديانة حاميم ديانة مركبة تُمنح أسسها ومرتكزاتها من رواسب الديانة البرغواطية التي سبقتها بنحو قرن، وكذلك جذور الأعراف البربرية وأصول التعاليم الإسلامية.

ويذكر أن «المتتبع لهذه الحركة يلاحظ أنها أكثر الحركات تعرضًا لتحامل الذين استنزلوا عليها اللعنات، وكالوا لها كل أصناف الشتائم والنعوت الذميمة، فلقبوا صاحبها بالمفتري وأحجموا عن التأريخ لها انتقاصًا من شأنها». 

معتقدات وطقوس «حاميم»

ورغم اعتراف «حاميم» برسالة النبي محمد واحترامه له، لكنه ادَّعى أنه أراد إصلاح الإسلام، كما أصلح النبي محمد التوحيد عند اليهود والنصارى بعد أن شوَّهه هؤلاء، حسبما يذكر الفريد بل في كتابه «الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم».

ومثل صالح أبو طريف مؤسس ديانة برغواطة، وضع «حاميم» قرآنًا باللغة البربرية، أورد أبو عبيد عبد الله البكري في كتابه «المسالك والممالك» بعضه، منها «حُلني من الذنوب يا من يحل البصر ينظر في الدنيا. حلني من الذنوب يا من أخرج موسى من البحر». ومنه «آمنت بحاميم وبأبي خلف – يقصدون أبا حاميم وكذلك كان يُكنى – وآمن رأسي وعقلي وما أكنه صدري، وما أحاط به دمي ولحمي، وآمنت بتانقيت – وهي عمة حاميم – أخت أبي خلف منِّ الله».

وكانت «تانقيت» كاهنة ساحرة، وكان لحاميم أيضًا أخت تسمى دجُّو، وكانت ساحرة كاهنة من أجمل الناس، وكانوا يستغيثون إليها في كل حرب وضيق، وكذلك في أوقات الجدب، ويزعمون أنها كانت تجدي نفعًا.

وذكر عبد الرحمن محمد بن خلدون في «تاريخ ابن خلدون في أيام العرب والعجم البربر»، أن السحر كان لا يزال في عصره، أي في القرن الرابع عشر الميلادي (الثامن الهجري)، منتشرًا رائجًا في غمارة، وكانت تمارسه النساء العواتق، وكن يقدرن على استجلاب روحانية هذا الكوكب أو ذاك. ويستخلص الفريد بل من ذلك أن حاميم عاش في وسط ملائم جدًّا بفضل من أحاطوا به وبفضل شهرته الشخصية، كي يؤثر في سذاجة اعتقاد بني قومه وإقناعهم بصدق رسالته.

على كلٍّ، وبحسب الفريد بل، أسقط حاميم في ديانته الطهر والوضوء قبل الصلاة. ومن بين الصلوات الخمس التي افترضها الإسلام لم يُبقِ حاميم إلا اثنتين، هما صلاتا الصبح والمغرب، وأمر أتباعه بأن يكون سجودهم في الصلاة على بطون أكُفهم التي تكون تحت وجوههم.

أما عن الصوم، فقد أسقط عنهم صوم سبعة وعشرين يومًا من شهر رمضان، وأبقى فرض صوم الثلاثة الأيام الأخيرة من رمضان، على أن يفطروا في اليوم الرابع، وجعل عيدهم في الثاني من الفطر.

وفي مقابل ذلك «فرض عليهم صوم يوم الخميس كله، وصوم يوم الأربعاء إلى الظهر، فمن أكل فيها غُرم خمسة أثوار لحاميم»، كما يذكر البكري في كتابه المذكور.

غير أن ابن أبي الزرع يورد في كتابه «روض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس» أخبارًا مخالفة، فيقول إن حاميم فرض على أتباعه «صوم الاثنين وصوم الخميس إلى الظهر وصوم الجمعة، وصوم عشرة أيام من رمضان ويومين من شوال، ومن أفطر في يوم الخميس عمدًا فكفارته أن يتصدق بثلاثة أثوار، ومن أفطر يوم الاثنين فكفارته أن يتصدق بثورين».

وفيما يتعلق بالزكاة، أورد البكري وابن أبي الزرع أخبارًا غامضة جدًّا، حيث يذكران فقط أن حاميم فرض على أتباعه الزكاة العشر من كل شيء، دون تحديد هل العشر من الدخل أو من رأس المال، وهل هناك حد للإعفاء كما في الإسلام.

وبحسب الفريد بل في كتابه، أسقط حاميم عن المؤمنين به الحج، ولم يضع فرضًا آخر مكانه.

وفي ميدان تحريم الأطعمة، أمر ألا يؤكل السمك إلا بتأدية زكاة، أي بذبح شرعي، وحرَّم عليهم أكل البيض، وأكل الرأس من كل حيوان، وهذه الأنواع من تحريم الأطعمة تتفق كثيرًا مع ما شرعه صالح بن طريف.

وبينما يحرم الإسلام لحم الخنزير، أحل حاميم لأتباعه «أكل الأنثى من الخنزير، وقال إنما حرم قرآن محمد الخنزير الذكر».

نهاية حاميم

كما اتفقت المصادر التاريخية على أن سنة 313هـ / 925م هي سنة ظهور حاميم وادعائه النبوة، ما عدا صاحب «مفاخر البربر» وهو كاتب مجهول، والذي ذكر سنة 310هـ/ 922م، اتفقت أيضًا في سنة وفاته فحددتها بسنة 315هـ/ 927م، لكنها اختلفت حول من قتل حاميم، فمؤلف «الاستبصار في عجائب الأمصار»، وهو مجهول، وصاحب مفاخر البربر وابن أبي زرع يقولون إن الخليفة الأموي في الأندلس عبد الرحمن الناصر بعث إليه جيشًا فقبض عليه وقتله وصُلب بقصر مصمودة، وهو حصن كبير على ضفة البحر كانت تُنشأ به المراكب، وأُرسل برأسه إلى قرطبة في الأندلس.

أما محمد بن عذارى المراكشي في كتابه «البيان المغرب في أخبار المغرب والأندلس» والبكري وابن خلدون في كتابيهما المذكورين آنفًا، فيقولون إن حاميم قُتل بمنطقة مصمودة على الساحل بجوار طنجة سنة 315هـ/927م.

ويذكر «زاوي» في دراسته المذكورة آنفًا أنه يمكن التوفيق والجمع بين الروايتين بالقول بوجود بعض قبائل مصمودة التي كانت على الإسلام الصحيح، وكانت موالية للأمويين في الأندلس إبان حكم عبد الرحمن الناصر، وأن هذه القبائل هي التي قتلت حاميم بمساعدة من الأمير الأموي آنذاك.

وبحسب «زاوي»، لم يُقدر لحاميم أن يعيش متنبيًا إلا عامين فقط، ولم يستطع أن يصنع لنفسه ولقبيلته أمجادًا يجعلها على الأقل تنافس نظيرتها في الجنوب برغواطة، وقد يرجع ذلك لافتقاد حاميم القوة العسكرية الكافية، ولقرب بلاده من الأندلس التي كان حاكمها عبد الرحمن الناصر أميرًا أولًا ثم صار الخليفة فيما بعد من أقوى حكام دولة بني أمية الأندلسيين طيلة تاريخه، ما حال دون ظهور وانتشار هذه الدعوى في بلاد المغرب.

تأثيرات ما بعد «حاميم»

بيد أن «القادري» يلفت في كتابه المذكور إلى أنه رغم أن المدة لم تطل بنبوءة حاميم، إلا أنها خلَّفت أثرًا نسبيًّا على المجتمع الغماري، وتمثل ذلك في التفاف عدد كبير من جماهير غمارة حول المتنبئ والإيمان بنبوته، وهي مسألة أقرت بها المصادر، ولو أنها عُزيت ذلك إلى جهلهم، كما تتجسد قوة تأثير هذا المتنبئ في نسبة جبل غمارة إليه، حيث سُمِّي بـ«جبل حاميم»، وظل يحمل هذا الاسم لمدة طويلة من الدهر.

ومن المظاهر الأخرى التي تعكس هذا التأثير استمرار نفوذ حاميم مجسدًا في أبنائه، والذين أصبحوا محط احترام وتقدير أهالي غمارة، كما يشهد بذلك المؤرخون.

كما تبدو بصماته واضحة في المجتمع الغماري من خلال ملاحظة استمرار ظاهرة ادعاء النبوة بعد رحيله، ما يؤكد قوة نبوة حاميم ونفوذها الروحي، فعلى الرغم من أن أتباعه رجعوا إلى الإسلام، فإن ابن خلدون ذكر اسم متنبئ آخر هو عاصم بن جميل اليزدجومي الذي لم يزودنا عنه بمعلومات، واكتفى بالقول بأن له «أخبارًا مأثورة».